لا أستطيع أن أحصي الحوارات التي دارت منذ انطلاق ثورات
الربيع العربي، بل من قبلها، حول الثورة والإصلاح والتغيير والحل المتاح والقوى
الدولية ومخاوف النجاح والفشل... إلخ! لكن الخيط الذي أستطيع تَبَيُّنَه بوضوح هو
وجود جمهرة من النخبة الإسلامية التي تمارس دائما نوعا من الفرار من الأسئلة
الخطيرة المطروحة بقوة.
(1)
قبل الثورة في مصر كانت فكرة حصول ثورة أو تغيير أشبه
بالمستحيل لدى جموع النخبة الإسلامية من المشايخ والعلماء والمنتسبين إلى الحركة
الإسلامية، ومع هذه الاستحالة عندهم فإن مجالسهم تفر دائما من سؤال: ما الحل؟ ما
الحل بعد الانغلاق التام للمسار السياسي الإصلاحي، وقدرة السلطة على عرقلة وتشويه
وتوظيف واختراق المسار الدعوي؟
عند هذا السؤال تسمع مصمصة الشفاه، التأسف، الحوقلة، الرجاء
في الله (بمعنى أن ينزل نصر من السماء، لا بمعنى أن نعمل ونحن نرجو الله).
(2)
فيما بعد الثورة كانت نفس هذه المجالس تناقش كل الأمور
تقريبا، إلا أن يُطْرَح فيها الأسئلة المهمة الجادة التي يترتب عليها العمل، فلم
يحدث على حد ما أعلم أن انعقد مجلس طُرِح فيه الحديث عن الخطر القادم الذي هو خطر
انقلاب عسكري على الرئيس مرسي –فك الله أسره- وإذا حاول أحدٌ من الشباب وضع هذا
الموضوع للنقاش، تبدأ المراوغات وحديث التفاؤل والتشاؤم، والحيود عن الموضوع، مع
ميل شديد نحو حديث الطمأنينة ورصد مؤشرات الاستقرار.
أتذكر أنني بعد عدد من النقاشات، كتبتُ هذا المقال (بتاريخ 13
مارس 2013م. أي: قبل الانقلاب بنحو أربعة أشهر)، وفيه:
"خلاصة هذا المقال طلب الفتوى في هذه النازلة:
1. ما حكم الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب شعبيا؟
2. وما طرق مواجهته شرعا إذا كان متترسا بالجنود
-البسطاء- وبالسلاح؟
3. وماذا إذا غلب على الظن أن هذا الانقلاب بدعم من
طوائف علمانية (تعادي الشريعة وترفض الحكم الإسلامي عن عقيدة) وبإذن من أعداء
الأمة: اليهود والنصارى؟
4. وماذا لو أضفنا إلى هذا خبرتنا الحديثة مع الأنظمة
العسكرية عبر ستين سنة والتي رأينا آثارها في طول وعرض بلاد العرب والمسلمين؟
الإجابة على هذه الأسئلة فقهيا ستمثل:
1. الحد الأدنى والإطار العام والخطوط الحمر التي يضعها
المسلمون لأنفسهم في بناء النظام السياسي، وهل يقبلون مرة أخرى بإمارات التغلب في
زمن تيسر فيه اختيار الحاكم ولم تعد ثنائية (التغلب أو الفتنة) قائمة.
2. والأهم من ذلك أنه سيمثل لحظة اليقظة الأخيرة بدل أن
تُعاد طرح هذه الأشئلة وقت وقوع الكارثة حيث سيختلفون ويتنازعون وتعميهم حسابات
اللحظة القريبة ورسائل الغرف المغلقة العاجلة عن المصلحة الكبرى. أي أن
الإجابة على هذه الأسئلة ستوضح الموقف العملي قبل أن يأتي تخبط آخر كتخبطهم في
لحظة الثورة.. وهو التخبط الذي أنتج تلك الفوضى المريعة في المشهد السياسي
الإسلامي.
وأما تجنب هذه الأسئلة وعدم مناقشتها قبل وقوعها يعني:
1. غفلة كارثية
2. هدر فقهي ونسيان الأولويات
3. أو خوف من مجرد التفكير.. وهو ما إن تحقق فلا يليق
بمن هذا حاله أن يوضع في جملة قادة الأمة ونخبتها.
فإذا وقعت الواقعة، فاعلموا أن "المؤمن" هو من
"لا يلدغ من جحر واحد مرتين"! (انتهى)
وها قد وقعت الواقعة، وعلى حد ما أعلم فإنه لم يُثمر
شيئا، وفوجئت الحالة الإسلامية بالانقلاب بعد حصوله، واضطربوا في تكييفه والتعامل
معه أيضا.
(3)
يحدث هذه الأيام حوار شبيه بذات هذه الحوارات، وقد بدأت
مع انتفاضة المدن السودانية، وقد شهدتُ حوارا في مجموعة بين عدد من المشايخ وطلبة
العلم ونحوهم في هذه المسألة، وقد جرى الاختلاف المعهود بين من لا يجيز مثل هذه
الانتفاضة لأنه يترتب عليها من المفاسد أضعاف ما يترتب عليها من المصالح، وبعضهم
لا يجيزها لخصوصية حال السودان وحال عمر البشير ويرى أنه ليس كغيره من الطغاة وأن
له من الدين حظا وأنه لا بديل له إلا من هو أسوأ منه، وبعضهم، وبعضهم لا يحري
رأيا.
وفي محاولة من أحدهم لدفع الحديث نحو المستقبل وتكوين
رؤية عامة بدلا من أن تتكرر نفس المفاجأة والأسئلة عند كل نازلة، طُرِحَت هذه
الأسئلة، لكن حصل عندها نفس السلوك من المراوغة والتهرب والسكوت، قال السائل:
1. هل رحل حاكم مستبد دموي بالسلمية؟ أم أن دمار الأوطان
أهون عليه من ترك عرشه؟
2. هل رحل محتل مهيمن على بلد
صنع نظامها واحتجن ثرواتها بأي وسيلة غير المقاومة المسلحة العنيفة والمريرة
والطويلة؟
3. لئن فرضنا (جدلا) أن ثمة
حاكم مستبد رحل بمجرد السلمية، أو أن ثمة محتل رحل بمجرد السلمية.. فكم نسبة هذه
الحالات من التاريخ؟ هل هي الشذوذ النادر الذي لا حكم له أم هو الأصل المضطرد الذي
ينبغي أن نعتمد عليه؟
4. ثم.. هل حالة بلادنا العربية
وأنظمتها المعروفة التي هي صنيعة الاحتلال الأجنبي والتي ينزل الاحتلال ليدافع
عنها إن أخفقت بنفسها، هل هذه الحالة ينطبق عليها الرحيل بالسلمية (إن فرضنا أن
هذا حدث في مكان ما وزمان ما) أم الحالة الأخرى؟
5. ما هو السبيل الذي ينبغي أن نفكر له ونخطط له كي
نتأهل له، ونؤهل له الناس ونقودهم إليه.
6. ثم ما هو السبيل إن لم
يسمحوا لنا بالوصول السلمي؟! هل نجلس بانتظار سماحهم لنا أم أن هناك طريقا أخرى؟
7. إذا قيل نجحت تركيا وماليزيا بالتغيير السلمي من داخل
النظام.. أليس في هذا بنفسه دليل الندرة على من استطاعوا تحقيق تغيير سلمي؟.. ثم
هل نستطيع بعدما حدث في الانقلاب التركي أن نجعل نموذج تركيا مندرجا ضمن التغيير
السلمي أم أن محاولة الانقلاب والتصدي لها (بالعنف المسلح) دليل على أن السلمية لم
تكف وحدها حتى في النموذج التركي؟
8. أليس العدو يقرأ التجارب كما نقرؤها نحن، هل العدو
الذي انخدع بطريقة أردوغان فسمح له بالوصول مستعد لينخدع مرة أخرى إذا قلنا له:
سنفعل مثلما فعل أردوغان؟! أليس قد حاول مثل هذا الغنوشي ومرسي ثم لم يُسمح لهما
بالاستمرار؟
9. هل الحساب الصحيح للمصالح
والمفاسد هو ما يقتصر على هذه اللحظة وهذا المكان؟ أم الأصل أنه يمتد للنظر في
العواقب المتعلقة باستمرار وبقاء هذه النظم التابعة للغرب وتحكمها في بلادنا والذي
يعود على الأمة بحرب الدين ونكبة الدنيا؟ ماذا لو فضَّل أردوغان حقن دماء شعبه
ليلة الانقلاب.. ماذا كان سيحدث في العالم الإسلامي كله؟.. الرجل ضحى ببضعة مئات
وبقي الملايين محفوظين من ضياع الدين والدنيا. ثم ماذا لو فضَّل الإخوان حسم
المواجهة مع عبد الناصر وهو ضعيف.. ما الثمن الذي كان سيُدفع وقتها؟ وهل يقارب
الثمن المدفوع عبر ستين سنة من استمرار حكم العسكر في مصر وفي العالم الإسلامي
كله؟
10. هل تحررت أمة في الدنيا وامتلكت قرارها بغير ثمن
فادح رهيب خسرت فيه ملايين الضحايا قبل أن تصل إلى ما هي فيه من التمكين؟
11. حيث لن يكون ممكنا توقع حركة
الشعوب ومتى تنتفض (لحظة اندلاع الثورة ما زالت حتى الآن تحير علماء الاجتماع) ولن
يكون ممكنا السيطرة عليهم إذا انتفضوا وإرجاعهم بمجرد النداءات إلى البيوت (فهذه
حالة فوق التحكم بطبيعتها) فلا مناص من امتطاء صهوة الثورة وإعادة توجيهها في
المسار الصحيح.. وهنا يتصارع الفاعلون الأقوياء على امتطاء هذه الصهوة وتوجيهها،
وأذكاهم وأقواهم هو من يغلب.. فماذا ينبغي أن تكون سياسة الإسلاميين في الإعداد
للحظة الثورة؟
12. هل الحسبة التي نقيسها بالمصالح والمفاسد هي حسبة سفك
الدماء مقابل حقنها؟ أم هي على الحقيقة بين سفك الدماء على طريقة الأندلس وبورما
وإفريقيا الوسطى والبلقان وبين سفكها في جهاد موصل إلى التحرر؟
مثل هذه الأسئلة لا تجد حتى الآن حوارا حقيقا ونقاشا
جادا ومعمقا من أهل الحل والعقد في هذه الأمة، ولو أنهم اتفقوا على نقاشها لأثمروا
ثمارا عظيمة، حتى لو وقع بينهم خلاف في فروع وجزئيات، لكن اتفاقهم في الأصول
والكليات سيعصم كثيرا من الناس وسيعدل كثيرا من المسارات. وإن تَخَلِّي العلماء عن
هذه الأمور سيتركها لا محالة للجُهَّال والمتحمسين وهؤلاء هم من ينشأ عنهم الغلو،
ولا يُلام الذي نزع إلى الغلو ما دامت الساحة فارغة من علماء يؤصلون القضايا التي
تحتاجها الأمة ويتحمس إليها المخلصون من أبنائها.
(4)
قبل كتابة هذه الأسطر بساعات شهدت مجلسا فيه بعض من هذه
النخبة الإسلامية، وكان صاحب المحاضرة رجل خبير بالوضع الأوروبي لطول مقامه هناك،
وأحسبه رجلا فاضلا. وجرى حديث طويل ومفصل
عن التغيرات التي تحدث في أوروبا، والمشكلات التي تظهر وارتفاع شأن التيارات
اليمينية واليسارية المتطرفة، وانهيار التماسك المجتمعي الأوروبي وتوتر العلاقات
مع الأمريكان ونمو الشبح الروسي وأمور أخرى.. وأمور أخرى!
وعلى كثرة وأهمية ما
طُرِح من قضايا، إلا أن السؤال الخفي في حديث المتكلم كان كيف ننقذ أوروبا من هذا الخطر، وهو سؤال نطق
عنه لسان الحال لا المقال. وقد أحببت أن نزداد في المصارحة فسألته: أرى أنك تتحدث
كمواطن أوروبي، ويمكنني أن أفهم هذا، لكن إذا وسَّعنا الصورة: أليس كل ضعف ينزل
بأوروبا سيكون في صالحنا كأمة؟ على الأقل من جهة تخفيف الضغط عنا.
أجابني بما يخالفني،
وكانت مختصر إجابته كالآتي: من قال بأن أي ضعف ينزل بأوروبا سيكون في صالحنا
بالضرورة؟ قد يكون العكس.. حتى إني أسأل أحيانا: هل سقوط نظام السيسي في مصر في
مصلحة مصر؟ لقد دعا بعض إخواننا بسقوطه فترددت في أن أقول: آمين. إن أوروبا فيها
ما يتغير نحو الإسلام، وهناك بعض من المسلمين يصلون تدريجيا إلى مفاصل صناعة
القرار.
كانت خلاصة إجابته، التي
فهمتها من مجمل كلامه: لا تتمنوا شرا لأوروبا فإنها قد تحمل المشروع الإسلامي يوما
ما.
ومع أني تعودت على كثير
من الصدمات، إلا أني صدمت أيضا، كنتُ أحسب النموذج الأوروبي آخذ في الذبول من بعد
ما حدث في موجة الثورات العربية، وأن الدعاة الذين حلموا يوما بأن يكون فتح روما
بالبيان واللسان قد عادوا أدراجهم مع ضربات الواقع، ولعلي أتفهمه أكثر مما ألومه،
ذلك أن الرجل الذي كان مشروعه نشر الإسلام في أوروبا لعقود والدفاع عن حقوق
المسلمين فيها ليتعذر عليه أن يرى خلاف ما قضى فيه عمره. وإني أكرر في هذا أني لا
أتهم الرجل بشيء وأحسبه فاضلا عاملا للدين..
لكن الخيط الناظم في سائر
هذه الحوارات والنقاشات، أن الفرار من الأسئلة الجوهرية في أي نقاش يُفضي إلى
الفوضى والتخبط حين تقع الواقعة، ثم تقع الواقعة فيُفضي الفرار من نقاش أسئلتها
إلى واقعة أخرى.. وهكذا نظل نتدرج في الحال، حتى نفقد قدرتنا على الأسئلة والإجابة
لنبقى مجرد رد فعل، ثم ننتقل من رد الفعل إلى تبرير الواقع، ثم من تبريره إلى
تحسينه وترويجه باعتباره أحسن المتاح إن لم يكن باعتباره الغاية المنشودة!
الخيط الناظم هو الرغبة
في تغيير ينقل الأمة من الاستضعاف إلى التمكين بغير تكاليف، بالدعوة، بالسلمية،
بالدبلوماسية، بالإقناع، بإسلام صناع القرار.. مهما كانت سنة التغيير تخالف وتناقض
هذه الأماني! لذلك يحدث الفرار من هذه الأسئلة لأنها أسئلة ينبني عليها تكاليف!
وصدق الله تعالى إذ يقول:
(قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تُمَتَّعون إلا قليلا).
نشر في مجلة كلمة حق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق