السبت، يناير 05، 2019

كلمة في أدب السجون

 

خلال الأيام القليلة الماضية رأيت أكثر من منشور يتحدث عن "أدب السجون"، سواء أكان حكاية في طابع روائي أو مذكرات أو غير ذلك..

 كنتُ قد ذكرتُ غير مرة أني لست من أهل الروايات بل ولا أرشحها عادة، لأن الرواية خيال محكي، وهو خيال محكوم بأفكار المؤلف وصياغته وطريقته في توصيل فكرته، إلا أن المرحلة الوسيطة بين التاريخ والرواية والتي قد أهتم بها وقد أرشحها أيضا هي: المذكرات الشخصية أو الروايات التاريخية، والمذكرات مقدمة على الرواية في أنها أقرب للواقع.

 أدب السجون من هذا الصنف الذي أهتم به وأرشحه أيضا.. وأتمنى لو أن الشباب عامة ينفقون أوقاتهم وطاقاتهم في قراءة ما كان أقرب إلى الحقيقة منه إلى الخيال والتأليف!

 فمن هاهنا فإن أدب السجون ثروة يجمع قارئها بين الاستفادة التاريخية وبين المتعة الأدبية.. إن صحَّ أن نطلق لفظ "المتعة" على مثل هذا النوع من الأدب.

 لكن الفائدة الأخرى، وهي هنا أهم، أن قراءة أدب السجون وما يحدث فيه يفتح الذهن فعلا على أمور من علوم النفس والاجتماع والتاريخ يصعب للغاية استيعابها من قراءة الكتب المتخصصة في هذه العلوم!

 في أدب السجون ترى صورة حقيقية لتحول البشر إلى شيء لا وصف له إلا قول الله تعالى (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله، وما الله بغافل عما تعملون)

 وفيه ترى صورة حقيقية لنزوع البشر ليكون إلها منفردا بالتسلط والتحكم والهيمنة، وهو مع ذلك يخلو تماما من رحمة الإله وعلمه وحكمته وعنايته، ليس له من نزعة التأله هذه إلا أن يقول (أنا أحيي وأميت)، وهناك حوادث حقيقية لسجانين كانوا يأمرون المساجين بالركوع والسجود لهم وشرب أبوالهم وما هو أقسى من ذلك مما أتحاشي كتابته.

 وفيه ترى صورة حقيقية لنفس هذا البشر الذي قسا قلبه، والذي نزع إلى الألوهية، وهو يتحول في التو واللحظة إلى العبد الذليل الخانع المطيع للرتبة العليا إذا حضرت!.. فيتمثل لك المشهد الشيطاني للنفس المريضة بالكبر والذل في نفس الوقت واللحظة!

 وفيه ترى صورة حقيقية لجنود تحولوا إلى ماكينات تعذيب، كأنها منضبطة على ممارسة التعذيب والإذلال، تعمل بكفاءة ورتابة وآلية.. بشر لم يعد لهم قلب أو مشاعر أو إحساس.. هذه صورة متجسدة لجنود فرعون كما حكى عنهم القرآن الكريم.. أولئك الجنود الذين كانوا يذهبون لقتل الوليد الذكر دون تردد، وهم الذين جمعوا الناس لمشاهدة السحرة أمام موسى، ثم شاهدوا المعجزة التي أسلم لها السحرة، ثم أمرهم فرعون فعذبوا السحرة حتى الموت، وهم أنفسهم الذين انشق أمامهم البحر ومع ذلك اتبعوا أمر فرعون حتى غرقوا معه.. بشر قد نُزِعت منهم البشرية والعقل والقلب والروح.. فأولئك من يُفهم كيف أن العدل هو دخولهم النار، وأن لا علاج لهم إلا هذه النار!

 وفيه ترى صورة الإنسان حين يصيبه الذل ويأكله الاستضعاف ويستنزفه القهر ويتحكم به من لا يرحم.. مهما كان المرء قويا فيما مضى أو ذا كرامة في أهله وقومه، مهما كان مرموقا نبيلا، مهما كان عنيدا.. مع استثناءات نادرة يجري حكم المصيبة الشديدة على البشر فيحيلهم نوعا آخر من البشر: أشباحا متهالكة ضعيفة تود لو تختفي في نفسها وتختبئ في داخلها!.. يفعل القهر في الإنسان ما لا يُتَصَوَّر!

 وفيه ترى تطوير البشر لقدراتهم ومواهبهم وحواسهم، وكيف يستطيع السجين أن يحفظ الكلام من أول مرة، واستطاع بعضهم حفظ القرآن كاملا برواياته، واستطاع بعضهم حفظ قصائد ألفها زميل له وإن بلغت مئات الأبيات، ويستطيع أحدهم أن يميز روائح مختلطة، وأن ينام في مساحة ضئيلة حتى يحلم بل ويحتلم!

 وفيه ترى الأماني المهدورة المسحوقة، وتيار لا يتوقف من الرؤى والأحلام الذي يتدفق على من لم يكن يحلم بطبعه، ثم يجتهد المؤولون في تأويل ذلك كله بالفرج القريب!

 تلك أمور لا يمكن فهمها من كتب العلوم المتخصصة في النفس والاجتماع والسياسة كما يمكن فهمها من هذه التجارب العملية.. بل إن اللغة الأكاديمية والترتيب المنطقي يمزق الصورة الحقيقية الإنسانية لطبيعة الحياة فيحيلها إلى نظام مرتب صفيق غليظ!

 كثيرا ما أطالع المتحدثين على الفضائين، والكتاب في الصحف، والمفكرين في المجالس النخبوية، حين يتحدث أولئك في أمور السياسة والأزمات فأقول: ترى كم منهم قرأ كتابا أو رواية في أدب السجون؟!

 يبدو هؤلاء في حياتهم المخملية بين المكاتب والصالونات والفنادق والاستوديوهات كأنما لا يعرفون ولا يتوقعون ولا يتصورون أن الحياة أعنف بكثير وأقسى بكثير وأبشع بكثير من حديثهم الناعم الرخو عن التوافق والمصالحة والعدالة الانتقالية والحفاظ على المؤسسات والعسكري الغلبان..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق