الاثنين، يناير 07، 2019

هل انهار الوضع المالي لمصر في العهد العثماني؟


يجب التنبيه بداية إلى أمرٍ لا يُذكر عادة في السجال العربي الدائر حول العهد العثماني، وهو أن العثمانين لم تحركهم أطماع اقتصادية لاحتلال الولايات العربية التي كانت خاضعة في ذلك الوقت للدولة المملوكية، بل إن العثمانيين منذ نشأتهم لم يتحركوا في توسعهم إلى الشرق وإنما إلى الغرب حيث فتحوا البلاد البيزنطية فيما ظلت ولايات الأناضول المسلمة منقسمة بين عدة إمارات شبيهة بعصر ملوك الطوائف، وهو العصر الذي بدأ مع ضعف ثم انهيار دولة سلاجقة الروم.

إلا أن أخطر ما تعرض لهم العثمانيون إنما جاء من الشرق، وابتدأ ذلك منذ العاصفة المغولية التي قادها تيمور لنك وتسببت في انتكاسة كبرى للدولة العثمانية التي كادت وقتها تفتح القسطنطينية فإذا بتيمور لنك يهزم بايزيد الأول سلطان العثمانيين بل يأسره مما عطل فتح القسطنطينة نصف قرن بل وشتَّت الدولة لأكثر من عقد حتى تمكن ابنه محمد الأول من إعادة توحيدها، ثم جاء الخطر الكبير الثاني المتمثل بالصفويين وأولئك الذين اضطر سليم الأول إلى التوسع شرقا لمحاربتهم، وهي الحرب التي تحالف فيها المماليك مع الصفويين فما إن انتصر سليم الأول على الصفويين حتى استدار ليحارب المماليك. وفي أثناء استدارته تلك وجد رسائل من أهل حلب تدعوه فيها لتخليصهم من المماليك، وهي الرسالة المشهورة المحفوظة في الوثائق العثمانية، ومن هنا ابتدأت الحرب التي أسفرت عن التوسع العثماني الكبير وعن نهاية دولة المماليك في مصر والشام والحجاز.

كانت علاقة المماليك مع العثمانيين علاقة صداقة وتحالف أول الأمر، ثم توترت مع دخول دولة المماليك على خط النزاعات في البيت العثماني ثم التحالف مع الصفويين، ومع ذلك شهدت العلاقات تحالفات ضد البرتغاليين الذين كانوا يهددون سواحل البحر الأحمر وخليج عدن، حتى انتهت إلى هذا العداء المستحكم الذي جاء بالعثمانيين إلى الشام ومصر.

والشاهد المقصود أن توسع العثمانيين في الولايات العربية لم تحركه الدوافع الاقتصادية وإنما الدوافع السياسية، وهذا تاريخ ينبغي ذكره أمام حملة الكتابات العربية التي تحاول سحل التاريخ لحساب الصراعات السياسية المعاصرة حتى تصور العثمانيين على أنهم كالجراد المنتشر الذي جاء على الواحات الخضراء المزهرة في الدول العربية فسكنها حتى غادرها يبابا!!

لنأخذ مصر على سبيل المثال..

منذ الفتح الإسلامي عبَّر عمرو بن العاص عن مصر بقوله: "ولاية جامعة تعدل الخلافة"[1]، وكانت مصر قادرة على تمويل حركة الجهاد مع الروم وقت ضعف الخلافة العباسية نفسها كما جرى في الدولة الطولونية والإخشيدية، وكان انضمامها إلى الشام هو ما جعل زوال الحملات الصليبية مسألة وقت في عهد صلاح الدين، وعليها دارت الحملات الصليبية من الخامسة حتى السابعة. وقد كانت القاهرة عاصمة الخلافة الإسلامية فيما قبل العثمانيين، وذلك لمدة ثلاثة قرون منذ اجتياح المغول بغداد وإنهاء الخلافة العباسية في العراق، وبهذا أضيفت إلى مصر المكانة السياسية العظمى فوق ما تتمتع به من موقع جغرافي يجعلها قلب العالم التجاري وما لديها من موارد طبيعية وبشرية غنية، "فعَظُم أمرها، وكثرت شعائر الإسلام فيها، وعَلَتْ السنة، فصارت محل سكن العلماء ومحط الرجال الفضلاء"[2]، فكانت في عصر المماليك "عمود الإسلام وفسطاط الدين"[3].

ومن هنا استفادت الدولة العثمانية بضم مصر ثروات اقتصادية هائلة بما احتوت عليه مصر من موارد طبيعية وكثافة بشرية وموقع جغرافي تتحكم به في طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب، وانفتحت الدولة العثمانية على سواحل البحر الأحمر ومن ورائه خليج عدن والخليج العربي والمحيط الفارسي، وصار شرق المتوسط بحيرة عثمانية خالصة. وكان خراج مصر الذي يُحمل إلى الخزينة العثمانية ثمانية أحمال في كل سنة، واستطاع الوالي خسرو باشا أن يجعله اثنا عشر حملا في إحدى السنوات إلا أن السلطان سليمان القانوني عزله معتقدا أنه لا بد من أن تكون تلك الزيادة ناتجة عن قهر وظلم للرعية[4].

كذلك استفادت الحركة التجارية في مصر من انضوائها تحت السلطنة العثمانية مما "وفر لها وشجعها على إقامة علاقات تجارية قوية مع المراكز التجارية في حوض البحر المتوسط، وبخاصة مع اسطنبول. وتزايد نشاط مصر التجاري في تلك الفترة"[5]، فقد احتلت القاهرة "مركزا محوريا في التجارة العثمانية الداخلية التي ساعد على رواجها حرية تنقل الممتلكات والأشخاص وعدم وجود حدود. وأخيرا ساهم توسع الإمبراطورية إلى أقصى حدود العالم العربي –باستثناء المغرب- وجهود الأسرة الحاكمة وممثليها المحليين، في تنمية الحج للأماكن المقدسة، الأمر الذي استفادت منه القاهرة ودمشق كثيرا؛ إذ كانتا موقعين لتجمع قوافل الحج، ويمكن الاستدلال على نهضة القاهرة الهائلة من نمو المناطق التجارية الرئيسية"[6].

من الطريف الذي ينبغي إثباته أيضا أن الدفاع عن سمعة العثمانيين في حكمهم على البلاد العربية إنما سبق إليه المستشرقون، الذين بدؤوا التنقيب في التاريخ العثماني وقت أن كانت الحالة العربية والتركية تعيشان عصر القومية الطاغية التي لا تسمح ولا تغفر لمن يفكر في الحديث بموضوعية عن العرب أو الأتراك، ولا يمكن اتهام أولئك المستشرقين بطبيعة الحال بالتعصب للعثمانيين، ويمكن أن نضرب مثلا على هذه الدراسات بمؤلفات المستشرق الفرنسي أندريه ريمون ومن أهم أعماله: "المدن العربية الكبرى في العصر العثماني" و"القاهرة: تاريخ حاضرة" و"فصول من التاريخ الاجتماعي للقاهرة العثمانية"، ونيللي حنا التي كتبت عن "تجار القاهرة في العصر العثماني" وعن "مصر العثمانية والتحولات العالمية" وعن "بيوت القاهرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر" وعن "ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية" وعن "قصة القاهرة في 1300 سنة"، وغيرهم مثل مايكل ونتر في كتابه "المجتمع المصري تحت الحكم العثماني" وبيتر جران في كتابه "الجذور الإسلامية للرأسمالية"، ثم تكاثرت الأبحاث فيما بعد في السنوات الأربعين الأخيرة وساهم فيها العديد من المؤرخين العرب، ومن أبرزهم: سيد محمد السيد وعبد الجليل التميمي وعبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم ورؤوف عباس ومحمد عفيفي وهدى جابر وغيرهم.

يفسر المؤرخ المتخصص بالدولة العثمانية محمد شعبان صوان هذا النشاط الاستشراقي في الكشف عن حقيقة التاريخ العثماني بأن ذلك إنما يعود لكون الدولة العثمانية قد انتهت وصارت من صفحات التاريخ، فلقد كان الاستشراق هو المسؤول الأول عن رسم هذه الصورة البشعة الشائهة للدولة العثمانية كجزء من توظيف طاقته العلمية البحثية في خدمة المشروع الاستعماري ضد الدولة العثمانية، ولكن بعد أن قُضِي على الدولة العثمانية وصارت تحفة تاريخية أمكن أن تعمل تلك الطاقة البحثية على دراسة هذه التحفة التاريخية لتقديم صورة أقرب إلى صورتها الحقيقية بعد التحرر من الوظيفة السياسية[7].

ولكن يبدو أن الحالة العربية الآن تُقْدِم على مرحلة قومية جديدة تحاول إدخالنا من جديد في عصر الظلام المعرفي والغيبوبة التاريخية!

نشر في مجلة المجتمع الكويتية، يناير 2019



[1] ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب، تحقيق: د. علي عمر محمد، (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 2004م)، ص220.
[2] السيوطي، حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1 (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1967م)، 2/94.
[3] ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، ط1 (أبو ظبي: المجمع الثقافي، 1423هـ)، 3/28.
[4] فريدون أمجان، سليمان القانوني سلطان البرين والبحرين: حقائق في ضوء المصادر، ترجمة: د. جمال فاروق وأحمد كمال، ط1 (القاهرة: دار النيل، 2014م)، ص79.
[5] نيللي حنا، مصر العثمانية والتحولات العالمية: 1500 - 1800، ترجمة: ، مجدي جرجس، ط1 (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2016م)، ص27، 28.
[6] أندريه ريمون، القاهرة: تاريخ حاضرة، ترجمة: لطيف فرج، ط1 (القاهرة: دار الفكر، 1994)، ص195.
[7] انظر مقدمته لترجمة كتاب: جين هاثاواي وكارل بربير، البلاد العربية في ظل الحكم العثماني: 1516 – 1800م، ترجمة: محمد شعبان صوان، ط1 (الجزائر – بيروت: ابن النديم للنشر – دار الروافد، 2018م)، ص9، 10.

هناك تعليقان (2):

  1. بارك الله فيكم أستاذنا الغالي، وياريت لو تكثر منشوراتك وكتاباتك عن دولة المماليك ،وفترة الناصر محمد وأهم شخصيتها من السلاطين، وطبيعة فرادة الحكم فيها التي تميزت به، ولماذا لم يكن لها نصيب من الغزوات والفتواحات خارج حدود مصر والشام؟

    ردحذف
  2. متي التحرر من القومية

    ردحذف