الجمعة، يناير 06، 2017

هل تجاوز الواقع تراث الفقه السياسي؟

سخر بعض الكُتَّاب من الجدل الذي اشتعل في الساحة الإسلامية عقيب مقتل السفير الروسي في أنقرة، وذلك –برأيه- لأن المسألة على صورتها الحالية لم تُناقَش أصلا في كتب الفقه القديمة لاختلاف ما طرأ من مستجدات هائلة في باب العلاقات الدولية كله، وفي جزئيات البعثات الدبلوماسية ومهماتها.

وفي مقال سابق على صفحات المعهد المصري أقررنا بأن الفقه السياسي يعيش محنة تعددت أسبابها، ومن بينها هذا الانفصال الواقع بين الجماعة العلمية والسلطة السياسية والذي منع الفقه من مواكبة النوازل، إذ الفقه كائن حي ينمو في أجواء الحياة وينكمش ويجمد في أجواء الضغط والإقصاء.

لكن وجود المستجدات والنوازل ليس دافعا لهجر التراث الفقهي بزعم أن الواقع تجاوزه، ولو أخذنا هذه الحجة فطبقناها على الدساتير والقوانين لكان الواجب أن لا تعيش نصوص الدساتير والقوانين إلا أياما أو حتى ساعات، فكل نصٍّ دستوري أو قانوني كُتِب وهو محكوم ضمن الزمان والمكان والخبرة التاريخية لكاتبيه، ومع هذا فإن الأمم تفخر بقدم دساتيرها أو بقلة مرات تعديله، لأن هذا القِدَم دليل قوته واستقراره ودليل قدرتها على أن تستنبط من هذه النصوص القديمة قوانين جديدة تواكب ما يستجد من الأحداث.

وعلى هذا، فلو كان التراث الفقهي كله نصوصا بشرية لكانت الدعوةُ إلى هجره بزعم أن الواقع تجاوزه دعوةً سطحية اختزالية بل ومعبِّرة عن الهزيمة النفسية، فكيف والتراث الفقهي مبنيٌّ على نصوص مقدسة خالدة مطلقة، وهي فوق الزمان والمكان والتجربة التاريخية، لصدورها عن الله تبارك وتعالى وعن نبيه صلى الله عليه وسلم؟!

الواقع أن المحاكم في الشرق والغرب إنما تتعامل مع نصوص القوانين والدساتير بقراءة أقرب إلى ما يوصم الآن بأنه "قراءة سلفية"، ومن المدارس القانونية من يُصِرُّ على هذه القراءة الظاهرية الحرفية لنص القانون والدستور[1]، وفي كل نظام قانوني توجد هيئة "الفتوى" التي تقوم بمهمة معالجة المستجدات والنوازل في ضوء نصوص الدستور والقانون التي كتبها سابقون لم يخطر ببال أحدهم ما وقع من مستجدات. ولهذا فلا يصحُّ بحال الاحتجاج بالواقع ومستحدثاته في سياق الدعوة لهجر التراث الفقهي العريض.

إن مآل هذه الدعوة في النهاية هو حالة سيولة تامة لا ينضبط معها نظام أمة قط، إذ ما من يوم إلا ويأتي بجديد، وما من حادثة إلا وتطرح أسئلة وتستلزم قياسا جديدا.

ثم إن أمرا آخر يجب التنبيه إليه، وهو ما ناقشناه من قبل في سلسلة مقالات على صفحات المعهد المصري[2]، ذلك هو الفارق بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية في تصور النموذج السياسي، فالحضارة الغربية في عملية بحث مستمر عن النموذج السياسي الأمثل، فلا تزال نظريتها السياسية تتغير وتتطور من فلسفة اليونان حتى الحداثة وما بينهما من تيارات واتجاهات عديدة. بينما النظرية السياسية الإسلامية اكتملت في صورتها النظرية من خلال نصوص القرآن والسنة وسنة الخلفاء الراشدين، واكتملت صورتها العملية في نموذج دولة المدينة وفترة الخلافة الراشدة، وقد بُني الفقه السياسي الإسلامي كله على هذين الأمرين: النص وتطبيقاته العملية.

ولذلك يجد المسلم نفسه ملزما بأن يلتزم هذا النموذج ويتحرك في ثوابتها وأصولها، ولا يرى أنه في حلٍّ من تجاوزها والقفز عليها، فلئن كان الغربي يُنزل نصوصا بشرية منزلة الاحترام والتوقير طلبا لنظام مستقر، فكيف بالمسلم الذي التزامه بهذا هو دينٌ فوق كونه حاجة بشرية لتحقيق النظام المستقر.

كذلك فإن فترة دولة المدينة (عشر سنوات) مع فترة الخلافة الراشدة (ثلاثين سنة) والتي مثلت التطبيق العملي للنموذج السياسي والقاعدة الراسخة التي بُنِي عليها الفقه السياسي الإسلامي كله.. هذه الفترة نفسها شهدت العديد من الحوادث والمستجدات، فجرى التعامل معها باجتهاد نابع من النصوص، وأول هذه المستجدات غياب الوحي نفسه بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم. فلئن كان قد أتم الرسالة وبلغ الأمانة، فإنه من تمام هذا البلاغ قوله "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"، وقوله "الخلافة بعدي ثلاثون سنة"، ذلك أن المسلمين كان لا بد لهم من الاقتداء بتجربة بشرية خالصة في السياسة، إذ كان الوحي مصاحبا للنبي يصحح له ويعقب عليه، ومن هنا جاءت قيمة النظر في فقه السياسة لدى الصحابة.

لقد كانت سنوات الجيل الأول من الصحابة شاملة لسنن الدول جميعا: بداية من التأسيس كما في عهد أبي بكر، ومرورا بالنهوض والتطور كما في عهد عمر، وصولا إلى الرخاء كما في عامة عهد عثمان، وانتهاء بالفتنة الداخلية السلمية والمسلحة كما في آخر عهد عثمان وعهد علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، ثم انتهت الخلافة الراشدة وتحولت إلى الملك العضوض بعد الثلاثين سنة، وجاء عصر معاوية ثم عصر ابنه يزيد بنوازل ومسائل سياسية أخرى.

ولذلك فإن مواقف الصحابة من هذه النوازل والأحداث يشكل مجموعها الملامح العامة للفقه السياسي الإسلامي، وتنتج تفاصيلها آراء اجتهادية كثيرة فيها ما اتفقوا عليه، وفيها ما اختلفوا فيه، فنحن نجد اتفاقا عاما في مختلف الأحوال على أمور كحرصهم على سرعة تولية الخليفة، ومفهومهم لأهل الحل والعقد، وكونهم في العاصمة، وعدم انتظار آراء الذين تباعدت بهم الديار جهادا أو غير ذلك.

ولقد جاءت ولاية أبي بكر بنوازل سياسية كمسألة قرشية الخليفة، وتولية الفاضل، وما إن كانت الشورى معلمة أم ملزمة، وغيرها. وجاءت ولاية عمر بمسائل أخرى كترشيح الخليفة السابق، واختلاف الخلفاء في الاجتهاد السياسي، وأبواب في الأموال والأراضي ومعاملة الشعوب المفتوحة وغيرها. وجاءت ولاية عثمان بمسائل أخرى كتعدد المرشحين للخلافة، وعملية الانتخاب، وفقه مواجهة المعارضة السلمية والمتمردة، وجاءت ولاية علي بمسائل أخرى كاختيار الخليفة في الفتنة، وتحويل العاصمة، وتمرد الوالي على الخليفة، وانبعاث طائفة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير إذن الإمام. ثم جاءت ولاية معاوية بمسائل كالتنازل عن الخلافة وولاية المفضول في وجود الفاضل والعهد بالولاية من بعده وغيرها، وجاءت ولاية يزيد بن معاوية بمسائل أخرى كالتوريث في الخلافة، والامتناع عن البيعة لخليفتين، ثم رفض البيعة أو الخروج عليه، وتقديرهم لمسائل الضرر ومراتبه في شأن الخلافة.

تلك هي المراحل التي عايشها جيل الصحابة، كجيلٍ، في شأن السياسة مما يُعرف فيه تصورهم وآراؤهم في ما كان على عهدهم من الأحداث، ثم بنى الفقهاء على هذا أصولا ثم فروعا في أبواب الإمامة والإمارة والولاية والدماء والحدود، وكانت لهم في نوازل عصورهم اجتهادات هائلة، فنحن نتحدث عن تراث فقهي شمل رقعة جغرافية بلغت نصف العالم المعروف وقتها وشملت مدى زمانيا شارف على الألف وخمسمائة عام. فمجرد التفكير في تجاوز هذا كله هو أمر خلاف ضرورات العقل فضلا عن كونه مخالفة للدين نفسه.

نعم، لا بد للمتخصصين في السياسة والدبلوماسية والعلاقات الدولية أن يكشفوا للفقهاء ما يغيب عنهم في أحوال السياسة وما استجدَّ فيها، لكن مدار الاجتهاد سيكون للفقهاء لما لديهم من علم بالشرع: نصوصا واجتهادات. وهذه العلاقة أشبه بتلك التي بين الطبيب المعالج وطبيب التحاليل، لا يمكن للأول تشخيص المرض إلا بالاستعانة بالثاني، ولا ينفرد الثاني بوصف العلاج لكونه يُنتج التحليل.


هناك تعليق واحد:

  1. مقال مميز
    بارك الله فيك وزادك من فضله.

    ردحذف