لا
زلنا في الكتاب الخامس من سلسلة "مكتبة الثائر المصري"،
وهو كتاب "كل رجال الباشا" الذي بدأناه في المقال الماضي،
والذي يحكي جانبا مغمورا من تاريخ محمد علي باشا وجيشه الذي تأسس بإذلال المصريين
واستعبادهم تحقيقا لمجد شخصي للباشا وأسرته، وهي الأسرة التي حافظ الاحتلال على
بقائها ونزل بجيوشه وجنوده للحفاظ على نظامها من السقوط أمام ثورة عرابي، ولم
ينسحب المحتل إلا حين نقل السلطة "بسلاسة" منها إلى العسكر.
[راجع خلاصات الكتب
السابقة هنـــــــــا]
خلاصات الكتاب:
8. مات أكثر السودانيين
الذين جمعتهم حملة الباشا ليكونوا جنودا لظروف النقل العصيبة ولم يبق من عشرين
ألفا سيقوا إلا ثلاثة آلاف فقط، وكذلك فتكت الأمراض بالجنود الألبان والترك الذين
ظلوا في السودان وبدؤوا في التمرد، فعندئذ قرر محمد علي تجنيد المصريين (الذين كان
ينظر إليهم كبهائم ومتخلفين)، وحين وُضِع تصميم الجيش أصر الباشا ألا تتجاوز رتبة
المصرية البلوكباشي أي العريف(قائد 25 جنديا)، وكان يعارض زيادة رواتب الجنود
ويصرف الزيادة لصف الضابط والضباط فقط.
9. اجتاحت موجة التجنيد
البلاد، وبعد عام كان ثلاثون ألفا من المصريين يتدربون كجنود، وقبل أن يكملوا
تدريبهم أرسل الباشا فرقة منهم لمواجهة الوهابيين فاستطاعت فرقة من 2500 جندي
هزيمة جيش وهابي يبلغ عشرة أضعاف عددهم، وفي أول عرض عسكري للقوات المصرية اصطحب
الباشا معه القنصل الإنجليزي والفرنسي وأعجب الجميع بكفاءة المجندين الذين نظموا
عرض حرب مصغرة.
10. ظهرت كفاءة القوات
أيضا حين فجَّر بعض الجنود الألبان مخزنا للبارود في القلعة فقُتِل أربعة آلاف،
فأبدت أورطة من الجنود المصريين كفاءة في احتواء الوضع بسرعة. وكان أهم اختبار
لنجاح الباشا في تجنيد المصريين هو ما فعله أولئك الجنود في إخماد ثورة بالصعيد
(إبريل 1824) حيث قتل الجنود –وهم من مديريات الصعيد أيضا- أربعة آلاف لإخماد
الثورة، ورقَّى الباشا جنديا قتل أباه في المعارك، وأعدم 45 ضابطا رميا بالرصاص
بتهمة الانشقاق عن الجيش والانضمام للثورة.
11. بعد هذه الاختبارات
الثلاث (حرب الوهابيين، السيطرة على حريق الانفجار، إخماد ثورة الصعيد) ثبت للباشا
أنه نجح في صناعة جيش على النمط الحديث لا ولاء له إلا للباشا، وعلى استعداد أن
يقتل أهله عند الضرورة، فاستكثر من التجنيد حتى بلغ عدد المجندين 130 ألفا بنسبة
2.6% من عدد السكان، وهي نسبة مرتفعة للغاية تسببت في تدمير العائلات الريفية
والحياة القروية.
12. حاول الباشا أن يرغب
المصريين في التجنيد، وأرسل لابنه أن يستعمل بعض الوُعَّاظ والفقهاء ليقنعوا
الفلاحين بأن الجندية ليست كالسخرة وتذكيرهم بأن الحملة الفرنسية استطاعت تكوين
جيش من الأقباط لخدمة عقيدتهم، ولا شك أن المسلمين أقوى إيمانا وحماسا للدفاع عن
دينهم من الأقباط.
13. كان واقع التجنيد أن
تنزل الفرقة العسكرية على القرية فتقبض عشوائيا على أكبر عدد ممكن من الرجال بلا
معايير تتعلق بالسنّ أو الصحة أو الحالة الأسرية، ثم يربط كل ستة أو ثمانية منهم
بحبل حول أعناقهم ثم يُساقون إلى مركز التدريب تاركين خلفهم زوجات وأمهات وأطفال
محطمين يولولون ويصرخون بلا أمل، وتاركين أرضا ستبور!
14. لم تفلح كل نداءات
"الدفاع عن العقيدة" ضد الفرس أو الروس أو اليونانيين، كما يسوِّق
الباشا، في دفع أحد إلى التطوع، وربما تسير فصيلة الجند بكل بهرجها من رشيد إلى
أسوان بغير أن يستجيب لها متطوع واحد، بل على العكس قاوم المصريون التجنيد بكل
الطرق الممكنة.
15. أول طرق المقاومة كان
التمرد العام، وقد حدثت ثورتان، في الصعيد حيث ثار 30 ألف شخص هاجموا الموظفين
ورفضوا دفع الضرائب وأسروا بعض المديرين، وفي المنوفية اندلعت انتفاضة أقل حجما
لكنها كانت من الخطورة بحيث ذهب إليها محمد علي بنفسه على رأس حرس قصره وستة مدافع
لإخمادها.
16. وقاوم المصريون
التجنيد بالهرب، فقد كانت أنباء فرقة التجنيد تنتشر كالنار في الهشيم، فما إن
تقترب من قرية حتى تنطلق موجة من الهاربين يتركون قراهم ومنازلهم في حال مزرية،
وعند أواخر الثلاثينات بلغ الحال حد العثور على قرى مهجورة بأكملها. لكن الباشا
كلف جهاز الدولة بمطاردة هؤلاء بداية من مشايخ القرى والعربان وحتى مشايخ الحارات
في القاهرة بالعثور على هؤلاء "المُتَسَحِّبين" وإعادتهم إلى قراهم، غير
أن العدد كان ضخما، وتواطأ بعض مشايخ القرى مع الفلاحين أو قبلوا منهم الرشاوى
مقابل عدم تسليمهم، فأصدر الباشا قانونا يعاقب شيخ القرية بالضرب 200 جلدة
بالكرباج إن فعل هذا، ويعاقب مأمور المركز إن فعل هذا بالضرب 100 فلقة مع سجنه مدى
الحياة، ثم صدر قانون ينص على أنه إذا لم يُعْثَر على "المُتَسَحِّب"
بعد أربعة أيام ولم يُبلغ عنه شيخ القرية فإنه يعد بهذا شريكا له فيُعاقب بالقتل
صلبا أو شنقا!
17. وحين اكتشف المصريون
عدم جدوى التمرد أو الفرار لجأ بعضهم إلى تشويه نفسه ليصير غير صالح للتجنيد، كأن
يبتر إصبع السبابة أو يخلع أسنانه الأمامية أو يضع سم الفئران في عينيه ليُصاب
بالعمى وهو يرجو أن يكون العمى مؤقتا، فقرر الباشا أن يُعاقب من يثبت عليه هذا
بالسجن مدى الحياة وبتجنيد أقاربهم بدلا منهم.
18. كذلك فقد كان بعضهم
يقاوم التجنيد بالاشتباك مع الضباط، وإن أفلتوا من فرقة تجنيد فلا يلبث أن يقعوا
في فخ فرقة أخرى، وإن فعلوا فهم لا يُعاقبون بالسجن كما يأملون بل بإرسالهم إلى
الجيش. وحاول بعضهم الفرار إما في الطريق إلى مراكز التجنيد أو من معسكرات
التدريب، وكان الفرار هو المشكلة الأزلية التي عانت منها السلطة إذ كثيرا ما
يُكتشف أن عدد من وصلوا لمراكز التدريب أقل من عدد الذين جُمِعوا، فكان الباشا
يُكلف المدير (المحافظ) أن "يملأ هذه الفجوات" مع التهديد بالعقاب إن لم
يفعل أقصى ما بوسعه.
19. سُجلت كثير من حالات
الموت بسبب الكآبة والحزن، أو الموت بالشيخوخة أو بسبب صحي، وقد سجَّل تقرير أن 20
ألفا فقط كانوا لائقين طبيا من بين 48 ألفا جُمِعوا وحُشِد فيهم العُرج والعميان
والمُقْعدين بغير تمييز.
20. لكي تُملأ هذه
الفجوات من الأعداد الناقصة فإن الحل السريع هو خطف المزيد من الرجال، لكن الحل
البطيئ هو تطوير جهاز الدولة بحيث يكون أكثر سيطرة وإحكاما، بداية من نظام شامل
للأمن والمراقبة لمنع الهروب أو إعادة الهاربين، وإنشاء مستشفيات ونظام صحي لحل
مشكلة غير اللائقين، وتطوير نظام إحصائي دقيق عن كل قرية وسكانها وأوصاف رجالها
بحيث لا يؤخذ الشيوخ العجائز أو نحوهم. ومن هنا بدأت "الدولة المصرية"،
بدأت كجهاز لخدمة الجيش!
وهذا ما نراه بتفصيل في
المقال القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في مدونات الجزيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق