نفتح اليوم الكتاب الخامس[1] من سلسلة "مكتبة
الثائر المصري"، التي بدأناها على صفحات مدونات الجزيرة، واخترنا اليوم
كتاب "كل رجال الباشا" للدكتور خالد فهمي، وهذا الكتاب حقق شهرة كبيرة
منذ صدوره لأنه يكشف وجها غير مشهور عن شخصية محمد علي باشا الكبير الذي أسس
الدولة العلمانية العسكرية في مصر والذي لا يزال تاريخه يُدرَّس باعتباره طفرة
تقدم للشعب المصري.
يخوض الكتاب في التأريخ لجيش محمد علي من وجهة نظر
المجند، وهي الرواية الغائبة، أو بالأحرى: الرواية الممنوعة من العرض في تاريخ
محمد علي، لنكتشف كيف كان إنشاء الجيش المصري عملية إذلال وحشية استعبادية للشعب
المصري، مع العلم بأن هذا الجيش لم تكن كل مسيرته انتصارات كما يُسوَّق تاريخيا،
بل شهد هزائم مريعة، قبل أن ينهار تماما أمام التحالف الأجنبي قبل أن تغرب شمس
محمد علي نفسه بداية من اتفاقية 1840. وهذه المرحلة التاريخية هي واحدة من أهم
المراحل لفهم طبيعة الشعب المصري وطبيعة السلطة المصرية، إذ أن دولة محمد علي لم
تنته بعد.
والكاتب شخصية أكاديمية معروفة وتكاد تكون شهرتها بسبب
هذا الكتاب وحده الذي أُلِّف أصلا بالإنجليزية كرسالة للدكتوراة قضى فيها عشر
سنوات، ثم نقله شريف يونس إلى العربية بترجمة رائقة. ونعيد التأكيد على أن
الخلاصات التي نقدمها للكتاب هي اختصار شديد مكثف لا يغني عن قراءة الأصل، وأننا
نقدم من الكتب ما نراه مفيدا لحالة الوعي الثوري في مصر بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا
مع المؤلف أو مع كل ما يُطرح في الكتاب، كما يجدر التنبيه أننا لن نورد في هذه
الخلاصات إلا ما يفيد في باب طبيعة السلطة والجيش والشعب في مصر، ولن نقتفي أثره
فيما أثاره من أمور أخرى.
خلاصات الكتاب
1. كثير من المؤلفين حرفوا الترجمة الحقيقة لوثائق محمد علي
المكتوبة بالتركية لإظهاره بمظهر المصلح العظيم، وبالرجوع إلى أصل هذه الوثائق
يظهر كم كان محمد علي يحتقر المصريين ويزدريهم ويراهم كالبهائم ولا يناسبهم ما
يناسب الشعوب الأوروبية المتنورة.
2. المشكلة الأساسية في التاريخ المكتوب لمحمد علي أنه
يقدس شخصية الحاكم الأبوي ويهمل شأن المصري أو حقه في صناعة تاريخه، لذا يسود معنى
أنه رجل سبق عصره وأن شعبه لم يفهمه. ومن يقرأ الوثائق بالتركية يعرف أن آخر ما
فكَّر فيه محمد علي هو المصريين، إنما انحصر تفكيره في صناعة مجد له ولسلالته.
3. ساهمت عدد من العوامل في صناعة التاريخ المشهور عن
محمد علي، أهمها:
أ. صنع تاريخ محمد علي في أروقة السلطة، وبدأ هذا منذ
عهد محمد علي نفسه الذي كان حريصا على تقديم صورته للأجانب بأنه المصلح المحاط
بالجهلة ويحكم شعبا من المتوحشين والذي أحيا مصر من الموات وبأنه المتنور من بين
ولاة السلطنة العثمانية المتخلفة. وقد لاقى هذا الوصف للمصريين والعثمانيين هوى
عند الأوروبيين الذين اعتادوا النظر للمسلمين بدونية وعنصرية فانتشر هذا في
كتاباتهم. وكان محمد علي يستعد للقائهم بصناعة أجواء مسرحية تضفي عليه مهابة ورهبة.
ب. ثم إن مطبعة بولاق (جهاز الإعلام الرسمي حينذاك) كانت
تطبع الكتب التي تحمل مدح الباشا وتتجاهل مؤلفات من ينقدونه (كتاريخ الجبرتي مثلا).
جـ. ساعدت فرنسا حليفة محمد علي في نشر ودعم هذه الصورة
عنه.
د. استمرار حكم أولاده من بعده، مما رسَّخ هذه الصورة
عنه وأطال عمرها، وبعض أولاده مثل الملك فؤاد حرص على "صناعة" تاريخ
أسرته، وصلت إلى حد دفع رشاوى لمؤرخين أجانب لكتابة تاريخ لجده وسرعان ما ترجمت
هذه الدراسات فضلَّلت الكثيرين لما لها من زخرف موضوعي وطلاء بحثي مزيف.
هـ. أدى مجهود الملك فؤاد في جمع الوثائق الخاصة بأسرته
لأن تحتل هذه الوثائق مكانة خاصة في دار الوثائق، ترتيبا واهتماما وفهرسة وترجمة،
مما يجعلها فخًّا يجذب إليه الباحثين الذين يجدون مشقة في الوصول إلى الوثائق
الأخرى التي تبرز الجوانب المهملة في تلك الفترة، سواء وثائق العثمانيين أو
الوثائق غير الصادرة عن مؤسسة السلطة المركزية.
د. ثم لاقى هذا التمجيد لمحمد علي هوى عند شرائح أخرى من
المصريين، فالمؤرخون والوطنيون أرادوا أن يكون محمد علي صانع النهضة والتحديث
نكاية ومضادة لدعوى الإنجليز أنهم من صنعوا مصر، والقوميون أرادوا أن يكون محمد
علي صاحب مشروع توحيدي عربي نكاية في العثمانيين والأوروبيين، ففي ظل حالة
الانهيار العام يلتمس البعض زعيما طموحا صاحب مشروع!
4. قاوم المصريون عملية التجنيد مقاومة عنيفة، وليس
صحيحا ما يشيعه المؤرخون القوميون عن تقبل المصريين للتجنيد، بل لم يكن المصريون
في هذا الوقت يعبرون عن هويتهم بأنها مصرية، ولا كان مشروع محمد علي يستهدف إنشاء
"الأمة المصرية"، وإنما هو محض مشروع شخصي للباشا. بل إن القوميات
الحديثة –كما يقول بندكت أندرسون- ليست إلا "جماعات متخيلة" لم تصنعها
الأواصر الطبيعية كالدم والدين واللغة والثقافة كما يزعم الخطاب الوطني، بل صنعتها
السلطة الحديثة من خلال أدوات إعلامية وتنفيذية كالمطبعة والإحصاء والمتحف. وقد
كان الجيش هو وسيلة محمد علي القاهرة العنيفة لصناعة هوية قومية مصرية متخيلة.
5. مَهَّد محمد علي لخطته في تجنيد الشعب بمذبحة
المماليك الرهيبة ليتخلص بها من ممثلي القوات العسكرية القديمة، فدعاهم إلى حفل
قتل فيه نحو 450 ثم أباح لجنوده الألبان أن يجتاحوا بيوت المماليك في القاهرة
فنهبوها واغتصبوا نساءها وقتلوا ألف أمير وجندي مملوكي، ثم خرج إبراهيم في طلب من
فروا إلى الصعيد فقتل ألفا آخرين. ثم تخلص من الجنود الألبان الذين لم يكونوا يرون
فيه سوى أنه "الأول بين الأنداد" بأن أرسلهم إلى حتفهم في صحراء الجزيرة
العربية لمقاتلة الوهابيين.
6. بدأ محمد علي بتجنيد السودانيين، فقد كانت نظرته
للمصريين كفلاحين يؤثر التجنيد على قوتهم الإنتاجية، فأرسل حملتين وعددا من
الأمداد لاصطياد ستة آلاف منهم كعبيد، أحدهما بقيادة ابنه إسماعيل الذي تسبب
بغلظته في أزمات وثورات، ثم دعاه ملك شندي إلى وليمة ثأر فيها من إسماعيل الذي
صفعه على وجهه من قبل، فأُحْرق إسماعيل حيًّا.
7. كان عدد الشحنة الأولى 1900 رجل وامرأة وطفل، اختير
منهم من يصلح للخدمة العسكرية وبيع الباقي في أسواق العبيد، لكن المساكين لم يتحملوا
ظروف الطريق فمات الكثير منهم "كما تموت الخراف المصابة بوفاء العفن"،
وصارت الأعداد المجلوبة أقل كثيرا من تكلفة الحملات نفسها، ولم تنجح إجراءات نقلهم
بالسفن أو علاجهم في تكثير أعدادهم، فقرر الباشا أن يترك استعباد السودانيين ويجند
المصريين.
إلى هنا انتهت المساحة المخصصة، ونبدأ في المقال القادم
مع قصة تجنيد المساكين المصريين.
نشر في مدونات الجزيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق