ذكرنا
في المقالالماضي
أن شخصية صلاح الدين تفردت رغم تعدد الحملات الصليبية وطول فترتها الزمنية وكثرة
من شاركوا فيها من الطرفين، وقد بلغ الثناء على شخصيته حدا جعله واحدا ممن يفيض
الغربيون بالثناء عليه، وقد اخترنا سبعة فقط من وجوه إعجاب الغربيين به، بدأنا في
المقال الماضي، ونواصلها اليوم بتوفيق الله.
3. حسن السياسة واتساع
النفوذ
لما أرخ أولج فولكف
للقاهرة جاء على ذكر صلاح الدين، فوصفه بهذه الكلمات: "كان سياسيا محنكا ذو رأي صائب. وتمتع بمقدرة على انتقاد مستشاريه
والإصغاء إليهم، وهي مقدرة هامة لأي ملك، كما تميز بالصدق في وسط كانت تسممه
الخديعة، وبالتسامح إلا فيما يتعلق بسيادة العقيدة. وقد خاض غمار الحروب طيلة
حياته رغم رقة بنيته. واتصفت أخلاقه بالشهامة والفروسية وكانت تملؤه روح العطف
والحب مما أثر في أفكاره وأفعاله. كان دؤوبا على عمله، بسيطا في حياته، عميقا في
إيمانه حتى مثَّل بحق الصورة المثالية لفارس عربي"[1].
وقد أثمر هذا كله –كما
يقول المستشرق الألماني الشهير كارل بروكلمان- أن "وُفِّق صلاح الدين بعزيمته الراسخة وموهبته الدبلوماسية النادرة إلى
أن يثب من غمرة هذا الوضع الحرج الدقيق إلى قمة من القوة والسلطان لم ينته إلى
مثلها أحد من أمراء الإسلام منذ عهد طويل"[2].
هذه القمة من القوة يصفها
ستانلي لين بول في قوله: "لقد تجمعت كل قوى العالم المسيحي في الحرب الصليبية
الثالثة، ولكنها لم تستطع أن تنال من قوة صلاح الدين وسلطانه، ولما انتهت حروب
السنوات الخمس وخفت محنها ومصائبها لم يكن لصلاح الدين منافس يحكم الأقطار التي
تقع بين جبال كردستان وصحراء ليبيا. وكان ملك جورجيا وكاثوليك أرمينيا وسلطان
قونية وإمبراطور القسطنطينية –وكلهم وراء الحدود- يخطبون وده ويتوقون إلى
محالفته"، ولهذا وصفه بأنه "بطل الإسلام العظيم" وأن ما فعله
"جعل اسم صلاح الدين يتردد على كل لسان حتى في أوروبا نفسها"[3].
4. التسامح الديني
يسوق توماس أرنولد عصر صلاح الدين وخلفائه كدليل على ما
تمتع به النصارى من تسامح في البلاد الإسلامية، يقول: "في عهد صلاح الدين الأيوبي
في مصر تمتع المسيحيون بالسعادة إلى حد كبير في ظل ذلك الحاكم، الذي عرف بالتسامح الديني،
فقد خففت الضرائب التي كانت فرضت عليهم، وزال بعضها جملة، وملئوا الوظائف العامة؛ كوزراء،
وكتاب، وصيارفة. وفي عهد خلفاء صلاح الدين نعموا بمثل هذا التسامح والرعاية قرابة قرن
من الزمان، ولم يكن هناك ما يشكون منه إلا ما اتصف به كهنتهم أنفسهم من الفساد والانحطاط،
فقد فشت السيمونية بينهم، فبيعت مناصب القسيسين الذين اتصفوا بالجهل والرذيلة، على
حين حيل بين الذين طلبوا التعيين وبين هذا المنصب المقدس؛ بعجزهم عن أداء الأموال المطلوبة
في احتقار وازدراء، مع أنهم كانوا الجديرين بشغل هذا المنصب"[4].
5. رعاية العلم والعلماء
لقد سبق تحرير صلاح الدين لبيت المقدس تحريره لمصر من
الحكم العبيدي (الفاطمي) الباطني، كان تحرير بيت المقدس بالسيف والسنان وكان تحرير
مصر بالعلم والبيان واللسان، ولهذا فقد أثار صلاح الدين نشاطا علميا وتعليميا
واسعا في مصر للقضاء على الفكر الإسماعيلي الباطني.
يقول كارل بروكلمان: "لم يستطع أعداؤه أنفسهم إلا
الإقرار لهم بالشهامة والنبل في معاملة الخصم المغلوب. ليس هذا فحسب، فقد كان صلاح
الدين بالإضافة إلى ذلك كله نصيرا للعلم، ولقد وُفِّق إلى نفر من العلماء حفظوا
جميله له"[5]، وذكر منهم ابن العماد الأصفهاني الذي سجل وقائع تحرير
بيت المقدس، وابن شداد قاضي الجيش الذي سجل سيرة حياته، والقاضي الفاضل الذي نهض
بعبء الإدارة.
ويقول
المستشرق الأمريكي لبناني الأصل فيليب حتي في كتابه الموجز عن تاريخ العرب:
"لم يكن صلاح الدين بطلا وحاميا للسنة فقط بل كان منشطا للعلم والعلماء مشجعا
للدراسات الدينية ومصلحا اجتماعيا واقتصاديا، فلقد أنشأ المدارس والمساجد وابتنى
السدود واحتفر الأقنية... وصلاح الدين عند العرب في مصاف هارون الرشيد وبيبرس وفي
مقدمة من تهواهم مخيلات الشعب عامته وخاصته إلى يومنا هذا. أما في أووربا فلقد
أطنب في ذكراه المنشدون في العصور الوسطى وحاكاهم في ذلك الروائيون العصريون. وهو
لا يرزال يعتبر حتى اليوم مثال الفروسية الكاملة"[6].
6. الإدارة والعمران
يشهد مؤرخ القاهرة المستشرق الفرنسي جاستون فييت أن
القاهرة لم يبدأ مجدها إلا بصلاح الدين، يقول: "كانت مدينة ابن طولون
[القطائع] مسكنا للأمير؛ ويمكن إطلاق هذا التعبير ذاته على قاهرة الفاطميين. ولم
يصبح لمصر عاصمة حقيقية إلا بوصول صلاح الدين. فمجد القاهرة –دون التقليل من عمل
الفاطميين- يبدأ من عصر الأيوبيين"، ويضيف: "ما زالت القلعة شاهدا على
عظمة عصر صلاح الدين، رغم أن السلطان لم يسكنها أبدا. وهي تقدم دليلا ملموسا على
شخصية فذة، ورجل سابق لزمانه، وأرقى من معاصريه، سواء في ذلك إخوانه في الدين أو أعداؤه،
الذين رأوا فيه إنسانا يغلب عليه الاعتدال وشعور الولاء، مبرأ تماما من الأنانية
والدوافع الشخصية –وبعبارة مختصرة- رجلا فذا"[7].
وما قاله جاستون فييت مختصرا، فصَّل فيه ستانلي لين بول
الذي قرر أن صلاح الدين كان أكثر عمارة في مصر والقاهرة من كافة الحكام الذين
سبقوه، يقول: "وعلى الرغم من أن مدة إقامة صلاح الدين الأيوبي لم تطل في
القاهرة، لم يترك أحد ممن سبقوه من الحكام فيها مثل ما خلف من الآثار الخالدة.
فإليه يرجع الفضل في اتساع الحاضرة، وتنسيق هندستها التي كانت تفخر بها إلى عهد
قريب؛ فالقلعة وهي أبرز معالمها من إنشائه، والمدرسة التي بناها هي أكثر عمائرها
ذيوعا وشهرة، وكل هذه التغييرات تمت بفضل توجيهاته. ولما غادر صلاح الدين القاهرة
بعد أن مكث فيها ثماني سنوات، ظل يبعث في طلب إمدادات منها بمعاونته في حروبه
السنوية، وقد ترك بها من القواد والأقارب من قام بإتمام ما بدأه من أعمال، كان
بعضها من أجل الدفاع عن البلاد وبعضها في سبيل الدين. فأما الأعمال الدفاعية، فقد
تجلت في إنشاء القلعة والسور وجسر النيل، وكلها من الأعمال المستحدثة التي لم
يسبقه إليها أحد، إذ أن الحكام الذين جاءوا قبله جعلوا هدفهم بناء مبان حكومية أو
ضواح ملكية، كل يبعد عن سابقه نحو نصف ميل إلى الجهة الشمالية الشرقية من المدينة،
حتى إن القاهرة الفاطمية نفسها لم تكن تشمل سوى قصور الخلفاء والموظفين ولم تكن
حاضرة للبلاد المصرية. أما صلاح الدين فكان أول من وضع بإحكام تصميم شامل لحاضرة
عظيمة، إذ أنه بدلا من أن يحذو حذو من سبقوه من الحكام ويقيم ضاحية جديدة كما أقام
أسلافه، عقد العزم على توحيد جميع الأحياء الآهلة بالسكان وإحاطتها بسور عظيم
وتتويجها بقلعة منيعة"[8].
بقي الوجه الأهم والأوسع والأشهر الذي أثار إعجاب
المستشرقين والمؤرخين الغربيين من شخصية السلطان الناصر صلاح الدين، ونتناوله في
المقال القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في ساسة بوست
[1] أولج
فولكف، القاهرة: مدينة ألف ليلة وليلة، ترجمة: أحمد صليحة، (القاهرة: الهيئة
العامة المصرية للكتاب، 1986م)، ص80.
[2] كارل
بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي،
ط5 (بيروت: دار العلم للملايين، 1968م)، ص352.
[3] ستانلي
لين بول، سيرة القاهرة، ترجمة: حسن إبراهيم حسن وآخرون، ط2 (القاهرة: مكتبة
النهضة المصرية، بدون تاريخ)، ص158، 159؛ ستانلي لين بول، صلاح الدين، مرجع
سابق، ص288.
[4] توماس أرنولد،
الدعوة إلى الإسلام: بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية، ترجمة: حسن إبراهيم
حسن وآخرون، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1980م)، ص128، 129.
[7] جاستون
فييت، القاهرة: مدينة الفن والتجارة، ترجمة: د. مصطفى العبادي، (بيروت:
مكتبة لبنان، 1968م)، ص76، 77.