[ملاحظة: كافة الخرائط الواردة
في هذا المقال مأخوذة من كتاب أطلس تاريخ الإسلام للدكتور المؤرخ المعروف حسين
مؤنس، وهو أبرز وأدق مجهود فيما أعلم في تتبع خرائط التاريخ الإسلامي]
منذ دخلت مصر في الإسلام وهي تتوسط عالمه الفسيح الذي
امتد من حدود الصين شرقا إلى حدود فرنسا غربا، وكانت مصر ولاية بحد ذاتها، وهي –كما
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه- "ولاية جامعة تعدل الخلافة".
ثم جاءت عصور ضعفت فيه الخلافة الإسلامية وصارت لا
تستطيع السيطرة على هذا المدى الواسع من العالم الإسلامي، وكان الأمويون العظام هم
آخر من حكم العالم الإسلامي كله من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، فكان
الخليفة الأموي ينفذ أمره في الأندلس كما ينفذ أمره في بلاد ما وراء النهر. ولم
يستطع العباسيون أن يرثوا كل الدولة فقد خرجت الأندلس عن سلطانهم وبقيت فيها إمارة
أموية، ومع ضعف الخلافة العباسية فيما بعد نشأت دول مستقلة على الحقيقة عند
الأطراف وإن كانت تدين بالولاء الرسمي وبإعطاء الأموال للخلافة في بغداد، ثم تعددت
هذه الدول، فصارت أول دولة تنشأ في مصر هي: الدولة الطولونية.
الدولة الطولونية
وهي الدولة التي أنشأها أحمد بن طولون الوالي على مصر،
والذي استطاع أن يضم إلى سلطانه كل هذه البلاد الموضحة على الخريطة، بل واستطاع أن
يقوم بواجب الجهاد في الثغور مع الروم إذ كانت الخلافة العباسية في وقته مستهلكة
في محاربة التمردات عليها (الزنج في البصرة وجنوب العراق، والصفاريون في سجستان
وما حولها)، وكانت دولة قوة وعز وخير وفير ولها إنجازات رائعة، ومن يقرأ في كتب
تاريخ مصر يكاد يتخيل أنها جنة مزدهرة في ذلك الزمن.
الدولة الإخشيدية
[نفس الخريطة السابقة مع
إضافة المناطق البرتقالية]
وظهرت هذه الدولة عندما ضعفت الدولة الطولونية وانهارت،
وبرز فيها الإخشيد كقائد عسكري استطاع صد العبيديين (الفاطميين) وإفشالهم من
محاولة الاستيلاء على مصر، وكانت دولة قوية كذلك، وحاز سلطانها تلك الأراضي
الموضحة في الخريطة.
الدولة العبيدية (الفاطمية)
والتي استطاعت بعد محاولات عديدة فاشلة أن تسيطر على مصر
وتضمها إلى سلطانها الذي بدأ من المغرب وتمدد شرقا، ثم تابعت الاستيلاء على
الأراضي حتى ضمت إليها الشام والحجاز، ومن العجيب أن دولة الفاطميين انقرضت في
المغرب ثم انقرضت في الشام وطال زمانها في مصر. وبرغم كل مساوئ هذه الدولة وبعض
الفترات العصيبة التي عاشتها مصر في ظلالها إلا أن مصر الغنية الوافرة المال كانت
مزدهرة ناضرة في أيام خلفائهم الأقوياء.
الدولة الأيوبية
لما ضعفت الدولة العبيدية (الفاطمية) تعددت فيها مراكز
وأجنحة القوى، فاستعان بعضها بالخارج على بعض، فاتجهوا إلى الشام الذي كان يشهد
صراعا بين الصليبيين من ناحية والدولة الزنكية من ناحية أخرى، وكان كلا الطرفين
يودَّ لو ضمَّ إليه مصر فيستقوي برجالها وأموالها، فالصليبيون يريدون تمديد وتعميق
وجودهم في الشرق من بعد ما صار مهددا في الشام، والزنكيون يريدون إعادة وحدة الأمة
تحت الخلافة العباسية السنية وإعادة وحدتها في الجهاد، وانتصر الزنكيون في هذا
السباق بعد حروب في السياسة وفي القتال، وصار قائدهم العسكري صلاح الدين الأيوبي
وزير الخلافة العبيدية في مصر، ثم استطاع بعد أمد إلغاءها وإعادة الوحدة السياسية،
وانضمت مصر إلى معركة جهاد الأمة فما لبثت أن تحررت القدس بعد ذلك بأعوام.
وضمت الدولة الأيوبية هذه المساحة (المبينة بالخريطة) من
البلاد، واستعانت بكل هذا على حرب الصليبيين، وأفشلت الدولة الأيوبية حملتين من
ثلاث حملات صليبية جديدة (الخامسة والسابعة) ولولا سوء السياسة لفشلت الحملة
السادسة كذلك، فمنذ توحدت الشام ومصر صار الصليبيون في خطر حقيقي، وصار وجودهم في
الشام مسألة وقت.
الدولة المملوكية
وهي التي ورثت الدولة الأيوبية بعد تفككها وانقسامها
وخلوها من الرجال الأقوياء، وافتتحت عهدها بوقف العاصفة المغولية في عين جالوت، ثم
في غيرها من المعارك التي أنهت تماما الخطر المغولي وصدته عن الديار الإسلامية، ثم
استأنفت مسيرة تطهير الشام من الوجود الصليبي فأنجزت هذه المهمة، ثم طاردت فلول
الصليبيين حتى حررت قبرص وهددت جزيرة رودس، وفي عصرهم صار الخليفة العباسي مقيما
في مصر، وصارت القاهرة عاصمة الخلافة.
وكانت دولة قوة وفتوة وعمارة وجهاد، وإلى عهد المماليك
ينتسب الجمهور الأعظم من العلماء المسلمين المشهورين في مصر والشام كالعز بن عبد
السلام والنووي وابن دقيق العيد والشاطبي وابن تيمية وابن القيم وابن كثير والذهبي
وابن حجر العسقلاني والمقريزي وابن خلدون وابن تغري بردي وغيرهم كثيرون جدا.
ثم دخلت مصر في السلطنة العثمانية، وصارت ولاية تابعة
للعثمانيين فعادت لمرة أخرى ولاية ضمن ولايات الدولة بغير نوع استقلال ومركزية
استمر فيها لسبعة قرون، إلا أن الحكام الفعليون –بعد فترة وجيزة- كانوا هم
المماليك وكان الباشا العثماني مجرد اسم ورسم لا حكم له على الحقيقة.
دولة محمد علي
استعادت مصر نوع استقلاليتها ومركزيتها ضمن ولايات
الخلافة في عهد محمد علي الذي رغم كل كوارثه ومآسيه ونكباته كان بركانا من النشاط
والقوة، وأسس في مصر جيشا حديثا استطاع أن يمد نفوذه إلى هذه المناطق (المبينة
بالخريطة) وأن يهدد الدولة العثمانية نفسها، بل وكاد ينهيها لولا أن وقفت الدول
الغربية مع العثمانيين وردت محمد إلى الشام ومصر ثم إلى مصر وفرضت عليه معاهدة
(1840) المذلة التي قلمت أظافره.
وكانت دولته دولة ثروة ونفوذ وقوة وجيش، كما كانت دولة قهر
وظلم وعسف وتسلط للأجانب على أهل البلد، وهو مؤسس الدولة "الحديثة"
كنظام ونمط علماني مأخوذ من أوروبا، وكان ينظر إلى البلاد وأهلها كالبقرة الحلوب،
يحتاج أن يسمنها ليأكل منها أكلا وفيرا ويورثها لأبنائها.
دولة أبناء محمد علي
وهي الدولة التي بقيت
فيها آثار ونكبات محمد علي دون ميزاته وحسناته، وتكاد تنحصر في ابنه سعيد وحفيده
إسماعيل، وكلاهما كانا يسيطران على هذه المساحة (المبينة بالخريطة) وكانت البلاد
رغم ما فيها من الخير والبركة قد ضاقت بأبنائها وصار خيرها مصروفا إلى الأجانب
الذين تغولوا وتفحشوا وتسلطوا وتسلطنوا حتى صاروا أقوى من الخديوي نفسه، بل صار
الأجانب أعضاء في الحكومة ومحاكمهم تقضي على الخديوي نفسه وصاروا قادة الجيش
المصري والمتحكمين بالتجارة، وفازوا في هذا العصر بما لم يحلم به مستعمر قبلهم
(قناة السويس)، وما إن كاد الشعب المصري يسترد بعض حقه وحريته حتى نزل الاحتلال
الإنجليزي ليحافظ على النظام التابع له ويقضي تماما على محاولة الثورة.
الاحتلال الإنجليزي
وهو كأي دولة احتلال لا
نطيل الحديث في شأنه، ولكن الذي يهمنا في هذا السياق هو تقلص المساحة التي تسيطر
عليها مصر، بالفصل العملي –لا الرسمي- للسودان، فخسرت مصر ثلثي أراضيها، إلا أن
الاحتلال الإنجليزي –المضروب به المثل في الدهاء والمكر- صنع كل هذا بأيادي مصرية
وسياسات ينفذها مصريون واتفاقيات يوقع عليها مصريون، وسمح كذلك بالمعارضة السياسية
في مصر والتي كانت في غاية القوة برغم كونها تحت الاحتلال (وللعلم فإن مستوى حرية
الإعلام في عهد الاحتلال لا يقارن أبدا بمستواه في عهد العسكر فيما بعد)، وكان من
آثار هذا أنه وفي أواخر عصر الاحتلال الإنجليزي لم يجرؤ أحد على إعلان التخلي عن
السودان، ولا الملك فاروق رغم كل ضعفه وكل فساده، ولا زعيم حزب الوفد رغم كل ما
يؤخذ عليه وعلى الوفد من سياسات، ولم يعد بالإمكان –كما تبين وثائق المخابرات
الأمريكية فيما بعد- طرح مطلب فصل السودان إلا بإلغاء الملكية كنظام سياسي
والإتيان بنظام جمهوري يوافق على الفصل، وهو ما فعله العسكر بعد انقلاب يوليو، ولم
تخرج بريطانيا من مصر إلا بعد الاتفاق على فصل السودان.
دولة العسكر
وهي أسوأ مرحلة مرت على
مصر في كل تاريخها، فسائر المراحل التاريخية السابقة إما شهدت استبدادا بمعنى
الاستبداد الوطني الذي ينتمي فيه المستبد إلى هذا الوطن ولا يعرف له ولاء ولا
انتماءا لغيره، ولهذا فهو إذا جد الجد وحان وقت الحرب حارب دفاعا عن نفسه وعن
ملكه، وإما شهدت احتلالا صريحا أجنبيا معزولا عن الشعب وهو مع هذا كان خيرا من حكم
العسكر.
أما عصر العسكر فقد انتهت
فيه مكانة مصر حتى بين العرب والمسلمين، وتقلصت فيه حدودها بفصل السودان وترك غزة
وضياع سيناء (والتي ما تزال حتى الآن تحت النفوذ والهيمنة الإسرائيلية عمليا)
وتهاوت فيه مصر اقتصاديا وسياسيا وعلميا وثقافيا واجتماعيا، ونزلت بها هزائم
تاريخية ساحقة على يد إسرائيل، ثم هي أيضا تحت النفوذ الأجنبي سياسيا واقتصاديا
وثقافيا، ووصل الحال إلى أن قادة جيشها يفخرون بأنهم جزء من الأمن القومي الأمريكي
ويحتفلون بمرور مائة عام على مجهودهم في الحرب العالمية الأولى خدمة للإنجليز ضد
العثمانيين والسودانيين والليبيين.
وصارت خريطة مصر هي
الخريطة الأصغر بين سائر هذه العصور وهذه الخرائط، وهي الخريطة المعروفة للجميع.
نشر في ساسة بوست