صديق وأخ كريم كتب منشورا، أغلب الظن أنه يعنيني به، في موضوع
سكوتي عن الموقف التركي بضرب داعش.. وحقيقة الأمر أني لم أفكر في كتابة شيء عن
هذا الأمر لأسباب كثيرة ليس أولها أني لا أرى نفسي محللا سياسيا ينبغي أن يقول كلمة
في كل موقف، ولا آخرها أني لست متابعا عن كثب للأمر.
والحمد لله ليس يستفزني طلب أحد للكتابة عن شيء أو قول شيء،
إلا أن هذا المنشور وغيره دفعوني لكتابة نقاط أحسبها غائبة عن النقاش الدائر.
1. تدين الأتراك صوفي، وبين الصوفية والسلفية ما صنع الحداد،
وهو إرث طويل من الخلاف لا يُتوقع حله في وقت قريب، وأشد ما على قلب التركي المتدين
(حقا) أن يقال له: هذا وهابي!
2. لا يقتصر الأمر على "التدين" وحده، فالتاريخ
بين الوهابيين والدولة العثمانية ملتهب كما هو معروف، والسلفيون يرون الدولة العثمانية
قبورية منحرفة واقعة في الشرك بينما يراها الأتراك (حتى غير المتدين منهم) مصدر عزهم
وفخرهم، فيما يرون الوهابيين من مؤامرات الإنجليز لتدمير الخلافة العثمانية.
3. والحاضر الآن ليس أقل وردية.. فالسلفية -لا سيما من هم
في معسكر #داعش- لا خلاف بينهما على أن أردوغان كافر مرتد، وهم لا يكتمون ولا أحدا
من أنصارهم أنهم إن أتيحت لهم الفرصة فسيدخلون تركيا ويضمونها لخلافتهم تحت ظل أمير
المؤمنين "البغدادي".
4. وعلى الناحية الأخرى تركيا لا تخشى كثيرا من داعش، لأن
الوضع التركي أبعد ما يكون عن تأثير داعش فيه، وبينهما حواجز اللغة (العربية التركية)
والمذهب (السلفية الصوفية) والتدين (ما يزال بعد الأتراك عن الدين هو الغالب بأثر سنوات
العلمانية الطويلة).. إلا أن تركيا تستفيد بطبيعة الحال من كل الأوضاع السياسية وتتعامل
مع كل الأطراف، وهي ربما أبرز من استفاد من وجود داعش في أكثر من ملف، أبرزها الملف
الاقتصادي (داعش تصدر البترول بثلث السعر العالمي ولا تجد منفذا سوى تركيا، وتتيح مجالا
واسعا لعمليات خلفية للمهربين والمقاولين وتجار مواد البناء ونحوه).
5. أي أن العلاقة بين الطرفين أصلا علاقة نفع متبادل، فهو
بالنسبة لداعش تعامل مع كفار بدافع المصلحة، وبالنسبة للأتراك تعامل مع عبثيين عدميين
لا مستقبل لهم (لأنهم يعادون الجميع ولأنهم بلا حلفاء ولن يصدموا أمام أي حرب حقيقية،
وبقاؤهم مرهون بترتيبات دولية لا أكثر).
6. وغني عن البيان أن أردوغان يمكن أن تفسر مواقفه على احتماليْن:
أ- الأول: أنه إسلامي على الحقيقة ولكنه في دائرة صعبة وضيقة
وكان لا بد له أن يتدثر بالعلمانية ليصل إلى الحكم، غير أن سياسته تدل على إسلاميته
التي سببت له متاعب كثيرة، لكنه في النهاية مقهور ومحكوم بنظام دولي أقوى منه بكثير،
ثم إنه لم يستكمل التمكين داخل دولته بعد.. فهو سائر في سبيله الإسلامي ما استطاع،
لكنه يخضع ويُقهر حين يصير الوضع أكبر منه ولا يملك له ردا، وكل امرئ أدرى بنفسه.
ب- الثاني: أنه علماني على الحقيقة، ولكنه سياسي ذكي، يتاجر
بأحلام وآمال الشعب التركي المسلم، ويدغدغ مشاعر المسلمين بكلمات وعبارات جوفاء لا
شيء وراءها، إلا أنه عند الجد وفي موقع الاختبار يكشف عن علمانيته ويقدم على الكفر
بلا تردد، إلهه المصلحة وسبيله البرجماتية النفعية المحرمة. ولا مانع أن تكون أمريكا
تسوقه نحو إظهار هذه "الإسلامية" تحقيقا لأهدافها.
(ولكي أريحك، مع أي الاحتمالين أنا، فأقول لك: مع الأول..
والشرح يطول وليس هذا موضع بيانه بطبيعة الحال)
7. المهم الذي يجب أن يكون واضحا: أن الطرفين يعرفان ويعترفان
بعداوة كل منهما للآخر، وأنه في لحظة القدرة -أو المصلحة- لن يتردد صاحب القدرة على
الفتك بالآخر..
وجاءت هذه اللحظة في الوقت الذي كان فيه الأتراك هم الأقدر
والأعلى يدا وأصحاب المصلحة في الهجوم.
وأكاد أرى الذين اندفعوا لمهاجمة الموقف التركي (ولا أدينهم
وأتفهم موقفهم) إذا كان البادئ بالهجوم هو داعش، فسيتقبلون هذا على أقل تقدير وربما
فسروه وبرروه ودعموه وباركوه.
8. تركيا، مهما بلغت من قوة اقتصادية، لا تجرؤ بطبيعة الحال
على مناقضة موقف دولي حقيقي، فهذا حقا فوق طاقتها.. ثم إنه لو أخذنا زاوية السياسي
التركي فسنرى الأمور على هذا النحو:
- أردوغان العلماني: سيندفع لتحقيق مصلحته ومصلحة بلاده بالوقوف
مع الأقوى والأقدر طالما تحققت له مكاسب هو يطلبها أو أوقفت أخطار ينزعج منها (أحلام
الأكراد مثالا).. ثم إن داعش في كل الأحوال منهزمة أمام أي حرب حقيقية فهي لا تملك
لا عمقا جغرافيا ولا دعما بشريا ولا حليفا سياسيا ومواردها لا تعزب عن يد أعدائها.
بل إن الإسلاميين -بما فيهم الجهاديون- أنفسهم منقسمون حولها.
- أردوغان الإسلامي: يرى أن داعش وهابيين وتكفيريين، وعدو
متأخر في قائمة الأعداء، ولا يمثلون الإسلام الصحيح، فهم والأمريكان بالنسبة إليه سواء،
والاضطرار الآن أن تكون في جانب الأمريكان فهم الأقوى والأقدر والأوسع تأثيرا على تركيا
ونظامها.. فهو أيضا مضطر لتحقيق مصلحة ودفع مضرة.
9. أكاد أسمع قول القائل: حسنا، وفي النهاية، ما موقفك أو
ما رأيك؟
ولإراحة صاحب هذا السؤال أقول:
موقفي: لا موقف، ولا أعرف..
وهو ذات موقفي من لحظات تاريخية كثيرة، وقد قلت أكثر من مرة
وكررت في مقالات سابقة (انظر هذا على سبيل المثال)
أنه في لحظات الضعف تصير الخيارات كلها مريرة، ولا يستطيع أحد أن يتخذ الموقف الأمثل
بل يكون مضطرا لاتخاذ الموقف الأقل سوءا وخسائر.
ومثال هذه المواقف التاريخية المحيرة: الصراع الوهابي العثماني..
فأنت إذا نظرت من زاوية الوهابيين وجدت لهم منطقا بليغا في الدفاع عن الدين وتصحيح
العقيدة.. وإذا نظرت من زاوية الدولة العثمانية التي تصارع على 4 جبهات (الروس الأرثوذكس،
والغرب الكاثوليكي، والشيعة في الشرق، والتمردات الصليبية في أوروبا وغيرها) كنتَ أكثر
انزعاجا من بزوغ تمرد آخر في أرض السنة والحرمين.. فهذا موقف محير حقا عند الدخول في
تفاصيله إذ يتخيل المرء أنه يعيش في هذا الزمن.. هل يقف المرء مع أصحاب نقاء المنهج
بكل عبثيتهم وعدميتهم وضعفهم (وقد أنهاهم جيش محمد علي ودمر الدرعية كأن لم يكونوا
دولة تهدد بغداد ودمشق والحرمين) أم مع الدولة التي تحمل عبء الإسلام وتجاهد في البر
والبحر شرقا وغربا؟!!
تخيل نفسك واسأل: أيهما أولى بالإصلاح، الدولة الفتية ذات
المنهج النقي هي من تستحق الدعم لترث الخلافة التي صارت تضعف وتجدد أمر الإسلام.. ثم
نحاول ترشيد تشددهم وغلوهم وتوجيه سيوفهم -بعدئذ- لدول الكفر المتربصة؟!
أم الأولى بالدعم والإسناد هو تلك الخلافة التي تقوم بأمر
أمة الإسلام وتجاهد دول الكفر، مع بذل المجهود في تصحيح العقائد علميا وعمليا؟!
هذا مثال على مواقفة تاريخية محيرة (على الأقل لي).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق