أشهر كتاب تحدث عن تجربة أردوغان فيما أعلم
هو كتاب "رجب طيب أردوغان.. قصة زعيم" لمؤلفيْه: حسن بسلي وعمر أوزباي،
وربما نفرد مقالا مستقلا عن الكتاب ومنهجه فيما بعد، إلا أن الأوْلى في تلك اللحظة
أن نبصر في القصة أمورا نحتاج للتوقف عندها مليَّا.. هذه السطور القادمة تسجل شيئا
من أزمة: الطاقات المسفوكة.
وإنه بقدر ما تزخر الشعوب الإسلامية
بالطاقات الهائلة، بل بقدر ما تزخر الحركة الإسلامية بالكثير منها، إلا أن عوائق
كثيرة –أهمها: فكرية ونفسية- تحول دون استثمار هذه الطاقات، فيما لا يضنّ العدو
بالتخلي عن أي طاقة مهما صغرت، ويمكن أن نضرب مثلا بالمشهد السوري الذي يقتتل فيه
فصائل من تيار فكري واحد "السلفية الجهادية" وأمامهم عدو إيراني اثنا
عشري يدعم عدوهم النصيْري بكل ما يملك، رغم ما هو معروف من أن الاثنا عشرية يكفرون
النصيْرية من فرط غلوهم!
(1)
استطاعت القوى الغربية أن تهزمنا وتسيطر على
بلادنا وتفرض علينا أنظمتها التي لا شك في تناقضها مع ديننا وأصولنا وثوابتنا،
وفيما أدرك الجميع مدى ما هو قائم من هذا التناقض إلا أن بعض المصلحين وأهل الدين
وقف مكانه يكتفي بالإشارة إلى التناقض، فيرفض مزاحمة هذه الأنظمة في ما يُتاح من
مساحات كالإعلام والانتخابات وأعمال النقابات والجمعيات، رفضا للدخول تحت مظلة
"الدستور والقوانين الوضعية"، ثم هم لم يقدموا حلا لرفع هذه الهيمنة
وهذا الاحتلال، في مشهد غريب تقول خلاصته: الإسلام ليس صالحا لكل زمان ومكان، وها
هو العدو قد استطاع هزيمته ولا يجد أنصاره شيئا يفعلونه لإعادة شأنه.
بل لقد كان هؤلاء في غالب الأحيان طعنة في
ظهر من حاول نزول الساحة ومقاومة هذه الأنظمة بما يُتاح.. يرمونهم بالتهم التي
تبدأ بالكفر وتمر بالبدعة ولا تقف عند المعصية!
وهنا تُسفك الطاقات ثلاث مرات: مرة بحذف
طاقات هائلة من معركة التغيير ومقاومة الأنظمة المتغربة، ومرة بصرفها نحو إثبات
الثابت وتوضيح الواضح وهو بذل المجهود في بيان التناقض بين الإسلام والأنظمة
القائمة، ومرة بتوجيه هذه الطاقة للطعن فيمن يزاحم ويجاهد.
في تركيا تكرر هذا المشهد على هذا النحو:
"ظهرت حركة (الفكر الوطني) على الساحة
السياسية مع ظهور (حزب النظام الوطني) ثم تابعت الحركة مسيرتها مع تأسيس (حزب
السلامة الوطني).
وكانت الغالبية العظمى من شباب الإسلاميين،
سواء أكانوا على علاقة بالحزب أو لا، تربطهم به علاقة قريبة في أفكارها من التفسير
الراديكالي للإسلام، حيث لم يروا في حركة (الفكر الوطني) بزعامة "نجم الدين
أربكان" الحركة التي تمثل الإسلام بالقدر الكافي.
وكان الاعتراض الأساسي الذي تستند إليه هذه
الرؤية يتعلق بالشكوك والمخاوف من امتزاج الحركة الإسلامية بأي حزب سياسي، فضلا عن
الاعتراض على مفهوم الزعامة المطلقة التي يمثلها "أربكان". ولهذا، كانت
حركة (الفكر الوطني) محل انتقاد دائم من شباب الحركة الإسلامية، فقد كانت بالنسبة
للبعض منهم حركة تتجاهل الصدام الموجود بين النظام السياسي القائم وبين التصور
الإسلامي للكون، كما أنها كانت بالنسبة للبعض الآخر حركة تستهدف الاستيلاء على
الحكم من دون أن تكون في نيتها تشكيل حكومة إسلامية، كما أنها أيضا حركة ابتعدت عن
المرجعية الإسلامية بتوافقها مع مفهوم الديمقراطية الذي يخوِّل السلطة للأمة من
دون قيد أو شرط"[1].
وبعض هؤلاء لا يتحرج من إلقاء تهمة الانسجام
مع الغرب والتنازل عن الإسلام تفسيرا لصعودهم في الانتخابات وتحقيقهم لبعض
الإنجازات، فإذا جرى انقلاب غربي عليهم وعُلِّقوا على المشانق وطُرحوا في الزنازين
لم يراجع رأيه ولم يُخطِّئ نفسه بل انصرف عن المعركة، ولربما دعم قاتليهم!!
(2)
يعتبر تولي أردوغان رئاسة بلدية (باي أوغلو)
في انتخابات 1989م من أهم محطاته السياسية، وبحسب ما وثق مؤلفا كتاب "رجب طيب
أردوغان.. قصة زعيم" فإن ترشحه في هذه الانتخابات كان قرارا فرديا أصرَّ عليه
رغم معارضة حزبه (الرفاة)، وذلك أنه كان يرى أن الحزب يمكنه بتغيير بعض الأساليب
والوسائل في التواصل مع الناس أن يحقق المركز الأول. وقد صححت النتائج وجهة نظره
واستطاع الفوز بمقعد البلدية في هذه المنطقة التي كانت حكرا على حزب الشعب
الجمهوري والتي لم تكن تعطي حزب الرفاه إلا 3% من أصواتها.
ما يهمنا في سياق هذه القصة هو ذلك الرجل
الذي فتح لهم الطريق إلى حي حاجي خسرو، وقد كان ذلك الحي قلعة حزب الشعب الجمهوري
ولم يكن يعطي حزب الرفاه ولا صوتا واحدا، كان ذلك الرجل يدير مكانا للعب القمار!
لكنه بدافع من المروءة اختار أن يكون صاحب معركة فتح الحي اليساري أمام الشاب ذي
الخمسة والثلاثين عاما المرشح عن الحزب الإسلامي "المتشدد المتطرف"!!
يقول أردوغان عن دور هذا الرجل: "لم
يدخر "قدرت" جهدا، ولم يبخل بمساعدة طوال الحملة الانتخابية، ونظَّم
ليلة جميلة دعا إليها من يعرف من الفنانين، ورافقنا في لقاءاتنا مع سكان الحي، وفي
اجتماعاتنا معهم على المقاهي، وفتح لنا الطرق، وسهل لنا الأمور، حتى بدا كأنه أكثر
اهتماما بأمرنا منا".
ويقول أيضا: "كان قدرت يرهق نفسه
ويجهدها كثيرا في مساعدتنا، حتى إنه في صباح يوم الانتخابات استيقظ قبل أن تشرق
الشمس، وجاء إلى مركز تنسيق الانتخابات بملابس نومه من دون أن يغيرها، وتضايق
كثيرا عندما لم يجد أحدا. وكنت أتفقد صناديق الاقتراع، فنظرت، فإذا بالسيد قدرت قد
وضع واحدا من رجاله على رأس كل صندوق، واتخذ تدابير أمنية حازمة. وعندما رآني تقدم
نحوي، وكان الغضب لا يزال يتملكه وباديا على وجهه وقال لي: يا سيدي الرئيس! إن
أصحابك لا يُصلُّون، لتكن على علم بذلك. فقلت له: خير؟ ماذا حدث؟! فقال: ذهبت في
الصباح إلى مكتبكم الانتخابي فلم أجد أحدا فقلت في نفسي لعلهم الآن في صلاة الفجر
ثم سيعودون إلى هنا، ولكنني انتظرت فلم يأت أحد ولم يذهب أحد... سيدي الرئيس لا
يمكنك الفوز في انتخابات أو في غيرها بهؤلاء الأصدقاء".
ويسجل أردوغان "وأذكر أنه وأصدقاءه
طيلة فترة الانتخابات لم تلمس شفاههم الخمر"[2].
فهذا وأمثاله من الطاقات المسفوكة التي
نادرا ما يفكر الإسلاميون في استثمارها، رغم أن الأمر لم يحتج إلا إلى طرق الباب!
إن الإسلام عميق كامن في نفوس شعوبنا، أو هو
كما يقول الشهيد سيد قطب:
"إن الشر ليس عميقا في النفس الإنسانية
إلى الحد الذي نتصوره أحيانا. إنه في تلك القشرة الصلبة التي يواجهون بها كفاح
الحياة للبقاء، فإذا آمنوا تكشفت تلك القشرة الصلبة عن ثمرة حلوة شهية، هذه الثمرة
الحلوة إنما تتكشف لمن يستطيع أن يُشعر الناس بالأمن من جانبه، بالثقة في مودته،
بالعطف الحقيقي على كفاحهم وآلامهم، وعلى أخطائهم، وعلى حماقاتهم كذلك، وشيء من
سعة الصدر في أول الأمر كفيل بتحقيق ذلك كله، أقرب مما يتوقع الكثيرون".
وأضيف على قول الشهيد بأن ذلك لا يحدث في
سياق الضعف بل القوة، فالناس لا يلتفتون للضعيف حين يُبدي الحنان والمودة بل
يرونها من ضرورات تسول وتوسل مشاعرهم، وإنما يأسرهم ذلك من القوي، وقد أخطأ قوم
ظنوا أن التودد مع الضعف يرقق قلوب الناس حتى دفعوا ثمن ذلك من دمائهم، ولو أنهم
توددوا في إهاب من القوة والمهابة لكان الناس لهم جنودا أوفياء!!
نشر في تركيا بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق