بقدر ما يجد انقلاب العسكر في مصر من دعم إقليمي ودولي،
بقدر فشله في استثمار كل هذه الأجواء وبقائه كنموذج لانقلاب فاشل لم ينجح إلا
لعيوب خصومه بالدرجة الأولى لا لقوته هو، ولعلها المرة الأولى في التاريخ التي
يعلن فيها انقلاب عن نفسه قبلها بيومين ثم لا يجد من خصومه تحركا، بل إن قائد
الانقلاب نفسه كان بين يديْ من سينقلب عليه بعد هذا البيان ولم يسمه بسوء، وبرغم
ما سُلِّط على السيسي من إعلام جبار إلا أنه لم يستطع أن يكون زعيما بل لازال مريض
اللسان متأنث الشخصية مضطرب الأفكار صاحب بلاهات وفلتات لسان مثيرة للضحك والشفقة
معا!
وبرغم ما يظهر بين الفينة والأخرى من تشقق في صف
الانقلاب أو خلاف بين بعض أركانه إلا أن هذا لا يتحول إلى أثر ملموس لأن خصوم هذا
الانقلاب لا يمثلون وزنا في معادلة القوة ولا يستطيع منافس للسيسي أو طموح مغامر أن
يجد فيهم من يعتمد عليه ويستند إليه، وبهذا وحده يظل السيسي في مكانه، حتى ولو كان
له منافسون أو كان ثمة إرادة للتخلص منه.
وفي ظني أن معسكر معارضي الانقلاب يعاني من خمسة عيوب
أساسية هي جِماع باقي العيوب، فهي أصل وسواها فرع، تلك هي:
(1)
الرؤية المفقودة
وهي أول وأهم مفقود، وأساس كل خطوة خاطئة
منذ الانصراف من ميدان التحرير والتعامل مع المجلس العسكري باعتباره جهة وطنية
مخلصة لمصالح البلد، وحتى عدم توقع الانقلاب ثم مواجهته بـ "سلميتنا أقوى من
الرصاص" وهي الكلمة التي بنيت على أوهام كثيرة كالمجتمع الدولي والقانون الدولي
وزوال عصر الانقلابات.
وبرغم كل ما أثبتته حوادث السنتيْن إلا أن
كثيرا من الأوهام قائمة، أبرزها: وهم أن المشكلة في قادة الجيش لا فيه كمنظومة
ونظام تصيب بالشرّ جميع أعضائها إلا النادر القليل للغاية، ووهم أن الجيش المصري
جزء من الدولة المصرية وليس ذراعا أمريكيا لحماية مصالحها ومصالح إسرائيل باعتراف
الجميع (شاهد اعترافا
للعصار، اعترافا
للسيسي، اعترافا لآن باترسون، اعترافا
لمستشار شارون)، ووهم أن المعركة سياسية بين فصيل إسلامي
وبين نظام عسكري وليست صورة مصغرة للمعركة الحضارية الكبرى بين الإسلام والغرب،
ووهم أن الغرب يمكن أن يتدخل ضد رجله وممثل مصالحه في مصر لصالح الشرعية
والديمقراطية والحرية! ووهم أن السلمية يمكن أن تنتصر بها ثورة أو يسقط بها نظام
دموي مجرم!
طابور من الأوهام ما زال يشوش معسكر خصوم
الانقلاب، لم تفلح سنتان من الحوادث البينات الناصعات في حسم هذه الأسئلة، والتي
يبدو أن المشكلة على الحقيقة ليست في كونها معضلات فكرية بل في كونها معضلات
نفسية، وفي كون إجاباتها ذات تكاليف لا يريد أحد أن يتعرض لها.
(2)
القيادة المفقودة
كتبت كونداليزا رايس في مذكراتها أن أول ما
فعلته الإدارة الأمريكية لحظة وقوع أحداث 11 سبتمبر هو تأمين القيادات، فنقل بوش
إلى مكان آمن –وكان خارج نيويورك- ونقل جورج تينيت (مدير المخابرات المركزية) إلى
منزل آمن تابع للجهاز، ونقلت هي إلى مكان آمن.. وهكذا!
وحين أرادت السعودية ودول الخليج مقاومة
انقلاب الحوثي كان أهم ما فعلوه هو تهريب عبد ربه منصور هادي من أسر الحوثيين إلى
عدن ومنها إلى الرياض، وبفضل هذه الحرية التفَّ المعسكر المناوئ للحوثي حول هادي
وظلت شرعيته عنوانا حاضرا يظلل جميع الإجراءات بما فيها الضربات العسكرية.
أما الثورة المصرية فقد أسلمت قياداتها،
وأهمهم الرئيس مرسي الذي ما كان ينبغي إلا أن يكون في حماية أنصاره، سواء كان
بينهم في الشارع أو كانوا حوله في القصر، وأعني بالحماية: الحماية المسلحة، التي
تخوض المعارك دفاعا عن رئيس الشعب واختيار الشعب، والتي تتصدى لأي محاولة انقلاب
على الشعب. فالجيش يظل جيشا ما لم يخن الشعب وإلا صار عصابة، والحق أن جيوش العرب
ليست إلا عصابات ومرتزقة مهمتها قتل الشعب والفرار أمام الأعداء، ولا تجد في
تاريخها إلا إذلال شعوبها وسجلا حافلا من الهزائم المنكرة أمام عدو الأمة.
وما يقال على مرسي يُقال كذلك على حازم أبو
إسماعيل وعلى محمد بديع وخيرت الشاطر وغيرهم، وكلهم سقط بغير أن يُصاب من اعتقلوه
بخدش، ثم لم يكن ثمة تفكير في تحرير أحدهم. إن غياب هؤلاء القادة عن المشهد أسفر
عن فراغ خطير يعانيه معسكر مقاومة الانقلاب حتى اليوم.
ولا تتوقف المأساة هنا، بل إن إصرار جماعة
الإخوان ألا تصدِّر أحدا منها أو تدعم أحدا من غيرها كقائد لمعسكر مقاومة الانقلاب
(فضلا عن الطعن فيمن حاول سد هذا الفراغ) يجعل الأمر أخطر وأعسر، إذ لا تنجح حركات
تغيير بغير قائد، وإن لم يكن بين الموجودين أحد يتمتع بمواهب القيادة فإن محاولة
التخديم عليه وتلميعه وصناعته تسدّ كثيرا من الخلل، وأمامنا السيسي نفسه كمثال،
فقد صار له دراويشه برغم تفاهة شخصيته لأن فئة معسكره أسلمت له القيادة ولم تناوئه
وتعاونت على تلميعه وتفخيمه، وإن كان نجاحه –بالمقارنة مع ما أتيح له من إمكانيات-
يساوي الفشل الذريع.
وسيبدو حجم الكارثة بشكل أوضح لو –لا قدر
الله- أصاب الرئيس مرسي سوء إما بقدر الله أو باغتيال أعدائه (شنقا أو سما أو غير
ذلك)، وهو الاحتمال الذي يُواجَه برفض عاطفي لمجرد مناقشته، برغم ما يتجمع في
الأفق من شواهد تقويه وتجعله مطروحا محتملا لا بد من إعداد العدة للتصرف معه.
(3)
المال المفقود
قال الشاعر:
بالعلم والمال يبني الناس مجدهمو .. لم
يُبْنَ مجد على جهل وإقلال
فمهما أوتي المرء أو الحركة من علم ومهما
كانت رؤيتها واضحة، فإن نقص الأموال يغل يدها، ومن أسفٍ أن العدو يفهم هذا فهو لم
يتردد في مصادرة الأموال، بينما فضلت الثورة الدخول في المتاهات القانونية لتطارد
أموال مبارك وفريقه المهربة وغير المهربة، فصارت أموال مبارك وطائفته محفوظة مصانة
وأموال الثائرين مصادرة ومنهوبة.
ولم يزل السيسي يغدق الأموال على طائفته
(الجيش، الشرطة، القضاء) كل حين ليزدادوا به ارتباطا واستمساكا، فيما يعاني معسكر
معارضة الانقلاب من أزمات مالية طاحنة، أزمات دفعت بعض المطاردين للعودة إلى مصر
لشدة ما يلقون من الفقر والحاجة فبعضهم اعتقل وبعضهم قُتِل، وبعضهم ما زال يعاني
في غربته خارج مصر أو في غربته كمطارد داخل مصر، فضلا عن عائلات الشهداء والمعتقلين
والمصابين.
ويجب أن نذكر أيضا أن بعض الأموال تُدار على
غير الوجه الأحسن، وذلك ناتج عن غياب الرؤية أو تشوشها في أكثر الأحوال، وينتج
أحيانا عن حزبية ضيقة تعلو على الرحمة الإنسانية الواجبة والمسؤولية العامة. ثم إن
الفشل العام في إدارة مواجهة الانقلاب يُنَفِّر الباذلين والداعمين بطبيعة الحال، وكلما
طال أمد الفشل كلما انفض عنه المنفقون.
لقد تحطمت كثير من مشاريع مقاومة الانقلاب
على صخرة التمويل والدعم، لعل أبرزها وأشهرها ما حلَّ بقناة الشرق والتي كانت
الصوت الأعلى في مواجهة الانقلاب وكان ضيوفها يتحدثون بغير سقوف ولا حدود.
(4)
الدعم السياسي المفقود
تأثرت الحركة الإسلامية باتهامات العلمانيين
بأنها حركات غير وطنية تتلقى الدعم من الخارج، هذا برغم أنهم أكثر وأشهر من يتلقون
الدعم من الخارج، منذ أيام الاتحاد السوفيتي وأنظمة الاستبداد العربية وما يُفتح
لهم من أعمال الصحافة والإعلام والتدريس في الجامعات والمراكز البحثية (التابعة
لأجهزة مخابرات ومؤسسات دولية).. ورغم هذا يتحدث هؤلاء عن الوطنية!
هذا التأثر بهذه الاتهامات خلق حاجزا نفسيا
لدى قيادات الحركة الإسلامية –حتى الثورية منهم- وصاروا يتحرجون من أن يضعوا أنفسهم
في معادلة الدول، فتلتقي المصالح وتتقاطع الرغبات فيستفيد الجميع.
إن مفهوم الوطنية فضلا عن أنه ليس مفهوما
شرعيا مهيمنا على غيره، فإنه مفهوم لا يطبقه أحد، فالأنظمة تتعامل مع الأنظمة
فتتحد على الشعوب، فيما لا تسمح نفس هذه الأنظمة بالتعاون بين الشعوب، والكل يرى
كيف اتفقت أنظمة الثورة المضادة على شعوب الثورات ولم يبال أحد بمفهوم الوطنية
المقدس، وما زال شفيق في الإمارات وما زال السيسي يتلقى الأموال (الرزّ) حتى ممن
يراهم أنصاف دول!
لا شك أن أحدا لن ينتبه إلى معسكر مقاومة
الانقلاب إن لم تكن له قوة ووجود حقيق وفعال على الأرض، فلا بد أن تكون جزءا من
معادلة الصراع كي تستطيع إنشاء التحالفات والدخول في معادلة السياسة. إلا أن كسر
حاجز الخوف من الاتهام بالعمالة يجب أن يكون من الأولويات!
(5)
الإخلاص المفقود
وكان حقُّ هذا العيب أن يوضع في البداية،
إلا أني لو وضعته في البداية لانصرف أغلب الناس عنه لما أصابنا جميعا من مسٍّ
ماديٍّ وغياب إيماني، فإن القرآن أرشدنا إلى أن هزيمة أحد إنما كانت لأن البعض
أراد الدنيا في صف المجاهدين، ووجهنا إلى أن نفتش في أنفسنا وعيوبنا عند
الانكسارات، وقال تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) أي: قوتكم.
ولا يخفى على من له أدنى اتصال بصفوف مقاومة
الانقلاب (خصوصا الجانب السياسي، وفي الخارج بشكل أخص) ما يشيع فيها من أنواع
التحاسد والتنافس والتباغض، مما يعطل كثيرا من وجوه التعاون. ثم يشيع سوء الظن
وتحميل التصرفات فوق ما تحتمل، وأمور كثيرة لا يحسن الإطالة بذكرها ولكنها تقف
حائلة أمام التقاء أجنحة واتجاهات لو أنها اجتمعت واتفقت لكان في ذلك خير كبير
كثير!
وبرغم أن صف مقاومة الانقلاب هو صفٌّ إسلامي
بالأساس أي أنه يملك رصيدا من العلم الشرعي والتربية الإيمانية إلا أن طبيعة
الإنسان النسيان والقلوب تحتاج إلى تعهد وتجلية مما يعلق بها.
ولو أنه تحقق الإخلاص والتجرد في هذا الصف
لكان لذلك أثر عظيم، نكاد نرى بعضه ولا نرى أكثره، فإن هذا البعض متعلق بحساباتنا
بينما هذا الأكثر متعلق بما يفيضه الله علينا من البركة والفتح وجذب قلوب الناس
وقذف الرعب والفشل في قلوب الأعداء.
فاللهم ارزقنا الإخلاص!
نشر في ساسة بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق