اقرأ أولا:
وآخر ما نلحظ في "التكليفات الفردية" هو حرمة اليأس؛ إذ يحرم على المسلم الانسحاب
من مهمة إصلاح الحياة، والانهزام أمام ضغوط الواقع وقهر الظروف؛ بل إنه مأمور باستعمال سنن
الله I في مغالبتها، والصبر
عليها.
إن الإسلام يسلح المسلم بأخلاق التوكل على الله والصبر على
الأذى فيه: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل: 9، 10]، وفي وصية
لقمان لابنه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}
[لقمان: 17]، والمسلم -في هذا- يقتدي بتاريخ الأنبياء وصحابتهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ
عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12].
والمسلم يقرأ في سيرة النبي r كيف كان أول من أوذي في سبيل
الله؛ فعن أنس أن النبي r قال: "لقد
أُخِفْتُ في الله وما يُخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يُؤْذى أحد، ولقد أتَتْ
عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيءٌ يواريه
إبط بلال"([1]). والأخبار في هذا كثيرة ومتواترة،
وهو r لم يكن بِدْعا من الرسل؛ فكلهم أوذي وعودي وصبر على
قومه، ولو لم يؤمن معه إلا قليل؛ بل إن نوحًا u بعد نحو ألف سنة من الدعوة
{مَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40] وأكثر ما ورد في عدد من آمنوا أنه ثمانين
فقط، فيما وردت روايات بأنهم ثمانية فحسب([2])، بل ذكر النبي r أن النبي يأتي يوم القيامة
"معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد"([3]). فلو أن لليأس مكان في رسالات
الأنبياء ما كان يحدث مثل هذا!
كما ويعلم المسلم كيف كان صحابته الكرام أثبت الناس تحت عذاب
المشركين، حتى رسخت قواعد الإسلام، ونشأت دولته في المدينة بعد
ثلاثة عشر عامًا من العذاب والعنت والتضييق، ويحفظ أسماء بلال بن رباح وخباب بن الأرت
وعمار بن ياسر وأمه سمية.. وغيرهم، ويعلم ما تحملوه من العذاب
الرهيب، فلو كان لليأس مكان في الرسالة لما صبر أهلها ثلاثة عشر عامًا؛ بل الأمر على خلاف ذلك، إننا
لم نر النبي r غاضبًا إلا حين بدا ضجر من
سيدنا خباب بن الأرت t مما نزل بهم من العذاب فذهب
إلى النبي وقال: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا؟ قال r: "كان
الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجْعل فيه، فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه
فيُشَقُّ باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمْشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من
عظمٍ أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب
من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"([4]).
ولقد استعمل القرآن الكريم والنبي r بشائر انتصار الإسلام في
تثبيت المؤمنين على ما ينزل بهم من ابتلاء سواء في بداية الدعوة أو في بناء الدولة: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي
الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}
[الأنبياء: 105]، {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي
الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ
عَزِيزٌ} [المجادلة: 20، 21]، وقَصَّ الله على المؤمنين كيف نجى أنبياءه من أعدائهم
وكيف نصرهم عليهم: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا
بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ
كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] وبمثل ذلك وعد الله المؤمنين {وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}
[الروم: 47].
والمسلم استنادًا إلى عقيدته في الله القوي العزيز، وبعلمه بسيرة الأنبياء والمصلحين
وببشارات الله والنبي لما سيبلغه الإسلام في المشرق والمغرب، يعلم أن اليأس من صفات
الكافرين: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ
الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، وكفى بهذا الوصف حاجزًا بين
المسلم وبين اليأس!
لقد أمر الإسلام بالعمل حتى اللحظة الأخيرة في الدنيا، فقال
r: "إن
قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل"([5]). "فلا يأس مع الحياة!
والعمل في الأرض لا ينبغي أن ينقطع لحظة واحدة بسبب اليأس من النتيجة، فحتى حين تكون
القيامة بعد لحظة، حين تنقطع الحياة الدنيا كلها، حين لا تكون هناك ثمرة من العمل..
وحتى في هذه الحال لا يكف الناس عن العمل وعن التطلع للمستقبل، ومن كان في يده فسيلة
فليغرسها! إنها دفعة عجيبة للعمل والاستمرار فيه والإصرار عليه! لا شيء على الإطلاق
يمكن أن يمنع من العمل! كل المعوقات.. كل الميئسات.. كل المستحيلات.. كلها لا وزن لها
ولا حساب.. ولا تمنع عن العمل"([6]).
وقد وصف القرآن شخصية من يصيبه اليأس بالطيش والتقلب قائلاً: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ
مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49]، {وَإِذَا
أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ
كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء: 83]، {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً
ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ
بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ
فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود: 9 - 11].
كما حرص الإسلام على محاربة التثبيط ونشر اليأس، وأنكر القرآن
على من قالوا: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}، وأثنى على من قالوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ
غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:
249]، وأنعم على المجاهدين بأنه أقعد المنافقين فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا
زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]، وقال رسول الله r: "إذا قال الرجل:
هلك الناس فهو أَهْلَكَهم" -أو قال:
"أهْلَكُهُم"([7]). ووجه أمته إلى قول ما يثير
الهمم لا ما يثبطها فقال r: "يسِّروا ولا
تُعَسِّروا، وبشِّروا، ولا تُنَفِّروا"([8]).
وكان الانتحار -وهو آخر مراتب اليأس- من أكبر الكبائر في
الإسلام، "وقد قرر الفقهاء أن المنتحر أعظم وزرًا من قاتل غيره، وهو فاسق وباغ
على نفسه، حتى قال بعضهم: لا يُغَسَّل ولا يُصَلَّى عليه كالبغاة، وقيل: لا تقبل توبته
تغليظًا عليه، كما أن ظاهر بعض الأحاديث يدل على خلوده في النار"([9]). ومن ذلك قوله r: "مَنْ
تردَّى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنّم يتردَّى فيه خالدا مُخَلَّدًا فيها
أبدا، ومن تَحَسَّى سُمًّا فقتل نفسه فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهتم خالدا
مُخَلَّدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يَجَأ بها بطنه في نار
جهتم خالدا مخلدا فيها أبدا"([10]). وقوله r: "كان
بِرَجُلٍ جِراحٌ فقتل نفسه، فقال الله: بَدَرَني عبدي بنفسه حرَّمْتُ عليه
الجنة"([11]).
لكل ما سبق، كان اليأس أبعد ما يكون من أخلاق المسلمين؛ ومن ثم كان استشعارهم المسئولية
دافعًا لهم إلى العمل، ثم العمل، ثم التغلب على معوقات العمل
حتى تزول.
***
مما سبق –في هذه المقالات الخمس- نرى أن "التكليفات
الفردية" التي جاء بها الإسلام قد حققت الأمور الخمسة:
1. فليس في الإسلام عاطل أو مهمل، بل الكل مكلف مسئول وله دور
في مهمة الإصلاح.
2. والمسلم شخص مستقل متحرر من تقاليد الماضي وأعرافه
الموروثة، ومن ضغوط الحاضر وقيوده وعوائقه.
3. ويتخلق بالأخلاق الحسنة في نفسه ومع الناس.
4.
وإن بدر منه خطأ أو زلل وجد
من يستدرك عليه أو استدرك هو على غيره بما سميناه "التكليفات المتكاملة".
5.
ومتسلح بالصبر والتوكل على
الله فمنعه ذلك من اليأس والقنوط والانهزام أمام الواقع.
نشر في ساسة بوست