في إحدى قرى المنوفية، قبل أكثر من مائة عام، دخل ثلاثة من
الجنود الإنجليز -وهم في إجازة من عملهم العسكري- ليصيدوا الحمام..
فأصابت إحدى رصاصاتهم امرأة داخل جرن قمح، فقتلت المرأة واشتعل
الجرن نارا، فهاج زوجها يريد أن يسوق العساكر الإنجليز إلى القسم، فتعصب له زميلاه،
فتعصب للرجل أهل القرية، فهاجموا الإنجليز فأصابوا الثلاثة، لكن الثالث فرَّ منهم،
وأثناء فراره أصيب بضربة شمس فمات.
فحضرت القوة البريطانية فقررت أن تعاقب الرجل وجميع جيرانه،
وبينما هم يجمعون الناس للاعتقال، فرَّ منهم واحد، فأطلقوا عليه النار وقتلوه ومثلوا
بجثته.
ولمزيد من النكاية والانتقام عقد الإنجليز محاكمة لأهل القرية،
استغرقت في نظر القضية ثلاثة أيام لمحاكمة خمسين من المتهمين، ولم تعط المحكمة فرصة
لسماع الدفاع إلا نصف ساعة (أي 30 ثانية تقريبا لكل متهم).. ثم قضت عليهم بهذا القضاء:
الإعدام لأربعة
الأشغال الشاقة المؤبدة لاثنين
السجن خمس عشرة سنة لواحد
السجن سبع سنين لستة
خمسين جلدة لخمسة
ما قد يندهش له الكثيرون هو "المشاركة المصرية"
في هذه المحكمة، وكانت كالآتي:
1- أن رئيس المحكمة كان
بطرس غالي (جد بطرس غالي ويوسف بطرس غالي)
2- وأن أحد قضاتها كان
هو أحمد فتحي زغلول (شقيق سعد زغلول) وهو الذي كتب حيثيات الحكم القضائي
3- وأن تنفيذ الأحكام تم
تحت إشراف محافظ المنوفية
4- وأن الشرطة المصرية
"الخيالة" كانت تحرس موقع الإعدام الذي نُفِّذ في القرية أمام أهالي المحكوم
عليهم.
5- وأن ممثل الاتهام في
المحكمة كان هو إبراهيم الهلباوي، والذي برأ الإنجليز من دم المرأة والرجل وحرق الجرن،
وأدان الاعتداء الذي أوقعه الفلاحون على الضباط الإنجليز!!
6- وأن الصحف المصرية التابعة
للإنجليز (بما فيها صحيفتان نصرانيتان) أدانت التعصب الديني لدى الفلاحين الذين قتلوا
الإنجليز لمجرد أنهم كفرة (والواقع أنهم لم يقتلوا أحدا وإنما أصابوا، وأن الدافع كان
هو رد الاعتداء).
ولهذا يجب أن نعلم علم اليقين أن عملاء الاحتلال ليسوا أقل
ضررا من الاحتلال نفسه، بل أشد وأخطر.. وأنه ما نزل الكفر بأرض إلا وتحول إليه بعض
أهلها ضد أنفسهم وأهليهم وضد الحق والعدل.
لقد أثارت هذه الحادثة كافة الأحرار في مصر وغيرها، حتى لقد
أدانها بعض الإنجليز أنفسهم، وترتب عليها عزل اللورد كرومر الحاكم الفعلي لمصر..
غير أن الذي يجب أن نتوقف عنده طويلا.. أن كرومر عُزِل تتبعه
اللعنات، فيما بقي نظامه ورجاله يواصلون عمله..
لقد صار بطرس غالي رئيسا للوزراء، يحكم وينفذ ويبيع موارد
البلد لأجيال قادمة للإنجليز.. وظل أحمد فتحي زغلول من النخبة الوطنية، وظل إبراهيم
الهلباوي كذلك من هذه النخبة.
ولقد منَّ الله على المصريين بأن استطاع إبراهيم الورداني
-شاب من الحزب الوطني التابع لمصطفى كامل- أن يغتال بطرس غالي (1909).. لكن لم يستطع
أحد الوصول إلى غيره فظلوا كما هم.
وحين كنت اقرأ مذكرات أحمد أمين، لفت نظري هذا الموقف العجيب..
لقد آتاه خبر دنشواي وهو في وليمة عشاء، فكتب يقول:
"فتنغص عيشنا، وانقلبت الوليمة مأتما، وبكى أكثرنا".
لكنه بعد عدة صفحات يحكي لنا مواقف عن إبراهيم الهلباوي الحاضر
دائما في الصالونات الثقافية، فهو يجالس من "تنغص عيشهم" قديما بلا نكير،
بل ويقوم أهل المجلس والبوليس على حراسته ورعايته مما قد يقوم به بعض الشباب من تذكير
له بتاريخه في محكمة دنشواي.
وبعد عدة صفحات أخرى وفي حفل تكريم لأحمد أمين يذكر كيف كان
حفل تكريمه هذا مشهودا، فيذكر الموائد ومن كان على رأسها فيكون منها مائدة على رأسها
إبراهيم الهلباوي نفسه!!
لقد ذهب تنغص العيش وبكاء الوليمة القديمة، وصار الرجل حاضرا
على مائدة ولائم التكريم!
إنني ما زلت متحيرا، هل من العدل إدانة أحمد أمين في مثل
هذه المواقف؟ أم أنه قانون الزمن.. قانون فشل الثورات وحركات المقاومة التي من توابعها
أن يعلو الأرذلون في الأرض ويصيرون هم النخبة!
لقد صار هؤلاء نخبة بقوة قانون الزمن، ما يستطيع أحد أن يحذفهم
من جملة النخبة ولو كره، يُدعون في المجالس ويُقَدَّمون في الولائم والحفلات.. رغم
كل تاريخهم!
لو أن هذه الثورة فشلت وانتهت حقا، فسيكون معتز عبد الفتاح
وناجي شحاتة وتوفيق عكاشة ومصطفى بكري وتامر أمين وأشباههم هم نخبة العصر.. ولن تتلوث
أسماؤهم إلا إن حدثت ثورة أخرى ونجحت بعد نصف قرن آخر على الأقل!
إن عرابي ظل مشتوما ملوثا طوال عهد أسرة محمد علي، حتى إن
من ورثوا القضية كانوا يذكرونه بالشتائم أيضا.. فإنك لتجد في رسالة لمحمد فريد -الزعيم
الوطني ووارث الحزب الوطني لمصطفى كامل- موجهة إلى الخديو يصف فيها الثورة العرابية
بأنها "الثورة المشؤومة".
ترى هل كانوا مخدوعين جراء الغزو الفكري والتخريب المعرفي؟
أم كان ذلك أمر قاهر لا يستطيعون منه فكاكا؟.. هذا مبحث آخر. لكن الخلاصة أن هزائم
الثورات وحركات التحرر تأتي بالأرذلين في موضع النخب، وتلقي بالثائرين تحت الأقدام.
فاختاروا لأنفسكم.. واختاروا لأبنائكم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق