روى أحمد أمين في مذكراته عن إضراب للطلبة في
مدرسة القضاء الشرعي، فيه عبرة وعظة ودرس في السياسة والتربية، قال:
"أضرب فصل من فصول المدرسة لأن الناظر حتم
عليه الألعاب الرياضية في مكان معين. وكان هذا المكان مشمسا والدنيا حارة، فاستأذن
الطلبة أن يلعبوا في الظل، فأبى بحجة أن الطلبة يجب أن يتعودوا الخشونة في العيش والصبر
على الشدائد. ولكن الطلبة لم يعجبهم هذا القول فامتنعوا عن اللعب ووقفوا في الظل لا
في الشمس.
فلما علم الناظر بذلك رعب وامتقع لونه لأن هذه
أول حادثة من نوعها. فحضر في حالة عصبية ولكنه كتم غيظه، وطلب من الطلبة أن يصعدوا
إلى فصلهم فأبوا، ثم كررها فأبوا، ففكر لحظة ماذا يفعل، ثم رأى أن مخاطبة الجموع غير
مجدية، فنادى طالبا بعينه تفرس فيه الخوف والطاعة، وأمره أن يخرج أمام الصف فخرج، ثم
قال له:
إما أن تصعد إلى فصلك وإما تخرج من باب المدرسة
إلى الأبد.
وكل الطلبة كانوا يعلمون من الناظر جده وصدقه
والتزامه تنفيذ وعده ووعيده، فإذا قال الكلمة ففداؤه رقبته، فتردد الطالب قليلا، ثم
صعد إلى فصله.
وتفرس أيضا فنادى الثاني، وقال له ما قال للأول
ففعل فعله، ثم نظر إلى الجماعة نظر المنتصر الظافر، وقال لهم:
أظن أن لا معنى بعد ذلك للإضراب، انصرفوا إلى
فصلكم.
فانصرفوا وانكسر الإضراب".
***
كان الفيلسوف الإيطالي إيكو -الذي تحول إلى روائي-
يقول: "عندما يتعطل التنظير تبدأ الرواية"، يعني بذلك أن الفكرة التي يعجز
المرء عن كتابتها فكرا يمكنه أن يحكيها في رواية، ولذلك تحول هو نفسه من كاتب مفكر
إلى روائي، يضع أفكاره في صيغة روائية.
***
هذا الموقف الذي رواه أحمد أمين تتكثف فيه كثير
من الأفكار التي ينبغي لنا أن نهضمها جيدا:
1. ففيه درس في قيادة الجموع والتعامل مع تكتلها
بالتفريق والتفكيك، وإنزال العقاب بأضعف حلقاتها.. وطالما خرج الأمر من التكتل إلى
التفرق انهارت قوة المجموع.
2. وفيه درس في فلسفة "الدولة الحديثة"
التي تعجز تماما عن التعامل مع المجموع، فهي تبذل كل وسيلة لتحويل كل المجموعات إلى
أفراد، مواطنين، ويزعجها أي نوع من التكتل القبلي والعشائري، كما يزعجها أي نوع من
تدبير المجتمع لشؤونه وأموره، ولهذا لا تستقر الدولة الحديثة إلا بتدمير كل التكتلات
ليتعامل النظام مباشرة مع المواطن الفرد ويتحكم فيه.
وقد شرح تيموثي ميتشل في كتابه "استعمار
مصر" كيف تنفر الدولة الحديثة من كل شيء متكتل وعميق وخارج عن سيطرتها.
- فهي تؤسس لمدن حديثة مفتوحة ذات شوارع واسعة
يمكن للسلطة فيها أن تصل إلى كل مواطن بدون عوائق، عكس المدن القديمة الضيقة المتعرجة
المتكتلة التي تغلق حاراتها بالأبواب ليلا -أو عند هياج الجند- والتي تختفي فيها النساء
في البيوت والتي لا يمكن إنفاذ إحصاء لها والتي تتكافل من داخلها فتعيش بغض النظر عن
سلطة الدولة.
(وطبقا لما يرويه أولج فولكف في كتابه
"القاهرة، مدينة ألف ليلة وليلة" ص140، فإن أول من كسروا أبواب الحارات هم
جنود الحملة الفرنسية خوفا من الوقوع في الكمائن ومن تحصن الثوار المصريين خلفها، وهم
أول من ألزموا الناس بوضع فوانيس منيرة على بيوتهم ليلا.. وما لم ينجح فيه الفرنسيس
نجح فيه فيما بعد محمد علي الرهيب)
- وهي تؤسس لتعليم نظامي رتبت طرائقه وأساليبه
بحيث يتحول الطالب إلى فرد منفرد منفصل بذاته، لا يكون أبدا جزءا من مجموع التلاميذ
كما هي الحال في طرق التعليم القديمة "شيخ العمود".. (ولكن ينبغي أن نذكر
أيضا أنه لولا الانحطاط في الأزهر ومستوى مشايخه وثمرة تعليمه ما كان ليسود نظام التعليم
الحديث والمدارس النظامية هذه) .. وتتحكم هي في مناهجه تحكما كاملا حتى إن أحمد أمين
يروي في مذكراته أن كل كتاب يجب أن يخلو من السياسة خلوا تاما، ولو كان في الشعر والأدب،
بل ذكر أن المدرسة كانت تحتاج تصريحا بخلو المصحف من السياسة يأتي من المشرف على وزارة
المعارف الإنجليزي "دنلوب"
- وهي تسعى لاحتكار كل موارد القوة والنفوذ،
سواء أكان السلاح أم الزعامة الشعبية أم نظم التكافل.. ولا تغفر لمن يتهرب منها، فمجرد
الهروب من التجنيد يستلزم العقوبة، حتى تنتهي إلى الحالة المثالية التي وصفها جوروج
أورويل في روايته 1984 وهي "نموذج الأخ الأكبر" الذي لا يرضى بأقل من السيطرة
على العقل والنفس.
نشر في شبكة رصد
ولمزيد بيان يرجى قراءة هذه المقالات:
قصة مصر في 200 سنة: http://goo.gl/bRO87o
النموذج الفرعوني ليس في السياسة فقط http://goo.gl/2y9uKs
بين التنظيمات والجماعات الوسيطة https://goo.gl/aD8otG
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق