قلنا إنه لا بد أن تكون أولى أصول علم
الاستغراب: الانطلاق من الإسلام، وذكرنا في المقال الماضي أن الانطلاق
من الإسلام نابع من حتمية وجود نموذج، ولا ينبغي للمسلم أن يكون له منهج غير
الإسلام لا في التصورات ولا فيما يترتب عليه من أحكام.. كذلك فإن الإسلام ليس مجرد
نموذج، وإنما هو حق مطلق، لأنه رباني متجاوز ومفارق للبشرية بكل ما فيها من نقص
وعيوب وتأثر بالبيئة والثقافة وسائر ما يؤثر على الطبيعة البشرية.
ونستكمل فنقول:
وحيث كان هذا "النموذج" دينا، فإن
ما فيه من علم يحسم الإجابة عن أسئلة نهائية ومصيرية، وما فيه من توجيهات يرتقي
ليبلغ مرتبة الفرض أو العبادة التي يُتقرب بها إلى الله خوفا وطمعا فيحفز هذا نشاط
الأتباع، وما فيه من هدايات وضوابط يتحول إلى أوامر ونواهٍ فيُجتهد في تنفيذها
برقابة الضمير الذاتي وخوفا من الحساب الآخر.
ولتوضيح الصورة نحتاج ضرب أمثلة على: العلم،
والتوجيهات، والهدايات.
أ. فأما العلم،
فمنه عام مُجمل كُلِّي كالثوابت والأصول، ومنه خاص جزئي تفصيلي:
فأما العام المجمل الكُلِّي، فكإدراك أن
الحق واحد، وأنه حقيقة، وأن منه ما هو ظاهر لا يخفي، ومنه ما يَدِقّ ظهوره ويحتاج
اجتهادا في إدراكه. فإن الإيمان بهذا إيمان ببطلان النسبية والعدمية وتكافؤ
الأدلة، ويستلزم هذا: التعامل معها كباطل ابتداءً، يُبحث في بطلانه وتهافته وآثاره
السيئة، فضلا عن أن تكون هذه الانحرافات أساسا يُسَلَّم به أو تُبنى عليه مناهج
تحليل!
وكذلك العلم بمنهج الإسلام في بناء الفرد
والمجتمع، والتوازن بين الروح والمادة، وبين الفردية والجماعية، وبين الحاكم
والرعية، فالعلم بهذا المنهج يضبط نظر الإنسان ورؤيته في تحليل ما سوى ذلك من
المناهج، فلا يذوب في الموضوع المدروس انبهارا به أو تطرفا في رفضه، بل يقوم في
نفسه العلم بالحق فيقبل بحق ويرفض بحق ويعرف موضع الانحراف ومقداره.
وأما الخاص الجزئي التفصيلي، فكقول النبي
"تصالحون الروم صلحا آمنا، وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائهم فتسلمون وتغنمون، ثم
تنزلون بمرج ذي تلول، فيقوم إليه رجل من الروم فيرفع الصليب ويقول: الأغلب الصليب،
فيقوم إليه رجل من المسلمين فيقتله، فعند ذلك تغدر الروم وتكون الملاحم، فيجتمعون إليكم
فيأتونكم في ثمانين غاية[1] مع كل
غاية عشرة آلاف"[2].
فمن هذا الحديث نعلم أن الروم سيظلون حتى
آخر الزمان، وسيظلون عدوا حتى آخر الزمان، ولا يمنع هذا من فترات صلح وتعاون
وتحالف ضد عدو مشترك، وأن المسيحية ستبقى شعارهم وجزءا أصيلا من تكوينهم إلى
النهاية[3]،
ويشير تعدد الرايات إلى أنهم لا يصيرون أمة واحدة بل سيظلون منقسمين إلى دول، لكل
دولة جيش، وإن اجتمعوا في تحالف واحد.
فهذا مثال على العلم الذي يحسم أمورا، ويجيب
عن أسئلة، ويحكم التوقعات وتسترشد به التحليلات، فلا يأتي على بال أحد -ولو في
ذروة النصر العظيم- أن هذه هي نهاية الروم كما كانت نهاية الفرس، أو يأتي على بال
أحد -ولو في ذروة انتصار العلمانية- أن أوروبا ستتخلى عن المسيحية، أو يأتي على
بال أحد -ولو في ذروة الاتحاد الأوروبي والأطلسي- أن الروم سيصيرون يوما دولة
واحدة[4].
كذلك فإن دراسة الظواهر الاجتماعية والأخلاق
وحتى العلوم التطبيقية ستتأثر بوضوح وتختلف منطلقاتها، وإذا أخذنا مثالا فجًّا
ليتضح المعنى فسنذكر مسألة اللواط أو "الشذوذ الجنسي"، إن الأمر في
الإسلام محسوم الحرمة، وفاعله يعاقب عقوبة شديدة باعتباره اقترف جريمة. بينما جرت
الأمور في الغرب على تدرج نفيه كخطأ، ثم اعتبرت بعض الدراسات أن المسألة راجعة
لحالة نفسية، ثم -وفي مرحلة لاحقة- اعْتُبِر أن المسألة راجعة لحالة جسدية وجينات
وراثية، ثم اعتبرت حقا من الحقوق، وأخيرا أسبغت الشرعية على زواج المثليين.
هنا تكون انطلاقة المسلم في دراسة الظاهرة
مختلفة كليا عن رؤية الغربي لها، فهذا يحسم أنها انحراف ثم يبحث في جوانب نشوئه
وعلاجه بينما الآخر يتيه في تحديد كونها انحرافا أم لا منذ البداية، ويترتب على
هذا التيه تيه أكبر في النتائج يستحيل معه إدراك حق فضلا عن الرجوع إليه: {ذَهَبَ اللَّهُ
بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ
فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 17، 18]، وقد اخترنا هذا المثال لشدة وضوحه
وحدِّيته، ولكن المقصد أن الرؤية الإسلامية عامل حسم في فهم وتحليل الأوضاع
الاجتماعية والمذاهب الفكرية.
ب. وأما
التوجيهات فمنها:
طلب العلم الذي صار فريضة على كل مسلم ولم
يعد مجرد شيء مرغوب فيه، فتحركت بهذا دوافع النشاط العلمي في المسلمين كأقوى ما
يكون.
ومنها الاقتداء بالنبي r في كل أحواله، فهذا أيضا ليس مجرد شيء
حسن بل هو واجبٌ على كل مسلم، ومما يتعلق بموضوعنا
هذا من سيرة النبي r:
§
ما كان عليه r من الوعي بالمحيط الدولي من حوله منذ اللحظات
الأولى للدعوة، فعلى هذا اختار لأصحابه الهجرة إلى الحبشة لأن "بها
ملكا لا يظلم عنده أحد"[5]،
وبهذا راسل هرقل وحَدَّثه عن "الأريسيين"[6]،
واستدرك على عدي بن حاتم أمرا في مذهبه فقال له: "ألستَ رُكوسيًّا[7]؟ ألستَ
تأكل المرباع[8]؟"
فقال عدي: بلى. فقال النبي r: "فإن ذلك لا يحلّ
في دينِك"[9].
§
توجيهه r لزيد بن ثابت بتعلم لغة اليهود، وذلك
قبل أن يكمل عمر الدولة الإسلامية أربع سنوات، وذلك لهدفين: أن يقرأ مسلم موثوق
فيه الرسائل الواردة إلى النبي r بهذه اللغة[10]،
ولكي يُحْرَس القرآن من تحريف اليهود إذا هم نقلوه إلى لسانهم، قال r: "يا زيد تعلم لي كتاب يهود، فإني
والله ما آمن يهود على كتاب"، فتعلم زيد لغتهم في خمس عشر ليلة[11].
ولا يعرف قدر هذا التوجيه إلا من قرأ تاريخ ما فعله المترجمون غير المسلمين في
الدولة العثمانية، أو ما فعله ويفعله الغرب الآن في ترجمات القرآن الكريم[12].
جـ. وأما
الهدايات، فمنها:
الحث على السياحة والسير في الأرض مع النظر
والاعتبار و"تذكر حال الماضين والاعتبار بما كان لهم في زمانهم وما انتهى
إليه أمرهم من عمار أو دمار، وليس هذا إلا ليزداد الفكر تنورا والعقل تبصرا وينفسح
أمامه مجال النظر والتصرف وترتيب المسببات على الأسباب، سنة هذا الشرع الحنيف فيما
كلفنا به من الأعمال"[13]،
فموضع الهداية -أو الضبط- هنا هو الحجز عن أن يكون الغرض مجرد سياحة وتمتع ولذة
نفسية، بل تشكيل العقل المسلم على التبصر والتفكر والاعتبار.
ومنها: العدل والإنصاف، وهذا أهم ما نقدمه
في موضوع دراسة الغرب بديلا عن "الخرافة" المسماة بـ "الحياد
العلمي"، فالعدل والإنصاف مع الجميع أمر ممكن، وكون الإسلام دينا يجعل المرء
تحت رقابة الله وإن فقد الرقيب، ويبتغي وجه الحق برغم المصالح والأغراض التي تغريه
أو ترهبه لتحمله على قول الزور أو تزوير الحقائق، وهذا هو الفارق الكبير بين أن
يوكل الباحث إلى دين أو أن يوكل إلى نفسه، ولقد تحير حسن حنفي في إيجاد شيء يحجز
الباحث في الاستغراب عن الوقوع في التعصب للشرق كما فعل المستشرقون لما تعصبوا
للغرب، ثم لم يجد إلا أن يَكِل هذا إلى "وعي الباحث وأصالته"[14]!
وما دام يصر بعضهم على عدم اعتماد "الإسلام" كدين ونموذج حاكم فلن يجد
شيئا من المناهج الأرضية يمكنه إلزام أحد بشيء!
وصحيحٌ أن الخطأ وارد والمعصية واردة وأن
مجرد اعتناق الباحث للإسلام لا يعفيه من الخطأ أو التزوير، لكنه ذات الفارق بين
إلزام الناس بقانون لا يُحترم إلا في وجود الشرطة، وبين اعتناقهم دينا يحترمونه
ويلتزمونه من تلقاء أنفسهم ولا بأس بعدها من وجود شرطة أيضا. ولكن في العمل البحثي
ليس ثمة شرطة على الباحث إلا الضوابط العلمية، ويعرف كل باحث أنه من السهل تحقيق
هذا "الشكل" العلمي لعمله غير النزيه، بل إن ذوي الصنعة يعرفون كيف
يعيدون بعث الخرافات في عصر العلم إذا "أضيفت إليها زخارف عصرية" بتعبير
مكسيم رودنسون[15].
نشرت في نون بوست
[1] غاية: أي راية.
[3] ويُستأنس لهذا
المعنى بحديث آخر –وإن كان فيه ضعف- يقول: "فارس نطحة أو نطحتان؛ ثم لا فارس بعدها
أبدا، والروم ذات القرون أصحاب سحر وصحر، كلما ذهب قرن خلف قرن مكانه، هيهات إلى آخر
الدهر، هم أصحابكم ما كان في العيش خير". رواه ابن أبي شيبة: المصنف (10699)، وابن
قتيبة: غريب الحديث 1/65، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3999).
[4] ولئن كان ثمة
من يخالف هذا التحليل لسبب أو لآخر، فليس المقصود الآن بيان صحته أو خطئه، بل بيان
أن العلم المعصوم، يحسم إجابات ويحل إشكالات كانت من دونه ستبقى بلا إجابات ولا
حل.
[12] يقول الشيخ
عبد السلام البسيوني -في معرض ثنائه على جهود د. حسن المعايرجي في موضوع ترجمة
القرآن- إن الداخل لهذا الباب يجد "مئات الترجمات الحقيرة المسيئة لكتاب الله
تعالى، بمئات الطبعات، ومئات اللغات، بمئات الأشكال والأحجام "اقترفها" قساوسة
وحاخامون، ودجاجلة ومستشرقون، وخمورجية وحشاشون، وجواسيس وصيادون في الماء العكر، كلهم
"يعك" شيئا يسميه ترجمة، مرًة تحت اسم "قرآن محمد" ومرة
"أحاديث محمد على المائدة" وثالثة "مختصر القرآن" ورابعة أهم عشر
سور، وخامسة القرآن مرتبا على طريقة "حادي بادي كرنب زبادي"، أو "واحد
اثنين عم حسين".. جرأة رهيبة، وإهانات بشعة ضد القرآن الكريم، الذي هان بهوان
أصحابه، ولا من منتبه، ولا من غيور، ولا رقيب ولا حسيب". عبد السلام
البسيوني: دعاة ومشاهير عرفتهم ص111.
[13] أحمد زكي: السفر إلى المؤتمر
ص6، والكلام في المتن للشيخ عبد الكريم سليمان الذي قرظ الكتاب فأثبتها أحمد زكي
في المقدمة.
[15] مكسيم
رودنسون: الصورة العربية والدراسات الغربية الإسلامية، ضمن "تراث
الإسلام" بإشراف شاخت وبوزوروث 1/69.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق