عانت مصر من
تدهور الأحوال على كافة المستويات، وفي نهاية ثلاثين سنة من حكم مبارك العجوز التقت
رغبات أطراف عدة على إسقاط نظامه؛ ففي الداخل لم يرض العسكر –وهم يرون حكم مصر حقا
لهم منذ 1952- بخطته لتوريث ابنه جمال، وكان الشباب قد اكتشفوا أنفسهم وواقعهم من
خلال الانترنت الذي لم يتح فقط مصادر حرة للمعلومة بل أتاح بيئة للتفاعل والتواصل
والمبادرة.
وبعد نجاح
أمريكا في إسقاط نظامين وإقامة نظامين في أفغانستان والعراق، لم تشك في قدرتها على
فعل هذا في مصر بغير حرب، إذ هيمنتها على النظام المصري كاملة. فحملت النظام على
إجراء انتخابات شبه ديمقراطية وعلى ترك مساحة واسعة للإعلام –الذي شهد منذ أواخر
2004 ثكاثرا في عدد الصحف والفضائيات- الذي صار يهاجم شخص مبارك بضراوة مفاجئة، ثم
التقى مرة أخرى –بخلاف اتجاهاته- على تلميع محمد البرادعي ليكون الرئيس القادم.
كذلك شهدت مصر تكاثرا في منظمات المجتمع المدني التي تبنت أو دعمت حركات شبابية أو
بعض رموزها.
صار المشهد
كالآتي: ساحة مهيئة للثورة، تزداد سخونة بالإعلام الجرئ، أجنحة النظام متعارضة في
ظل حاكم عجوز، نخبة علمانية، والإسلاميون لا يريدون أكثر من التغيير وفتح مساحة
حرية ولا ينوون المنافسة على الحكم، ووقود الساحة شباب يمكن احتواؤه، وشخصية
علمانية تتصدر التغيير.
جاءت الشرارة
بسقوط نظام بن علي، فشهدت مظاهرات 25 يناير –التي خرجت في يوم عيد الشرطة للاحتجاج
على الشرطة- أعدادا غير مسبوقة، سرعان ما شجعت أطيافا أخرى على النزول في يوم 28
يناير الذي كان يوم الثورة بحق، إذ استطاعت الحركة الشعبية كسر جهاز الشرطة وحرق
العديد من المقرات الأمنية، ثم صاحب ذلك تنفيذ لخطة فوضى بفتح السجون، لكن خطة
الفوضى دعت المزيد من الناس للنزول وتشكيل لجان شعبية، فساهم هذا في مزيد من
انهيار الجهاز الأمني وسيطرة الناس على الشوارع، ونزل الجيش للسيطرة على المقرات
المهمة.
بدت هذه
اللحظة هي المناسبة للتخلص من حكم مبارك، نزل الجيش إلى الشارع، وأعلن في وقت لاحق
أنه لن يتصدى للمتظاهرين، ورغم أن هذه الأيام الثمانية عشرة قد شهدت عددا من
اللحظات كان يمكن فيها فض الاعتصام في ميدان التحرير إلا أن هذا القرار لم يتخذ،
أو اتخذ ولم يُسمح بتنفيذه. فصار الميدان بؤرة تتسع وتحتوي الفاعلية الثورية التي
تمددت لتصل إلى إضرابات في المصانع الحربية ودعوات لحصار مبنى التليفزيون وقصر
الرئاسة. وعند هذه اللحظة اتخذ الجيش قراره بالانقلاب على مبارك، لكنه أخرج المشهد
في صورة: تنحي!
بدا سقوط
مبارك بعد ثلاثين سنة كالمعجزة، وبذل المجلس العسكري جهدا كبيرا لطمأنة الشارع
الذي أحس بقوته وقدرته على صنع المعجزات، فرتب لجنة تعديلات دستورية متوازنة (ستة
شخصيات تحظى بالاحترام وتمثل القوى: الإسلامية والليبرالية والقومية واليسارية
والأقباط) وضعت تعديلات محترفة تنهي بها المرحلة الانتقالية في ستة أشهر.
كانت هذه
التعديلات –نظريا- أسرع وأسلم طريقة تحول من الثورة إلى الدولة، فقد رتبت انتخابات
البرلمان الذي سينتخب لجنة تكتب الدستور، وفي أثناء كتابة الدستور ينتخب الرئيس،
فينتهي كل شيء في ستة أشهر وفي ظل الزخم الثوري لحماية النظام الجديد. إلا أن هذه
التعديلات تقضي عمليا على نفوذ العسكر والعلمانيين فإنهم بلا شعبية، فانطلقت حملات
إعلامية ضخمة ضد الإسلاميين (ما تزال كل وسائل الإعلام بيد النخبة العلمانية)
خصوصا الغول السلفي الخارج من كهف النسيان، وكانت الصدمة هائلة حين خرجت النتائج
بتأييد التعديلات بنسبة 77%.
قال الشعب:
نعم، وسار العسكر في طريق "لا"، وغض الإسلاميون الطرف عن هذا رغبة في
تجنب الصدام مع الجيش، وانقسم المشهد إلى ثلاث فئات: فلول وعسكر - علمانيين – إسلاميين،
وفي الوسط بينهم شباب ثائر مفتقد لقراءة المشهد وطبيعته وهم على استعداد لبذل دمائهم
لكن ضعفهم وتفرقهم يعجزهم عن فرض خيارهم ومثاليتهم تُعجزهم عن اختيار أفضل الحلين.
وفي خلال الستة أشهر –التي زادت إلى العام ونصف- تضخم الاستقطاب بين الأطراف
جميعا. وفي خلالها انبعث فجأة إسلاميون آخرون لا يقبلون تنازلات الإخوان على رأسهم
رجل المرحلة حازم أبو إسماعيل الذي أعاد المشهد إلى حقيقته: صراع الشعب إسلامي الهوى
والمزاج ضد العسكر ومعهم العلمانيون الذين يريدون تجاوز الشعب وصنع نظام فوقي ثم
تسويقه، مما أربك الخريطة السابقة تماما. وانقلبت مشورة وأفكار النخبة العلمانية
العسكرية عليهم: فتأجيل الانتخابات أدى لزيادة الاستقطاب (فازداد الإسلاميون قوة وازداد
غيرهم تشرذما) وابتداع نظام الانتخاب القائمة الذي اضطر معه الإخوان للمنافسة على
كل المقاعد لا على ثلثها كما تعهدوا ثم -وهو الأعجب- أنه أتى لهم بالسلفيين (وقد كان
مستحيلا حصولهم على هذه النسبة بالفردي).
خلال العام
والنصف، وقعت كثير من الوقائع الثورية والاشتباكات الدموية أبزرها: فض اعتصام
التحرير (تبعه اعتذار من المجلس العسكري) فض اعتصام أهالي الجرحى (تبعته أحداث
محمد محمود التي اضطر المجلس العسكري على إثرها أن يحدد موعد الانتخابات الرئاسية)
فض اعتصام مجلس الوزراء (وفضيحة سحل الفتاة) ثم عدد من المرات في العباسية
والتحرير ورمسيس وغيرها. وتحطم ما كان بين العسكر والإسلاميين من ود ظاهر، خصوصا بعدما
رفض المجلس العسكري أن ينفذ صلاحيات مجلس الشعب، وبعدما استعمل سلاح القضاء لحل
لجنة الدستور ثم لحل مجلس الشعب. وكانت القاصمة برفض تشكيل البرلمان للحكومة،
وترشح عمر سليمان وأحمد شفيق لانتخابات الرئاسية (وهذا يعني عودة عصر المذابح من
جديد)، فاضطر الإخوان للترشح للرئاسة. وبعد سجالات وأحداث عصيبة فاز محمد مرسي،
بعدما قدم الإخوان كل ما يجعلهم أفضل المتاح: اعتدال في مقابلة تشدد حازم أبو
إسماعيل (المرشح الأوسع شعبية على الإطلاق)، شعبية تجعلهم طرفا يملك تحقيق الاستقرار،
تعهد بالحفاظ على الوضع الخاص للجيش في مقابل المطالب الثورية، وهم الخيار المتاح
أمام شباب الثورة المخلص بديلا عن عودة النظام القديم، وهم الخيار المتاح أمام
غيرهم من الإسلاميين والأفضل من النظام العلماني أو النظام العسكري.
منذ اللحظة
الأولى لفوزه بدأ طوفان إعلامي غير مسبوق ضده وضد نظامه في محاولة مبكرة لتقويضه،
وتضافرت مؤسسات الدولة القديمة مع وسائل الإعلام (التي تدفقت عليها أنهار من المال
الخليجي) لتنهي تجربته في أقرب وقت، واستطاعت هذه الموجة أن تبتلع كافة الرموز
الشبابية الثورية (التي تم تصنيع أغلبها إعلاميا عبر العامين ونصف العام) لتكون –إلا
القليل النادر- من أشد الفئات على مرسي. وأثيرت الفوضى الأمنية التي يدعمها
التحريض الإعلامي والتخريب الاقتصادي والأحكام القضائية والتمويل الخارجي ليظل
المشهد طوال عام حكم مرسي من أغرب ما يكون: دولة تعمل ضد رئيسها.
وعلى الجانب
الآخر، بذل مرسي جهودا مضنية وخرافية في تحسين الأوضاع الاقتصادية وحقق على هذا
المستوى نجاحا مدهشا (لكنه لم يُسوَّق في ظل الآلة الإعلامية الجبارة لخصومه)،
لكنه كان في غاية السوء والفشل في إدارة ملفات الأمن والسياسة. ذلك أنه –وبنفسية
الداعية الإصلاحي- تعامل مع الجيش والأمن والمخابرات والإعلام وخصومه السياسيين
بقدر مدهش من الرفق واللين والتسامح رغبة في كسبهم، بينما جعلهم هذا يطمعون فيه
أكثر وينتقلون إلى هجوم أوسع. وكان من ضرورات ذلك ألا يصارح الشعب بحقيقة ما يحدث
وأن يدير معركته في الخفاء والدهاليز مما أسفر عن تفتت الالتحام الشعبي خلفه، بل
وانسياق كثير منه مع الموجة الإعلامية الهادرة ضده. وكان أخطر ما في الأمر: الوثوق
الكامل من جانب مرسي وقيادات الإخوان بشخص السيسي ومحمد إبراهيم.
توج هذا كله
بمشهد 30 يونيو الذي دُبِّر لتنفيذ انقلاب 3 يوليو، وهو المشهد الذي توقعه الجميع
إلا الإخوان، أو لعلهم توقعوه ولم يريدوا أن يصدقوه، فوجدوا أنفسهم فجأة أمام دولة
انقلبت عليهم وأظهرت أنيابها، وبين نظام استعاد نفسه عبر سنة حكمهم وبين جماعة لم
تحسب للأمر حسابا جرى المشهد الحاضر حتى الآن: نظام يعرف ما يريد ومقاومة متفاجئة
مندهشة تحار في أمرها، لذا سدد النظام ضربات قوية باعتقال القيادات المؤثرة وفض
الاعتصامات بعنف ومصادرة الأموال والسيطرة على المؤسسات والجمعيات. فتشتتت الجماعة
–ومن ورائها الإسلاميين- واستفاق شباب الثورة المخدوع على الحقيقة الأليمة، فمنهم
من أكمل المسير ومنهم من توقف أو همس باعتراض فاعتقل وأقلهم انضم لمعسكر مقاومة
الانقلاب مشتتا كغيره من رفاق معسكره.
لكن نظام
السيسي فشل فشلا ذريعا في إدارة الشأن المصري بعد الانقلاب، رغم الدعم الكامل من
مؤسسات الدولة ومن النظام الإقليمي والدولي، ولم يستطع القضاء على الإخوان، بل
أنتج بطشه بذور حركات مسلحة يبدو أنها تتطور وتزيد قوة مع الأيام. بالإضافة إلى
فشله في الملفات الاقتصادية والسياسية، وهو الآن يعاني سوء علاقات مع كل دول
الجوار، وزاد الأمر سوءا عليه بتغير الوضع في السعودية.
تتمثل أهم
النجاحات في: حسن استعمال الانترنت وتنظيم الشباب لأنفسهم في حركات وفعاليات
ثورية، إسقاط حسني مبارك، مقاومة المجلس العسكري حتى إسقاطه وإنجاح مرسي، صمود
مرسي والإسلاميين في مواجهة الانقلاب العسكري وتثبيت شرعية مرسي، والمقاومة
الإعلامية الفاعلة لنظام السيسي.
وأما أهم الإخفاقات
فهي في تنازلات الإسلاميين رغبة في تجنب الصراع مع المجلس العسكري، وإطالة الفترة
الانتقالية، والتنازلات المريعة بغية الوصول إلى توافق مستحيل مع العلمانيين، وسوء
الأداء الإعلامي والسياسي لاحتواء شباب الثورة، والمنهج الإصلاحي مع الدولة
العميقة، والوثوق في شخصية السيسي، وبقاء مرسي في القصر الرئاسي، والاعتصام بعيدا
عنه، واكتفاء الاعتصام بالسلمية في لحظة الانقلاب ولحظة فض رابعة وما بعدها،
والفشل في التعامل مع ملف الانقلاب وفي بناء قوي وفاعل لتحالف دعم الشرعية، والثقة
في سرعة سقوط الانقلاب، وتأخر تجديد الدماء في المواقع القيادية، والتصلب على نهج
سياسي يثبت عدم جدواه.
وخلاصة التقييم
العام أن ثورات هذه المنطقة تؤول إلى الإسلاميين فهم المعبرين الحقيقيين عن
طموحات الناس، بينما الانقلابات تكون دائما مدعومة من أنظمة الاستبداد والاحتلال،
ولذا تفشل دائما محاولات الوصول إلى حلول وسط وعليه فلا يصلح النهج الإصلاحي في
الثورات والمعارك الكبرى، وعليه فلا أمل في الوصول إلى توافق بين العلمانيين
والإسلاميين، لأن العلمانيين هم الذراع المدني للنظام الدولي –الذي يدعم ويسند
ويتغذى على الذراع العسكري الذي هو الجيوش المحلية- ومن ثم تؤول الثورات إلى تحالف
عسكري علماني ضد الإسلاميين. ومن ثم ينبغي على الإسلاميين امتلاك أنواع القوة
للوقوف بأنفسهم ضد محاولات استئصالهم وليكونوا جزءا من معادلة السياسة التي لا تأبه
إلا بالقوي.
موجز لمن كان له عقل
ردحذفويجب ان نتعلم وان نعى وأن نعقل وان نفهم أنه لن يرضى عنا ابدا العلمانيين ولا الاشتراكين ولا العسكر وانه لاتوافق أبدا بين الإسلامييييين وغيرهم من قوى الشر والمتربصين بالتيار الإسلامى
ردحذف