اقرأ أولا:
ما زلنا نواصل التقاط مواقف الفيلسوف المخضرم الكبير د. عبد
الرحمن بدوي من حكم العسكر عبر مذكراته الحافلة الصادرة في جزئين، وهو الذي عايش العهدين:
الملكي والعسكري، وحقق من المكانة الفكرية ما لا ينكره أحد ولو كان من أشد أعدائه.
وموضوع هذا المقال هو تجارب الوحدة العربية الفاشلة في
عهود العسكر العرب، وكيف استطاع العسكر زرع الولاءات القطرية الضيقة حتى نشأت عداوات بين الشعوب نفسها.
(36)
"كان عبد الناصر الذي أجرى في يومي 12،
13 فبراير سنة 1970 محادثات في القاهرة مع جعفر النميري، رئيس جمهورية السودان،
ومع قائد الثورة الليبية، وجرى الحديث بين الثلاثة حول تشكيل اتحاد من الدول
الثلاث. وتلا ذلك انعقاد مؤتمر في الخرطوم من 24 إلى 29 مايو سنة 1970 للبحث في
نفس المشروع. لكن لم ينجم عن هذا كله أي شيء محدد.
فلما تولى السادات رئاسة الجمهورية تواصل
الحديث في نفس موضوع الاتحاد بين الجمهوريات الثلاث وذلك في مستهل نوفمبر سنة
1970، وتوصلوا هذه المرة إلى وضع الخطوات الفعلية لتحقيق هذا المشروع.
وفي الوقت نفسه سعت سوريا، وكان حافظ الأسد
قد تولى السلطة فيها في نوفمبر سنة 1970، للانضمام إلى هذا الاتحاد. فأعلنت في 27
نوفمبر سنة 1970 انضمامها إلى الاتحاد بين مصر والسودان وليبيا كما تقرر في إعلان
طرابلس.
وفي 17 إبريل سنة 1971 وقَّع زعماء الدول
الأربع على تكوين هذا الاتحاد، وتم التوقيع في مدينة بنغازي...
ماذا كانت آثار هذا "الاتحاد المزعوم
بين مصر وليبيا والسودان وسوريا؟
1-
أما في
السودان فقد قامت في 19 يوليو سنة 1971 مجموعة من ضباط الجيش بالتحالف مع الحزب
الشيوعي السوداني بالاستيلاء على السلطة واعتقال اللواء جعفر النميري... وهنا قامت
القوات السودانية الموالية للنميري، وبمساعدة القوات المصرية الموجودة في السودان،
فقضت على هذا الانقلاب بعد ثلاثة أيام فقط من قيامه. وعقدت محاكم عسكرية أصدرت
حكمها بإعدام 12 ضابطا رميا بالرصاص، وتم تنفيذ الحكم، وإعدام ثلاثة من زعماء
الشيوعيين...
2-
أما في مصر
فقد هرع الوصوليون للظفر بمغانم: إذ أنشئت وزارة شبحية تدعى الوزارة الاتحادية
تألفت من أشباح من مصر ومثلها من ليبيا، وشكلت لجان تنظيمية وتشريعية وإدارية إلخ
هذه المسميات العابثة التي تنافس في الانخراط فيها أساتذة كليات الحقوق بخاصة، إذ
رأوا في ذلك ما يوفر لهم بدلات سفر وشراء اللوازم المنزلية التي توصيهم بها
زوجاتهم! ولم يتورع البعض منهم من التطوع –النفعي طبعا- للتعاون مع المخابرات
الليبية ضد "أعداء الوحدة" من المصريين العاملين في ليبيا. قاتلهم الله،
ما أحقرهم!
3-
أما في ليبيا،
فباستثناء "هيئة المنتفعين" بدأت الظاهرة التي شاهدتها من قبل في سوريا
في سبتمبر 1958 أعني: "كراهية المصريين المحتلين الجدد". فازداد أفراد
الشعب الليبي كراهية لنا نحن المصريين المقيمين منذ سنوات للعمل في ليبيا. ولم
يكتفوا بالتطاول والتحرش، بل أخذوا في ترتيب هجمات ليلية على المصريين. كانت تخرج
منهم مجموعات من أربعة أشخاص أو أكثر، فإن صادفوا سائرا اشتبهوا في أنه مصري سألوه
عن الساعة مثلا أو غير ذلك، وسرعان ما يتبينون من لهجته أنه مصري، فينقضون عليه
بالضرب المبرح ثم يهربون. وكان من بين من تولوا هذه الحملة بعض التجار والمثقفين!!...
وتزايد حقد الليبيين وعنفهم على المصريين
حتى انفجر انفجارا عنيفا في فبراير سنة 1973 على إثر إسقاط إسرائيل لطائرة مدنية
ليبية في 21 فبراير كانت قد ضلت طريقها فوق سيناء، وقتل جميع من فيها: 108 من
المصريين والليبيين، ومن بينهم صالح بويصر الذي كان وزيرا في إحدى وزارات ما بعد
انقلاب الأول من سبتمبر. وكأن مصر هي المسؤولة عن سقوط الطائرة، وكأنه لم يكن في
الطائرة من المصريين أكثر مما كان فيها من الليبيين، وكأن سيناء لم تكن احتلتها
آنذاك إسرائيل!!
ففي صباح يوم الجمعة بعد حادث هذه الطائرة
انطلقت الجماهير في شوارع بنغازي وهي تصيح في حالة جنونية هستيرية: "وحدة لا
.. وحدة لا" – أي لا وحدة أبدا مع مصر. وإذا صادفوا مصريا في الطريق انهالوا
عليه بالضرب، فجرحوا العشرات من المصريين الذين تصادف سيرهم آنذاك وهو في الطريق
إلى أداء صلاة الجمعة أو لقضاء حاجاتهم المعتادة.
ولما كنت ساعتئذ في البيت، وهو على بعد
أمتار قليلة من شارع الاستقلال الذي كان يموج به تلك الجماعات الثائرة الهائجة،
فقد استطعت أن أسمع كل هتافاتهم ضد مصر والمصريين ومطالبتهم بإلغاء أية صورة من
صور الاتحاد مع مصر. ولم أشاهد شرطيا واحدا ليبيا يعترض طريقهم أو يدعو إلى التفرق
أو الكف عن الهتاف الهستيري ضد مصر.
وأنا أعجب لحكام مصر كيف لم يتعظوا بتجارب
الماضي القريب:
- أقاموا وحدة مع سوريا في فبراير 1958
فانهارت انهيارا مروعا شائنا في سبتمبر 1961 وهام أكثر من ثلاثين ألفا من المصريين
على وجوههم في سوريا، ولجأوا إلى لبنان فاستضافهم أولا مطرودين، وأطيح بكتائب
المظليين الذين أرسلتهم مصر بقيادة ضابط يدعى الهريدني واستسلموا في خزي وعار.
- وأقاموا وحدة مع اليمن في أواخر سنة 1962 واضطروا إلى خوض حرب
مريرة ضد الجيش اليمني الموالي للإمام البدر والقوات السعودية المؤيدة لها، وفقدنا
في ذلك المئات من خيرة الضباط (ومنهم ابن أخي، العقيد ماهر بدوي) والجنود،
واضطررنا إلى إبقاء ما يقرب من خمسين ألف جندي في اليمن في الوقت الذي كنا فيه في
حرب مع إسرائيل في 5 يونيو والأيام الأربعة التالية، واضطررنا بعد ذلك إلى مغادرة
اليمن وعقد صلح مع السعودية، وعاد الجيش المصري من اليمن محطما لم يحقق أي هدف.
- وها هم أولاء يعيدون محاولة الاتحاد: مع ليبيا والسودان وسوريا،
وستنتهي هذه المحاولة هي الأخرى بالإخفاق الذريع رغم أن صيغة الاتحاد كانت مفككة
مهلهلة تمثل أقل قدر من الاتحاد، بل انقلب الأمر إلى مأساة: فقد اقترحت ليبيا ومصر
قيام وحدة اندماجية بينهما حُدّد لتنفيذها شهر سبتمبر سنة 1973. وفي هذا السبيل
زار السادات ليبيا في يونيو سنة 1973 وهنالك تبين له خطورة هذه العملية، خصوصا وهو
مقدم على الحرب مع إسرائيل (في 6 أكتوبر 1973). وبطريقة مفاجئة جاء قائد الانقلاب
الليبي إلى القاهرة وأمضى فيها فترة طويلة من 22 يونيو إلى 9 يوليو لحمل السادات
على تنفيذ مشروع الوحدة الاندماجية. ولما لم يوافق السادات على خطته، بعث بمسيرة
"شعبية" من الليبيين في سيارات اتجهت إلى الحدود المصرية لإرغام مصر على
إعلان الوحدة مع ليبيا، فما كان من السادات إلا أن أرسل قوات للتصدي لها وأوقفها
بُعيْد مدينة مرسى مطروح بأن قطع الطريق ومنع من السير فيه، فارتدت
"المسيرة" عائدة إلى ليبيا. ومع ذلك حاول السادات تهدئة الموقف، فأرسل
بعض الوزراء إلى طرابلس ومعهم الوصوليون المتطلقون خصوصا من أساتذة الحقوق، ووضعوا
خطة للوحدة على مراحل مع تشكيل جمعية تأسيسية مؤلفة من خمسين عضوا عن كل دولة،
مهمتها وضع مشروع دستور واختيار رئيس يُصادق عليه بعد ذلك عن طريق الاستفتاء. وكان
من بين بنود هذه الخطة تبادل وزراء مقيمين وتشكيل مجلس أعلى للتخطيط.
ولما شنت مصر الحرب على إسرائيل في 6 أكتوبر
أعلن قائد الانقلاب الليبي عدم موافقته على خطة مصر في حربها ضد إسرائيل. وجاء إلى
باريس بترتيب مع جريدة لوموند وعقد مؤتمرا صحفيا... هاجم فيه مصر وحربها مع
إسرائيل، ولما عاد من باريس راح يطالب مصر بإعادة الطائرات الحربية –ولا تزيد عن
العشرين- التي كان قد أعارها لمصر!
ومن هنا بدأت فترة توتر حاد متزايد الشدة في
العلاقات بين مصر وليبيا:
- فمصر اتهمت ليبيا بالتورط في الهجوم
المسلح الذي قامت به جماعة دينية بقيادة فلسطيني يُدعى [صالح] سرية على الكلية
الفنية العسكرية في إبريل سنة 1974، وفيه قتل 11 طالبا من طلاب هذه الكلية
والجنود.
- وفي أغسطس سنة 1974 اكتشفت وجود طائرات
ليبية عسكرية من نوع ميراج في الصحراء الغربية المصرية.
- وأعيد إلى مصر مائتا ألف من المصريين
العاملين في ليبيا، وأسيئت معاملتهم إلى أقصى حد من جانب الشرطة الليبية.
- ومصر اتهمت ليبيا بأنها تطمح في الاستيلاء
على جزء من الأراضي المصرية المتاخمة لليبيا، ومن العجب الذي يستنفد كل عجب أن
ليبيا التي لا يسكنها إلا 1.75 مليون نسمة، بينما مساحة أرضها 1749000 كم2
أي ضعف مساحة مصر تطمع في الاستيلاء على المزيد من أرض مصر التي يبلغ سكانها آنذاك
37 مليون نسمة ومساحتها مليون كم2 (بالضبط 1002000 كم2)!!
ولهذا قال السادات عن الزعيم الليبي "إنه مريض مائة في المائة، وقد استولى
على عقله شيطان يجعله نهبا للأوهام". وسينعته السادات منذ ذلك دائما بنعت
"مجنون ليبيا".
- وقامت ليبيا في أغسطس سنة 1976 بالتحرش
بالقوات المصرية على الحدود عند السلوم، وقام بعض الجنود الليبيين بالهجوم على
مخفر السلوم، فاضطرت مصر إلى إرسال قوات دخلت ليبيا وتوغلت فيها حتى طبرق واستولت
على معدات حربية كبيرة تركتها القوات الليبية الهاربة. وهنا قام هواري بومدين وقد
استغاثت ليبيا فتوسط لوقف تدخل القوات المصرية، فانسحبت من الأراضي الليبية حاملة
معها غنائمها الوفيرة.
وحسبنا هذا القدر الآن لبيان ما انتهت إليه محاولة الوحدة مع ليبيا"[1].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق