شغلت مشكلات البشر أذهانهم منذ قديم، وقد ضرب كل ذو عقل فيها
بسهم، فمُجيد ومسيء، ومجتهد ومقلد، وعميق وسطحي، وظلت العقول تبني الأفكار –والأحلام
والخيالات كذلك- ثم يصدقها الواقع أو يكذبها.
والواقع ذاته صانع للأفكار ومصنوع لها، فهو والدها وهي ولدته،
تلك العملية الدائرية الجدلية المشهورة: يأخذ الفيلسوف من واقعه صورةً لحلمه، ثم يسعى
لتطبيق حلمه في واقع يستعصي عليها، فينجح أو يفشل أو ينجح بقدر، ثم يأتي الفلاسفة فيرد
بعضهم على بعض، يأخذ اللاحق من السابق فيزيد وينقص ويأخذ ويرد، حتى صار الحل حلولاً،
وطريق الخروج طرقًا كثيرة، وأمست العقول مذاهب وطرائق شتى، فأضيفت إلى أزمات الناس
أزمة عقولهم، أو بالأصح: أضافت عقولهم أزمة إلى أزماتهم، حتى صار الجاهل أسعد من العاقل
على نحو ما قال المتنبي:
ذو العقل يشقى في
النعيم بعقله
|
|
وأخو الجهالة -في
الشقاوة- ينعمُ
|
توهمت العقول مدنا فاضلة مثالية، وعجزت عن تطبيقها في أرض
الواقع، ثم بحث الآخرون فيما فشل الأولون فتوهموا مدنًا أخرى.. وهكذا!
(1)
ليس البشر إلا أبناء زمانهم، وليست عقول البشر إلا بعضا منهم،
وما تصورته العقول من "المدن الفاضلة" كان في حقيقته انعكاسا لما عاشوه من
أزمات ومشكلات، حتى لكأنها معكوسها، ولم يكد يتغير هذا مع تراكم المعرفة الإنسانية
والتجارب التاريخية والمحاولات الفلسفية، بل ظل الذين يعيشون في الفوضى والتمزق يحلمون
بالوحدة والانضباط ولو مع بعض من الاستبداد أو كثير منه، كما ظل الذين يعيشون تحت الاستبداد
يحلمون بالحرية ولو مع بعض من الفوضى، وما زال الذين يعيشون تحت حكم الجهلاء يحلمون
بحكم الحكماء والفلاسفة، وما زال الذين يعيشون في المجتمعات الطبقية يحلمون بالعدالة
الاجتماعية وتقليص الفوارق بين الطبقات... وهكذا!
ما يزال الإنسان يبحث عن النظام الذي يجمع المزايا ويتجنب
العيوب، واحتارت العقول، هل البداية من الفرد أم من السلطة، من الأخلاق أم من القوة،
من التربية أم من القانون؟! وما تزال التساؤلات الفلسفية بغير إجابات نهائية جازمة
مثل: ما مدى أحقية الفرد في ممارسة حريته وسط الجماعة في مقابل ما مدى صلاحيات الجماعة
في تحديد حرية الفرد؟ ومن نقدم: حرية الفرد أم قيم المجموع؟ إلى أي حد ينبغي أن تتدخل
السلطة في تنظيم أمور المجتمع؟ وما مدى علاقتها بثقافته وميوله؟ هل هي تعبير عنها أم
توجيه وتعميق وترسيخ لها؟ هل علاقة السلطة بالمواطن كعلاقة الأب بالأبناء؟ أم القادة
بالجنود؟ أم الوكيل بالأصيل؟ وما غاية هذه الحياة: أهي سعادة الفرد أم سعادة المجتمع؟
وما السعادة: هل هي الرفاه المادي أم المساواة في توزيع الثروة أم غير ذلك؟ ولأي مدى
يحق للإنسان أن يملك شيئًا في هذه الحياة: هل يجوز أن يملك شيئًا أم لا؟ وعند أي نقطة
يكون قد جار على غيره أم ما زال يتمتع بما أوتيه بمواهبه وحسن تدبيره؟
ذهبت عقول الفلاسفة والعقلاء شرقًا وغربًا، ثم أنتج كل عقل
ما انتهى إليه.
(2)
عاش كونفوشيوس في عصر ساده الاستبداد والتمزق في الصين، ويُروى
أنه عُيِّن وزيرًا، وبدأ في تحقيق نجاح ساحق في دولته "لو"؛ فخشيت دولة "تشي"
المجاورة والمنافسة من هذا النجاح؛ فأرسلت فرقة من الراقصات
إلى حاكم "لو" فافتتن بهن وأهمل أمور رعيته، فخاب مسعى كونفوشيوس، واعتزل
السياسة وبدأ التفكير في إصلاح هذه الأحوال([1]).
لذلك تميزت تعاليم كونفوشيوس بعدة أمور أبرزها: الحل يبدأ
من إصلاح الفرد لا من السلطة، وينبغي أن يربى الفرد تربية أخلاقية تجعله قادرًا على
فعل الفضائل وتبادلها مع الآخرين، فالأخلاق والفضائل هي الضمانة لثغرات القوانين، وينبغي
أن يكون التعليم أمرًا عامًا وشائعًا لكل الناس، فكل الناس سواء وسواسية، وحين يحدث
هذا ستنصلح أحوال الممالك بطبيعة الأحوال؛ لأن الشعب هو من سيفرز السلطة؛ بحيث يكون الحاكم متحليًا
في نفسه بأسمى الأخلاق، وهو من سيستطيع تقويمها إن حادت عن الأخلاق ولم تعد تعمل في
مصلحة الشعب، وحين تحدث عن السياسة كان أبرز ما في تعاليم كونفوشيوس إعطاء صلاحيات
أوسع لمنصب الوزير، فكانت تعاليمه مجرد انعكاس لفساد واقعه([2]).
وفي مقابل كونفوشيوس يأتي أفلاطون الذي نشأ في المجتمع اليوناني
"الديمقراطي" فكانت فلسفته تنزع إلى محاربة التمزق والفوضى، ولهذا فهو لا
يرى أن الناس سواسية، بل إن الطبيعة قسمتهم إلى طبقات بحسب ما أعطتهم من المواهب والقدرات،
حتى ينتهي الأمر إلى ثلاثة مستويات: أعلاها الفلاسفة والحكماء؛ وهم أصحاب الفكر والعقول، الذين يجب أن يحكموا البلاد؛ لأنهم الجديرون بمعرفة ما
يصلحها وما هو غير ذلك، ثم طبقة المحاربين، وفي النهاية تأتي طبقة العمال والعبيد،
ولا ينبغي لمن في طبقة أن يفكر في تغيير وضعه أو مكانته؛ ولهذا تركزت فلسفة أفلاطون
وخياله عن المدينة الفاضلة في إصلاح هذه الطبقة الحاكمة، وهو من أجل أن ينزع أسباب
التنافس والنزاع بين البشر قرر بأنه ينبغي أن تكون النساء والأولاد مشاعًا؛ كي يختفي أي انتماء عصبي
ويتوجه الانتماء كله إلى الدولة، وحارب أفلاطون الملكية؛ لأنها تجعل الحكام ذوي مصلحة
شخصية مثلهم من المزارعين والبنائين؛ وفي هذا خطر على المصلحة
العامة([3])، وحين يكون الحاكم حكيمًا
فيلسوفًا؛ فإنه قادر على تدبير الأمر بما يتلافى ثغرات القوانين، أو
هو بالأحرى لا يحتاج قانونًا في ظل ما يتمتع به من حكمة وحرص على مصلحة البلاد([4]).
وهكذا كان كونفوشيوس –في ظلال الاستبداد الصيني- أقرب إلى
حق الشعوب من أفلاطون في ظلال الديمقراطية اليونانية!!
(3)
وكان توماس مور، وهو صاحب لفظ "يوتوبيا"([5]) الذي صار علامة على
"المدينة الفاضلة" ردة فعل على إنجلترا القرن السادس عشر، فانتشار النزعة
الفردية بين الناس وكثرة النبلاء الذين يعتاشون على جهد الكادحين ولديهم القدرة على
تعطيل القوانين جعلته مناديًا بالجماعية وبالعدالة الاجتماعية، ومن الأشياء ذات الدلالة
أن توماس مور لم يفكر بطريقة إصلاح الواقع؛ بل سار وراء خياله ليتخيل
أرضًا أخرى، حيث تنتفي الملكية الخاصة والربح الشخصي؛ حيث يؤدي هذا إلى الظلم والحرب؛ بل "حيثما وجدت الملكية
الخاصة، وكان المال هو المعيار الذي يُقاس به كل شيء، فيكاد يكون من المستحيل تقريبًا
أن يسود المجتمع العدل أو الرخاء"([6])، ويتخيل مور أن العلاقة بين
الحاكم والرعية هي علاقة الأب بأبنائه، وأن هذا الحاكم هو أفضل الناس
وصاحب أخلاق تجعله لا ينحرف تحت ضغط أي إغراء، وهو لا يتميز عن باقي الرعية
برداء أو تاج، وأن النزاعات تخفت تمامًا بين الناس فإن حدثت اجتمع لها ثلاثة قضاة؛ فابتكروا عقوبة مناسبة تكون
غايتها الإصلاح لا الردع، ويكون توجه الناس في هذه الأرض نحو نشر الفضيلة، لكن مور
–وياللعجب!- احتفظ -أيضًا- ببعض العبيد وحرمهم من حق التمثيل في حكم اليوتوبيا، وسلب
حق المواطنة والتمثيل في الحكومة من الملحدين (أي غير المسيحيين)([7]).
(4)
هذه الأمثلة تعبير عن توجهات عامة فكم من تصورات لاحقة للمدينة
الفاضلة تركز على الأخلاق الفردية، وكم من تصورات تركز على إلغاء الملكية وشيوع النساء؟!
وكم من تصورات تبتغي قوة الدولة –ولو على حساب الفرد-؟! وعلى عكسها تصورات تبتغي سعادة
الفرد -ولو على حساب الدولة- وهكذا.. وعلى سبيل المثال:
-
نجد توما الإكويني (المسيحي/
المتدين) وكانْت ("العقلاني/ التنويري") على غرار كونفوشيوس في الاهتمام
بالأخلاق الفردية.
-
ونرى كثيرين جدًّا متأثرين
بطبقية أفلاطون حتى ماركس، إلا أن ماركس عَكَسَها فجعل الطبقة الأهم هي طبقة العمال
"البروليتاريا"، التي ينبغي أن تثور على الطبقات
العليا "البورجوازية".
-
ومثلما أراد أفلاطون (الوثني)
إلغاء الأسرة والملكية الخاصة تابعه في هذا كامبانيلا (المسيحي) ثم تابعهما ماركس
(الملحد)!
-
كما أخذت فكرة الشيوعية تتقلب
بين الأزمان والبلدان فهذا مزدك في بلاد فارس استطاع جعل النساء والأموال مشاعًا بين
الناس لفترة وإن قصرت؛ حتى أفسد البلاد، ثم قتله كسرى أنوشروان، واستطاع
ليكورجوس سن قوانين صارمة -لتحقيق المساواة بين الناس- في إسبرطة تدخلت في الطعام والشراب
والأثاث وحتى المعاشرة الزوجية.
-
وفي حين خالف أرسطو أستاذه
أفلاطون في الشيوعية، وقرر أن الأسرة والملكية الخاصة ينبغي أن تظل بلا مساس،
فقد تَابَعَه في بقية آرائه.
-
وعلى غرار أرسطو جاء جان بودان
الذي التقى مع أرسطو وأفلاطون في ضرورة وجود الدولة القوية؛ لكنه رأى السبيل إلى ذلك
عبر قوانين محكمة ودساتير مثالية([8]).
وقد شَذَّتْ كثير من الفلسفات في اتجاهات عدة حتى أوغلت إيغالاً
شديدًا:
-
فهذا نيتشه (الملحد) الموغل
في الفردية والباحث عن الإنسان الأعلى (السوبر مان) يندفع في هذا حتى ليكره الضعف والضعفاء، ويكره الرحمة بهم والشفقة
عليهم([9])، ومثله مالتوس (القس المسيحي)
الذي يعتبر أن الفقر والمرض والزلازل أشياء إيجابية، وهي نوع من تكفير الطبيعة
عن خطاياها في الإتيان ببشر أكثر من مواردها([10])، وقد كان كل من نيتشه ومالتوس
في رغبتهما لإفناء الفقراء والضعفاء يكرران تجربة ليكورجوس (الوثني) في إسبرطة؛ الذي كان يقتل الأطفال الضعفاء
أو المشوهين؛ لأنهم لن ينفعوا المجتمع والدولة([11]).
-
وفي مقابل نيتشه يأتي دور
كايم الموغل في الجماعية؛ الذي لا يرى للإنسان وجودًا
مستقلاًّ عن المجموع، والمجتمع هو الذي أنتج الفرد وليس العكس، والفرد ليس إلا نتاج
القوى الاجتماعية المحيطة به مثل الأسرة وعلاقات
العمل، وقواعد المجتمع جبرية ملزمة، وليس للفرد حرية اتباع النظام
الاجتماعي أو الخروج عليه([12]).
-
ويأتي مارتن لوثر ليقوم بحركة
إصلاحية واسعة في المسيحية ردًّا على التسلط الكهنوتي وامتلاك الكهنة لصكوك الغفران
وتجارتهم بأراضي الجنة، فيتطرف في محاربة هذا حتى ينفي قيمة للعمل، ويؤكد أنه طالما آمن المسيحي
بعيسى مخلصًا فهو فائز؛ وإن ارتكب كل الفواحش والذنوب،
بل كان يحرض ويحث على ارتكابها([13]).
-
وهذا جبرييل دي فواني وديدرو، يوغلان في الحرية حتى يقترحان إلغاء الحكومات ذاتها([14])، وهو رد فعل متطرف على التطرف
في الحكم والاستبداد والتسلط؛ سواء في الواقع أو في التصورات
الفلسفية الشمولية.
ولا يسمح المقام باستقصاء أوسع من هذا، كما وليس هذا هو مقام
الرد أو التفنيد لهذه التصورات أو غيرها، ويكفي ردًّا عليها فشلها جميعًا في إقامة
ذاتها عمليًّا على واقع الأرض، ولو لفترة قليلة؛ بل لعله يكفي دليلاً أن بعض
أصحابها إنما اعترفوا بكونها خيالاً حين انصرفوا منذ البداية لتخيل أرض جديدة في أوضاع
وظروف مغايرة، فكأنما ذلك تسليم باستحالة إصلاح أحوال الواقع لتكون –أو لتقترب- من
الخيال المأمول!
على أنه يمكن القول وبشكل عام: إن ما احتوته هذه التصورات
كان في كثير من جوانبه مناقضًا لفطرة الإنسان؛ مثل: تحطيم رابطة الأسرة، أو إلغاء الملكية الخاصة، وشيوعية الأطفال والنساء،
أو كان في جانب آخر أحادي التصور والوجهة بالتركيز على الفرد أو المجموع -الأخلاق أو
القانون- السلطة أو المجتمع.. وهكذا، وأقل ما يمكن أن يقال في نقد هذه التصورات هي
أنها تتخيل إمكانية الوصول إلى لحظة نهائية ساكنة لا يأتي عليها تغير أو تبدل أو تطور، وكفى بهذا مناقضة لطبيعة
البشر وطبيعة الحياة ذاتها.
نشر في ساسة بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق