في ذكرى موت عبد الناصر.. المجرم الأكبر ومؤسس حكم العسكر
مما قد يخفى على الكثير أن حلم التحرر والاستقلال الذي كان
في أواسط القرن العشرين كان في جوهره مؤسسا على قناعة وعقيدة تقول بأنه إذا حَكَمَنا
بنو أوطاننا فإنهم سينهضون بنا على نحو ما فعل أبناء أوروبا في بلادهم.
كانت النظرة السائدة آنذاك تحصر المأساة في كون من يحكموننا
ليسوا منا.. إما لأنهم أتراك (المدرسة القومية) أو لأنهم أجانب كالإنجليز والفرنسيين
والطليان (المدرسة الوطنية) أو لأنهم نخبة قليلة من الأعيان أصحاب الأملاك (المدرسة
الشيوعية المادية)
هذه المدارس التي تداخلت أحيانا كانت تلتقي عند هذه القناعة
وتستبطن جميعها هذه العقيدة "لو أن الذي حَكَمَنا كان منَّا فإنه لا محالة سيكون
وطنيا مخلصا لبلده ولقومه وللفقراء من شعبه".
بينما لم تكن المدرسة الإسلامية تعني بشخص الحاكم وعرقه وطبقته
بقدر ما يعنيها دين وأخلاقه والنظام العام المهيمن، فإن هذا كفيل بإصلاح البلاد سواء
كان من يحكم مصريا أو تركيا، غنيا أو فقيرا.
فلما جاء عصر الانقلابات العسكرية وأولها انقلاب حسني الزعيم
في سوريا، وأخطرها انقلاب عبد الناصر في مصر.. عاشت الأمة واحدة من أسوأ أحقابها التاريخية
على الإطلاق، سواء على مستوى الداخل أو على مستوى الخارج.
وكان من بين ما سُحِق من القيم والقناعات والمبادئ، قناعة
أنه لو حكمنا من هو منا فإنه سيخلص للبلاد والناس.
إن إجرام عبد الناصر لا يقارن بإجرام الإنجليز، لا في القتل
ولا في الاستبداد ولا حتى في السجون! وكذلك إجرام البعث في العراق بالنسبة للإنجليز،
وفي سوريا بالنسبة للفرنسيين، وإجرام القذافي بالنسبة للإيطاليين... إلخ.
خرافة "المصري لا يقتل المصري" صارت خرافة فقط
بعدما أثبت عصر عبد الناصر العسكري أنها خرافة، وأنه يمكن -وببساطة- أن يحدث هذا وبدم
بادر!
كان السجن في عهد عبد الناصر يتمنى أن ترضى عنه كلبة حمزة
البسيوني -قائد السجن الحربي- لأنه كان يُخفف العذاب عمن كانت ترتاح له الكلبة فلا
تنبح في وجهه، بينما إذا نبحت عليه لحقه مزيد من العذاب!!
الوقائع المهولة كثيرة، وكتبت فيها مئات الآلاف من الصفحات
سواء كمذكرات أو كأحكام قضائية أو كتقارير صحفية.. ولكن الشاهد المقصود من هذا السياق
أن الناس الذين أجمعوا على أن تخلفنا كان سببه أن من حكمنا كان تركيا أو أجنبيا أو
غنيا، رأوا بأنفسهم أن كل هؤلاء كانوا أرحم بهم من بني وطنهم.
لا أزال أتذكر الرجل المعمر الذي لما سألته عن ذكرياته في
عهد الملك وعبد الناصر نظر إليّ ساخرا وقال: على الأقل الملوك مؤدبين إنما ولاد الـ....
دول شوارعية محدش رباهم، ده محدش كان يعرف يتكلم معاهم، بينما كان الملك يودعك بنفسه
إلى الباب!
والآن وبعد ستين سنة من حكم العسكر، لم يبق قائما إلا ما
رسخته المدرسة الإسلامية: المشكلة ليست في الطبقة ولا العرق، بل أين موقع الدين من
نفس الحاكم وموقعه من نظام الدولة.