رواية: بر الزنج / تأليف: عمرو عبد العزيز /
سبتمبر 2013 / نسخة إلكترونية
الانترنت عدو الدولة المركزية..
ويمكن الحديث عن التاريخ باعتباره ثلاث مراحل: ما قبل
الدولة المركزية، الدولة المركزية، ما بعد الانترنت!
قبل الدولة المركزية كان المجتمع يفرز قيمه وأفكاره،
فالعالِم هو من استمع له الناس لا من عينه السلطان، والشاعر هو من طرب الناس لشعره
لا من اتخذه السلطان. أما في عصر الدولة المركزية فالقول ما قالت الدولة، والأدب
ما أرادت له الدولة أن يكون أدبا، والخطيب لا يرتقي المنبر إلا بتصريح رسمي، وصارت
أدوات التوجيه تحت سيطرة النظام، فلا يسمع الناس إلا شعراء الدولة ولا يعرفون غير
فقهائها، فصاغت الدولة مجتمعا على قالبها وطريقتها. حتى إذا جاء الانترنت وتواصل
الناس بلا رقيب[1] لم
تعد سلطة الدولة كما كانت، لقد التقى من فرقتهم الحدود والجغرافيا، ووجد المغمور
سبلا لأن يكون من المشاهير، وتلك المواهب التي كانت وستظل مجهولة انفتح لها باب
واسع، وصار الانترنت واقعا بديلا، وصارت المواقع إعلاما بديلا، واكتشف الناس
كُتَّابا وشعراء وفقهاء وموهوبين لم يكونوا ليُعرفوا لولاه، هذا فضلا عما نشأ من مشاريع
مشتركة وما أحدثه التلاقي من نضج وتعلم وخبرة سريعة في حياة الناس.
كانت تلك المقدمة ضرورية، ونحن نناقش رواية كتبها شاب لم
يتم الثلاثين بعد، متخرج في كلية العلوم، لم يعرفه الناس إلا من خلال تيار مقالاته
وأفكاره التي لا ينشرها إلا على الانترنت، وهو الآن أحد من يوصفون بأنهم
"النخبة الإسلامية على الانترنت"، على الأقل في مصر، وبغير الانترنت لا
كان عمرو عبد العزيز من الكاتبين ولا له جمهور يعرفهم ويعرفونه ويتابعونه، ولا حصل
على مصادر تؤهله لاكتساب ما اكتسبه من معرفة.
ففي عالم الانترنت عاشت الرواية، منذ تكونت كبذرة حتى
صارت مولودا، وفيه نشرت ومنه قُرِئت، وعليه ينشر هذا النقد أيضا! وبدونه لم تكن
لتكتب، فهي رواية تضيق عنها صدور الأنظمة الحاكمة.
(1)
بر الزنج، أو زنجبار، تلك الجزيرة الراقدة على الساحل
الشرقي الإفريقي، لا يكاد يهتم بها أو يسمع عنها أحد من العرب والمسلمين الآن، وأقل
القليل هم من يعرفون أنها كانت جزءا من بلاد العرب والمسلمين قديما، بل كانت عاصمة
لسلطنة عمان، تلك التي كانت تتمدد من شواطئ الهند الجنوبية الغربية، مرورا بمناطق
في فارس، وتعبر على أرض عمان المعروفة الآن ثم تنسدل جنوبا لتسيطر على غالب الشاطئ
الشرقي الإفريقي.
كان العرب يسمون ذلك الشاطيء "برَّ الزنج" على
اعتبار أن الشاطيء الآسيوي هو "برَّ العرب"، واتخذت تلك الجزيرة ذات
الاسم الذي اتخذه الساحل الإفريقي، وهناك جرت أهم أحداث قصتنا التي كانت بعيون
الفتى النجدي التميمي "راكان" الذي وقع أسيرا لدى سلطان عمان في الحروب
المشهورة التي جرت في العشرية الأولى من القرن التاسع عشر بين الوهابيين
والعمانيين، ثم تنقل به الحال حتى استقر أمره فأحب وتزوج وأنجب وسُجِن ومات في
زنجبار!
يرتكب الكاتب خطأ فاحشا إذ يكتب عن الرواية فيلخص
أحداثها في مقاله، فهو بهذا كمن يقتلها، بل يكفي المؤلف حسرةً أن يرى كل عناصر
تشويقه التي اجتهد ليحبكها ويسترها لتظل مفاجأة وقد كشفها الكاتب بلا رحمة!!
ولهذا، فإن ما يمكن أن نكتبه عن الرواية يتمثل في:
عمودها وملحمتها حيث فكرتها الرئيسية، وما نأخذه عليها من أمور.
(3)
شخصية راكان، بطل الرواية، تمثل المؤلف في تدفق أفكارها،
هي ذات الأفكار التي تؤرق الشباب الإسلامي حتى الآن، إنه الواقع المتكرر المتجدد
المُعاد، والذي كلما بدا أن ثمة شيئا ما سيكسر الدائرة الجهنمية المغلقة اتضح أنه
حلقة جديدة أضيفت لذات الدائرة.
الأمة غير قادرة على اختيار حكامها، وحُكامها الذين
يتحكمون في مواردها ومصائرها وينسجون سياستها ومستقبلها ليسوا أوفياء –أو حتى
ليسوا راغبين- لدينها وهويتها وثقافتها بما تفرضه عليهم هذه الأمور من قِيَم
وسياسات وعلاقات مع الآخرين.
وقد جاءت لحظة الضعف الكبرى في تاريخ الأمة في وقت حرج
على مسار التاريخ الإنساني، لحظة الثورة الصناعية التي جعلت الفوارق تتسع بسرعة
بين من دخلوا العصر الصناعي ومن لم يدخلوه بعد، لا سيما في المجال العسكري (كل تقدم
علمي لا ينعكس على التقدم العسكري فليس مؤثرا في مسار التاريخ)، وهكذا جاء العدو
المتفوق يلبس ثوب التاجر والصديق ثم يعرض المساعدة العسكرية على الحاكم العربي
المسلم ضد أخيه العربي المسلم ولو كان النزاع بينهما على قطعة من صحراء لا تسمن
ولا تغني من جوع إلا من جوع وشهوة السلطان فقط.
وإذ يكون الحاكم غير وفيّ لقيم لدينه وهويته فهو لا
يتردد في أن يستعين بالعدو الأجنبي على أخيه المسلم، ويبذل من المقابل ما يظن أنه
لن يؤثر على سلطانه أو ما يظن أنه سوف يستعيده يوما ما، هذا اليوم الذي لا يأتي
أبدا.
يلتقي المسلمون بسيوفهم فيتناحرون ويهلك بعضهم بعضا، ويعين
العدو بعضهم على بعض، وبمضي الأيام ينتقل العدو من موقع الإعانة العسكرية والصديق
التجاري إلى موقع الهيمنة السياسية، فلا يُنصَّب السلطان إلا بموافقة القنصل
الأجنبي، فإن لم يكن كانت الحرب، أو الاغتيال، أو إعانة حاكم آخر عليه.
راكان الذي يبدأ أول حياته متسائلا عن آثار الاستبداد، وإن
اعترف بقوة السلطان وشدة شكيمته، يعيش قرابة القرن حتى يرى السلطنة العظيمة وقد
تفتَّت إذ آلت إلى الأبناء الضعفاء الذين تحكم فيهم العدو الأجنبي (الذي أدخله
السلطان القوي في المعادلة ابتغاء مغنم قصير وسريع) حتى أهلكهم.
ولو أنه عاش أكثر من ذلك لرأى المأساة الكبرى، مأساة
انتهاء حكم العرب في زنجبار، تلك المذبحة الرهيبة الهائلة التي أنهت سبعة قرون في
تسع ساعات، فهذه ثمار الاستبداد واتخاذ العدو حليفا وتمكينه من بلاد المسلمين..
ولهذا كتب المؤلف أول الرواية "بعدما تنتهي من هذه الرواية، وسواء أعجبتك أم
لم تعجبك، عليك البحث بنفسك عن مصير العرب النهائي في زنجبار".
راكان، هو كل شاب إسلامي يتوقف عند ضرورة أن تختار الأمة
من يحكمها، فهي وحدها الضمان لاختيار الأصلح، وعلماءها هم الأمناء على هذه
العملية، وإلا فإنها لن تهنأ بشيء بعد ذلك: لا حرية في ظل المستبد ولا حرية في ظل
المحتل الذي سيأتي به المستبد آخر الأمر وإن طال الزمن.
والعالِم الذي سيُسَلِّم للمستبد فلا يقاوم استبداده أو
حتى يشرعنه له، رغبة أو رهبة، هو ذاته الذي لن يهنأ بكرامة في حياته أو مماته، وكذلك
الجنود، وكذلك كل الناس.. متى صارت الأمة في يد المستبد صارت سجينة عنده يملك
مصيرها فيوردها موارد الهلاك.
هذه المعاني الجافة نسجتها الرواية بين صحراء نجد وقلاع
عمان وبحر الخليج ومروج زنجبار وبحر الهند، بين السيوف والرصاص ومدافع البارود
وأعلام السفن الحربية، بين روائح القرنفل والتوابل وأمام شمس تغوص في موج المحيط.
وعلى ضفاف هذا النهر الرئيسي تنبت معانٍ أخرى في
العبودية والقبلية والحب والزواج وأثر المحن على الرجال، وكيف يفعل السجن الطويل
بصاحب الأفكار الفتية، وغيرها.
(4)
وأما ما نأخذه على الرواية فثلاثة أمور: تاريخية وفنية
ولغوية.
فأما التاريخية فهي أنها لم تكتمل، ولو أنها اكتملت حتى
انتهاء عصر العرب في زنجبار لكانت الفائدة أكبر وأعظم والفكرة أوضح وأنقى وأصفى..
وقد حدثت المؤلف في هذا فأبدى استعدادا أن يكتب رواية أخرى كتتمة لها، فاللهم
أعنه.
وأما الفنية فهي طول حديث النفس لدى المؤلف أحيانا، مما
جعلها تبدو كموعظة مباشرة خالية من الثوب الفني الذي تتسرب فيه الأفكار بسلاسة. وكذلك
فقر بعض الشخصيات الرئيسية التي لم نعرف عنها سوى ملامح بسيطة وكان ينبغي –فيما
أتصور- أن يكون تصويرها أعمق. ثم استعارة تعبيرات وتراكيب حديثة في جمل حوار
قديمة، فالأصوب أن يتعمق الكاتب في عصر روايته حتى يستطيع التعبير عن ذلك الزمن
بلغته وأسلوبه.
وأما اللغوية فبعض أخطاء غريبة، تلسع وجدان القارئ
فتخرجه فجأة من استغراقه في الرواية، لكن هذا أمر يسهل معالجته.
(5)
في نهاية الرواية كان على راكان أن يختار أين يطلق
رصاصته الأخيرة: في رأس القائد الإنجليزي أم في رأس ابنه الذي صار حليفهم، وستنتهي
الرواية دون أن نعرف على أيهما أطلقها، بل دون أن نعرف هل أصابت أحدهما أم كانت
رصاصة طائشة!
هذا الصراع بين العاطفة والمبدأ، بين المصلحة والدين،
بين مواجهة الخائن أولا أم مواجهة العدو أولا.. هو الصراع الذي آثر أن يختم المؤلف
به الرواية دون أن يجيب عليه، ليبقى معلقا ذلك السؤال القديم المقيم: إذا كان
العدو والأخ قد صارا شيئا واحدا، فبمن نبدأ رحلة المقاومة؟!!!
[1] رغم كل
محاولات الرقابة التي تفرضها الأنظمة ظلت مساحة التواصل وأساليب التفلت من الرقابة
فاعلة بقوة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق