ذكرنا في المقال السابق أن كثيرا من
المتعة والفائدة كامن في قراءة الإنتاج الغربي عن العالم الإسلامي في لحظات شعورهم
بالتفوق، ففي تلك اللحظات يكون الطرح أعمق وأهدأ ومتحررا من ضغط التهديد
والمخاوف.. وقد رأينا أن كتاب "صدام الحضارات" لصمويل هنتنجتون وبرغم
أنه من أشهر الكتب التي صدرت وقُرِأت عبر العقدين الماضيين إلا أن الانشغال
بتحليله ومواجهة منطقه الصدامي ساهم في إغفال النظر عن كثير من الحقائق التي رصدها
وبنى عليها أفكاره، وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع الأفكار إلا أنه لا يسع
أحدا أن يتجاوز رصد الحقائق؛ تلك الحقائق التي ينبغي أن ينتبه لها المسلمون وفي
الطليعة منهم تلك النخبة المتغربة التي يتخذها الغرب قفازا لأعمالهم القذرة في
بلادنا عساهم يبصرون أو يعقلون!
وقد ذكرنا في المقال السابق رصده لحقيقة أن فشل وانحسار
العلمانية ظاهرة عالمية في كل الحضارات، وأن فرض التغريب على مجتمعات لا تقبله
يُنشئ فيها ظاهرة "البلدان الممزقة".. وها نحن نواصل المسيرة في هذه
السطور القادمة.
***
3. ضرورة العودة إلى الهوية والمحلية لصناعة
إنجاز
رُصِدت ظاهرة أَطلق عليها رونالد دور اسم "الجيل
الثاني لظاهرة التأصيل" وهي تعني أن الجيل الأول الذي ذهب إلى الغرب وتعلم في
جامعاته ثم عادوا إلى أوطانهم فدرسوا في الجامعات لم يستطيعوا أن ينشئوا جيلا أكثر
تمسكا بالغرب بل على العكس؛ جاء الجيل الثاني –وهو الأكبر حجما- ليكون أكثر
استيعابا لما عند الغرب وفي ذات الوقت أكثر تمسكا بهويته وثقافته المحلية وأكثر
نقدا للغرب وقيمة وأقل احتكاكا به وبلغته وآدابه.
لم يوافق هنتنجتون على هذا الكلام بل لقد طرح أن ذات
الجيل الأول نفسه وإن تعلم في الغرب ما إن يعود إلى بلاده ويريد إنشاء نهضة فيها –مستفيدا
من الغرب- إلا ويقترب من هويته وثقافته ويتحول إلى زعيم محلي، وضرب مثلا على ذلك
بالزعيم الباكستاني محمد علي جناح الذي عاد من أكسفورد ليصير "زعيما
مسلما"، وهاري لي السنغافوري أصبح الزعيم السنغافوري "لي كوان يو"،
وكذلك باندرانايكا التي تحولت من المسيحية إلى البوذية واستعانت بالقومية السنهالية
لتكون رئيسة وزراء سريلانكا! لم يعد الغرب قادرا على مساعدة الزعماء في الدول
المحلية ومن ثم ليس أمام من يريد الزعامة إلا أن يلجأ إلى قومه وأن يجد فيهم وبهم
أسباب زعامته[1]!
يرصد جيل كيبل[2]
حدوث الصحوة الدينية الكونية ويسميها "ثأر الله" باعتبار أن الأديان
تأخذ ثأرها من الفترة العلمانية، وهذه الصحوة "انتشرت في كل قارة وكل حضارة
وكل دولة في الواقع"، وخلاصتها أن "التوجه نحو العلمنة ونحو تكييف الدين
مع العلمانية أخذ وجهة معاكسة، ظهر توجه ديني جديد لم يعد يهدف إلى التكيف مع
القيم العلمانية وإنما إلى استعادة أساس مقدس لتنظيم المجتمع، وعن طريق تغييره إذا
لزم الأمر"[3].
وأطال في رصد رجوع الناس إلى هوياتهم في العالم الإسلامي
والهند والصين وكوريا وروسيا وجمهوريات الاتحاد السوفيتي ورصد ارتفاع نسب التدين
والإقبال على دور العبادة في دول أمريكا اللاتينية وأمريكا الجنوبية، بل وداخل
أمريكا نفسها، ثم انتهى إلى القول بأنه "حينما يوجد صراع فإن "ثأر
الله" يلعب الورقة الرابحة؛ ورقة العودة إلى الأصول"[4].
ويبدو المرء المسلم متحسرا حقيقة حين يقرأ لهنتنجتون
كلاما دقيقا لا تستوعبه النخب المتغربة في البلاد الإسلامية، خذ هذه الفقرة على
سبيل المثال، يقول: "التحركات من أجل الإحياء الديني معادية للعلمانية،
ومعادية للعالمية، ومعادية للحضارة الغربية أيضا فيما عدا تجلياتها المسيحية، كما
أنها معارضة للنسبية وللأنانية وللاستهلاكية المرتبطة بما يُطْلِق عليه بروس ب.
لورانس[5]
"الحداثة" التي تختلف عن "العصرية"، وبشكل عام فإنهم لا يرفضون
التمدين ولا التصنيع ولا التنمية ولا الرأسمالية[6]
ولا العلم ولا التكنولوجيا ولا ما يعنيه أي من ذلك بالنسبة للمجتمع، وبهذا المعنى
فهم ليسوا ضد الجديد، وهم يقبلون "التحديث"... ولكنهم لا يتقبلون فكرة
أن يتغربوا... هذه الصحوة ليست رفضا للحداثة بل هي رفض للغرب والثقافة العلمانية
النسبية المتفسخة المرتبطة به، إنها رفض لما يُطلق عليه "التسمم بالغرب"
الذي يصيب المجتمعات غير الغربية، وهي إعلان استقلال ثقافي عن الغرب، إعلان كله
كبرياء يقول: سنكون حديثين، ولكننا لن نكون أنتم"[7].
ويبقى في توضيح وتأصيل هذا الدرس أمران؛ الأول: هو ما
قاله كريستوفر داوسن[8] من
أن "الأديان الكبرى هي الأسس التي تعتمد عليها الحضارات الكبرى" مما
يعني أن الدين لم يكن في أي مكان مجرد طقوس وشعائر لا علاقة لها بالواقع بل هو
أساس نظرة كونية شاملة لها أثرها الفعال في الحياة.
الأمر الثاني: أن أمريكا ذاتها حين أرادت أن تكون قوة
عالمية وأن تتمثل لها دورا ورسالة لم تقبل بأن تبدأ من تلقاء نفسها بل مدت جذورها
لتتصل بالغرب وبفلسفته وتاريخه وثقافته، هذا على الرغم من أن نشأة أمريكا ذاتها
كان هروبا من مساوئ أوروبا.. وهذا هنتنجتون الأمريكي يلتمس السبيل لكي يجعل هذا
طبيعيا وحتميا وضروريا، ويتجاهل أي خلاف يمكن أن يمثل عائقا أمام هذا التصور، يقول:
"كان الأمريكيون يُعَرِّفون مجتمعهم في مقابل
أوروبا.. أمريكا كانت هي أرض الحرية والمساواة والفرصة والمستقبل، أوروبا كانت
تمثل الظلم والصراع الطبقي والكهنوت والتخلف، بل كانت هناك محاجة أن أمريكا تمثل
حضارة مائزة.
هذا الافتراض بوجود تعارض بين أمريكا وأوروبا، كان بقدر
كبير نتيجة لحقيقة قائمة، وهي أنه حتى نهاية القرن التاسع عشر لم يكن لأمريكا سوى
علاقات محدودة بالحضارات غير الغربية، وبمجرد أن خرجت الولايات المتحدة إلى المشهد
العالمي، ظهر الإحساس بالتطابق الأوسع مع أوروبا.
وبينما كانت أمريكا القرن التاسع عشر تُعَرِّف نفسها
بأنها مختلفة عن أوروبا ومضادة لها، فإن أمريكا القرن العشرين تعرف نفسها كجزء،
والحقيقة كقائد، لكيان أوسع وهو الغرب.. الذي يضم أوروبا.
واصطلاح "الغرب" يستخدم الآن بشكل عام للإشارة
إلى ما كان يسمى عادة بـ "العالم المسيحي الغربي"، وهكذا فإن الغرب هو
الحضارة الوحيدة التي تحدد باتجاه بوصلة، وليس باسم شعب أو دين أو مساحة جغرافية
بعينها. هذا التحديد يرفع الحضارة من سياقها التاريخي والجغرافي والثقافي.
ومن الناحية التاريخية فإن الحضارة الغربية حضارة
أوروبية، وفي العصر الحديث الحضارة الغربية هي حضارة أوروبية أمريكية أو شمال
أطلنطية. يمكن أن نجد أوروبا وأمريكا والشمال الأطلنطي على الخريطة بينما لا يمكن
أن نجد الغرب"[9].
وهنا نرى كيف أن هنتنجتون نفسه –وهو أمريكي- يتجاوز خلاف
المذهب البروتستانتي/ الكاثوليكي، والخلاف التاريخي، والحاجز الجغرافي، والحاجز
اللغوي ليسبك المتخالفين في حضارة واحدة.. ورغم أنه يشعر بضعف هذه التركيبة ويعترف
بها أحيانا على استحياء ويناور لإخفائها بما استطاع من مهارة، إلا أن الشاهد منها
في حديثنا هذا هو أن الأمم التي تتطلع إلى موقع لها على خريطة العالم كلها تستند
وتنبعث من تاريخ وجذور تحرص أن يكون عريقا ورائعا وفريدا! فإن الغربيين –وإن نقدوا
تاريخهم الوسيط- فإنما يتعلقون ويبعثون تاريخهم القديم!
***
4. التحول الديمقراطي يتصادم مع التغريب
لقد صار رفض الغرب ظاهرة عالمية –يقول هنتنجتون- فالبلاد
الإسلامية صار همها "الأسلمة" والهنود صار همهم "التهنيد"
والآسيويون صار همهم "الآسينة"! و"تَبَنِّي المجتمعات غير الغربية
للتقاليد الديمقراطية الغربية يشجع ويفتح الطريق نحو السلطة أمام الحركات السياسية
القومية والمعادية للغرب"[10].
"التحول إلى الديمقراطية يتصادم مع التغريب،
والديمقراطية في صميمها عملية محدودة وليست كوزموبوليتانية (عالمية)، والسياسيون
في المجتمعات غير الغربية لا يفوزون في الانتخابات عن طريق إظهارهم مدى تغربهم أو
تعلقهم بالغرب، بل إن المنافسة الانتخابية تغريهم -بدلا من ذلك- بتقديم ما يتصورون
أنه يرضي المطالب الشعبية، والتي عادة ما تكون عرقية ودينية في طبيعتها"[11].
يتجول هنتنجتون بين الجزائر والهند وسريلانكا وجنوب
إفريقيا، ليوضح أن التجارب تثبت هذا! ثم يقتبس كلمة إيزوك سكاكيبارا[12]
المعبرة والتي تقول بأننا نشهد "نهاية الحقبة التقدمية" التي كانت
تسودها الأيديولوجيات الغربية، ونتحرك نحو حقبة تتفاعل فيها حضارات متعددة
ومتنوعة، وتتنافس وتتعايش وتتكيف مع بعضها البعض.
***
ذلك بعض ما فقهه هنتنجتون، أردنا أن نلقي الضوء عليه عسى
أن يكون مراجعة لمن يحب أن يقرأ للقوم منبهرا بهم، ويكون إرشادا لمن يقرأ للقوم
ليتعرف عليهم ويحذر منهم.. ونسأل الله تعالى التوفيق!
[2] باحث ومفكر فرنسي متخصص في
الشأن الإسلامي.
[3] صمويل هنتنجتون: صدام
الحضارات ص158.
[4] صمويل هنتنجتون: صدام
الحضارات ص165.
[5] أستاذ العلوم الإنسانية في
جامعة ديوك، وهو خريج جامعة برنستون عش الاستشراق الأمريكي.
[6] سياق العبارة هنا يؤكد أن
الرأسمالية هنا باعتبارها نظاما اقتصاديا ماليا وليست مذهبا شاملا أو رؤية كلية.
[8] مؤرخ بريطاني شهير، ومن أهم
من كتب في التاريخ الكاثوليكي.
[12] في مقال بمجلة
الشؤون الخارجية (خريف 1995م) بعنوان: "نهاية التقدمية؛ البحث عن غايات جديدة"
Eisuke Sakakibara
"The End of Proressivism; A Search for New Goals" Foerign Affairs, 74
(Sep/Oct. 1995), 8-14.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق