بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن
ولاه!
فقد انتقى د. يوسف زيدان ردي من بين الردود التي كُتبِت عليه، ثم ردَّ عليه بمقالة من ثلاثة أجزاء؛ الجزء الأول كله حسر على مصر وما بلغته من مستوى الحضيض، وتعريض
بأني ذو لحية، واتهام بأني من الإخوان، ثم اتهام بضحالة العلم وقصر الذيل، وعلى
هذا انتهى الجزء الأول!
ثم جاء الجزء الثاني فكان تعليقا على ألفاظي وتوصيفاتي، وتبرئة لنفسه من
تهمة الحقد، وتثبيت لتهمة الإخوانية بشخصي، واتهام بمحاولة الاشتهار على حسابه
وعبر الردِّ عليه، ثم ردَّ على مسألتين من المسائل السبعة ردًّا سريعا لا يشفي ولا
يكفي ولا حتى يتناول أصل الموضوع بل هو داخل في رحلته البكائية!
ثم جاء الجزء الثالث فعرض لباقي النقاط عرضا سريعا لا يمكن أن يصنف أنه ردٌّ
علميٌّ على الإطلاق، بل كلام عابر متناثر لا تقوم به حجة، وليس تحته شيء، وقد شعر
هو بهذا ففسره بأنه ملَّ من الردِّ، والحق أن موقفه كان في غاية الضعف.. وهذا ما
يأتي بيانه بإيجاز في غير تطويل.
***
السجالات أمر لا يحبه القارئ المعاصر، والحديث المتخصص
أم لا يحبه القارئ العادي، فأنا في هذا المقال أمام هذين الحاجزين، ثم إن هذا هو
الردُّ الرابع في سلسلة الردود وقليل من يصبرون على تتبع الأمر ليكشفوا عن المسألة.
سأقسم هذا الردّ إلى ثلاثة أجزاء: ما يتعلق بشخصي (ولن
يعدو سطورا)، ثم ما يتعلق بأخطائي التي وقعت فيها، ثم بالمسائل المطروحة والتي
ادعى زيدان أنه ردَّ عليها.
***
صال الباحث وجال متهما إياي بالإخوانية في الأجزاء
الثلاثة بل رفعني لمرتبة "مفكر الإخوان"، ثم أضاف اتهاما آخر بأن من ردُّوا عليه يسعون للتقرب من
السلطان!
أما كوني من الإخوان فغير صحيح، كنت منهم حتى سبع سنوات
مضت، ولي عليهم انتقادات كثيرة يعرفها من يتابع صفحتي، لماذا لم يتصور الباحث أن
ثمة من يمكن أن يرد عليه لمجرد الأمانة العلمية؟ لماذا يجب أن يكون من يرد عليه
خبيث الغرض مدخول النية؟! ولكن لا بأس، فهذا يعطيكم فكرة عن الأستاذ الذي يصنف
الناس ولم يحفل بالتحقق من أفكاره حتى بالمعلومات التي لا تستدعي إلا أن يحرك
أطراف أصابعه إلى صفحات الفيس أو المدونة.
أما كوني مؤرخا فهذا شرف لا أدعيه وإن كان حُلُما أسعى
إليه وأتمنى من الله أن يوفقني، وعادة فأنا لا اتخذ لقب المؤرخ ولا أرضى أن
يُتَّخذ لي وأكون حريصا على تصحيح الأمر في لقاءات إعلامية، لكني منذ أنشأت
المدونة قبل عشر سنوات سميتها "المؤرخ" كنوع من الحلم، كالذي يسمي
مدونته "الفارس/ الباحث/ فاتح الأقصى ... إلخ"، وصفحتي على الفيس بوك لم
أُنْشِئها، بل أنشأها لي شاب لم أعرفه فكتبها "المؤرخ محمد إلهامي" ظنا
منه بأني بلغت هذه المرتبة، ثم توليت الإشراف عليها وما كان بالإمكان تغيير الاسم
تبعا لقواعد الفيس بوك.
وأحسب أن المهتم بمتابعة ما ألفته من كتب أو ما شاركت
فيه من بحوث حازت جوائز عالمية فسيجد ذلك يسيرا إن شاء الله، أقله أن ينظر في
السيرة الذاتية في نهاية آخر الأعمال "رحلة الخلافة العباسية" (3
مجلدات).
***
أما أخطائي التي أعترف بها ولا أتكبر عليها فهي:
1. قولي بأن كتاب الصفدي هو "فوات الوفيات"
والصحيح أن كتابه هو "الوافي بالوفيات" وعنه نقلت، وأما كتاب "فوات
الوفيات" فهو لابن شاكر الكتبي.. وهذا والله من فلتات اللسان والقلم لا من
الجهل به.
2. خطأي في فهم المسألة الثالثة من المسائل السبع موضع
الجدال، فقد أخطأت في عكس الكلام، وظننت أن الرئيس مرسي هو من قال "مقدمة في
تاريخ العلم" بينما تصحيح د. يوسف زيدان هو الصحيح والخطأ من نصيب مرسي.
وعلى هذا الخطأ الثاني دارت كل ردود أنصار زيدان، رغم
أني أقول بعدها مباشرة هذه الجملة:
"على أنه وبافتراض أن مرسي قد أخطأ في عنوان الكتاب،
فما البأس؟!! إن الخطأ في عناوين الكتب في المحاضرات العامة، بل وفي الأبحاث العلمية
أحيانا يقع من الباحثين والمتخصصين –نسيانا أو جهلا أو غير ذلك- ولا ينكر بعضهم على
بعض في هذا الأمر التافه، فهو في حق رئيس الجمهورية الذي يلقي خطابا دبلوماسيا وليس
محاضرة علمية أمر أشد تفاهة.. وإن التقاط زيدان لهذا الأمر دليل على ضغينة نفسية قبل
أن يكون أمانة علمية".
وهو الخطأ التي شمل مساحة الأسد من رد يوسف زيدان أيضا،
رغم أن الرجل بحضوره للندوات والمؤتمرات العلمية لا شك يرى أمامه كثيرا هذا الخطأ
سهوا أو حتى جهلا ولا يرى المجتمعون ضرورة التعليق على صاحب الورقة بأنه اخطأ في
اسم الكتاب.. فكيف نحاكم رئيسا في خطاب شرفي بما لا يحاكم به المتخصصون أنفسهم في
المحافل العلمية؟!!
ويشهد الله أني انتبهت لهذا الخطأ مبكرا من خلال
التعليقات وقد كنت قادرا على محوه بعد ظهور المقال بدقائق، لكني منهجي (الذي لا
يرضى عنه كثيرون من الأصدقاء) أني أعتبر المقال وثيقة تاريخية وأنه وبمجرد نشرها
فقد حرم علي التعديل فيها، فلا أصحح حتى أخطاءها النحوية التي أكتشفها لأن هذا
عندي بمثابة "تزوير في الوثيقة"، رغم ما قد يسببه هذا من آثار سلبية،
ولكني رضيت بهذا المنهج على كل حال.
ولو أن النوايا صادقة لقرأ الجميع اعترافي في بداية
المقال بأني لم أسمع خطاب الرئيس لأن سرعة الانترنت عندي لم تسمح بتشغيل الفيديو،
وأني –لهذا السبب- أخذت في الرد على يوسف زيدان مُسَلِّما له بكل ما قال، ومفترضا
فيه دقة النقل والأمانة العلمية.
***
نأتي لردود الموضوع وهي الأهم، وسأسوق خلاصاتها لكي لا
يمل القارئ، دون مقدمات رثائية طويلة كما فعل زيدان.
1. اسم البيروني
ما حدث أن زيدان جَزَم بأن مرسي نطق اسم البيروني بطريقة
خاطئة (البَيْروني)، فكان ردي أن هذا النطق قال به الصفدي وابن حجر والسيوطي
وبامخرمة الحميري وابن ناصر الدين القيسي ووقع في إحدى مخطوطات الأنساب للسمعاني
ومال إليه واحد من أعرق الناس في اللغة وهو الأب أنستانس ماري الكرملي، ونسبت ذلك
إلى المصادر بالصفحات والأرقام.
فإذا بالرد الزيداني يكون "وفى الكتابين ، بحسب المخطوطات
التى رأيتها (وهو بالقطع لم يرها) لم يرد الكلام مضبوطاً بالحركات، حتى نستشهد بذلك.
ولو كان مضبوطاً على هذا النحو الخاطئ، فهذا مما لا يجوز الاستشهاد به".
فرغم أني استشهدت بسبعة مصادر جنح هو إلى كتابين فقط
وقال لم أر هذا الضبط فيهما! وهذا أمر لا أدري كيف أرد عليه؟ ولا أدري كيف يعتبر
نفسه بهذه العبارة قد ردَّ عن نفسه ودفع عنها تهمة الجهل؟ فالكتب مطبوعة وعباراتها
واضحة كالشمس، وهذا كتاب الصفدي "الوافي بالوفيات" –الذي يزعم أنه رأى
مخطوطاته- يقول بالنص:
"بفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
وَضم الرَّاء وَبعد الْوَاو الساكنة نون" (8/91، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي
مصطفى، ط: دار إحياء التراث، بيروت، 1420هـ = 2000م).. وبذات العبارة تقول النسخة
الأخرى التي أصدرتها جمعية المستشرقين الألمانية ضمن "النشرات
الإسلامية" التي أسسها هلموت ريتر، وتوثيقها: (8/138، تحقيق محمد يوسف نجم،
1402هـ = 1982م)
ولا أدري كيف أفعل بعد هذا، هل أطبع صورة العبارة
وأنشرها على الانترنت مثلا؟!!
وهذا في الكتاب الذي زعم أنه رأى مخطوطاته، فكيف
بالمصادر التي لم يرها وعبر عليها دون ردًّ ولا إشارة؟!
ولا أدري كيف واتته الجرأة أن يقول ببساطة: "ولو كان
مضبوطاً على هذا النحو الخاطئ، فهذا مما لا يجوز الاستشهاد به".. فهي دعوة
لأن نلقي بأي مصدر يخالف رأي زيدان في المزبلة هكذا بغير توقف ولا تحقيق.
وفي النهاية فإن أصل الموضوع أن المسألة فيها أخذٌ وردُّ،
وأنه لا يصح أن يُنكر على رئيس الجمهورية في خطاب غير علمي في مسألة دقيقة وهامشية
كهذه، وفيها خلاف أيضا.. فكيف يمكن أن يقال عن هذا خطأ وشنيع؟!
***
2. البيروني والفلسفة
قال زيدان في رده على خطاب الرئيس: "والبيروني، يا
رئيس مصر، لم يشتغل بالفلسفة مثلما زعمت في كلمتك".
فلما رددت عليه وأثبتُّ له أنه اشتغل بالفلسفة بل وتبحر
فيها –وبالخصوص فلسفة الهند واليونان- وكانت بينه وبين ابن سينا رسائل، لما وقع في
هذا الفخ، جاء رده بهلوانيا فقال: "نسب للرجل النبوغ فى علوم الفلسفة". أي
أنه في البداية نفى في الرد الأول أنه "اشتغل" بالفلسفة أصلا، ثم أوحى
في رده الثاني بأن النزاع كان حول "النبوغ" في الفلسفة!
هذه هي الأمانة العلمية لدى الباحث المحقق يوسف زيدان!!
***
3. ابن الهيثم
والطب
نفى زيدان في الرد الأول أن يكون لابن الهيثم "أي
إسهام في الطب ولا التشريح".. فلما أثبتُّ له من كتاب مؤرخ الأطباء ابن أبي
أصيبعة أنه كان "كَانَ خَبِيرا بأصول صناعَة الطِّبّ وقوانينها وأمورها الْكُلية"
وأن له مؤلفا في الطب، لما ووجه بهذا جاء رده على هذا النحو:
-
أنا انتقدت كتاب ابن أبي أصيبعة في دراساتي السابقة
-
-
هناك اثنان من العلماء يحملان لقب ابن الهيثم
-
-
شتائم في الجهلة الذين لا يعرفون ويعتمدون على ويكيبيديا
-
ولست أدري من أين أرد أيضا، فلا انتقادك لكتاب ابن أبي
أصيبعة دليل يُلْزِمنا أولا، ولا وجود اثنين من العلماء يحملان لقب ابن الهيثم أمر
داخل في النزاع أصلا، ولا كان في ردي معلومة واحدة من ويكيبيديا!!
لقد ألف ابن الهيثم في الطب والتشريح، بحسب ما كتب هو
نفسه، وقد نقلتُ النص في ردي الأول فليرجع إليه من شاء، وهذا إثبات لخطأ زيدان
الذي نفى "أي إسهام" لابن الهيثم في الطب أو التشريح!!
ومن العجيب الملفت للنظر أن زيدان نفى نبوغ البيروني في
الفلسفة مستدلا بأنه لم يؤلف فيها كتابا (كما في الجزء الثالث من رده) ثم هو ذاته
بعد سطور ينفي "أي إسهام" لابن الهيثم في الطب والتشريح رغم أنه ألف
فيهما!!
***
4. جابر بن حيان والكيمياء
وهنا كان الأستاذ قد وصل إلى الملل فلم يرد على شيء مما
كتبته بل كرر قوله مرة أخرى بلا دليل ولا بينة "الكيمياء كانت علما معروفاً من
قبل "جابر بن حيّان" بقرون ، و لا يصح القول بأنه مؤسسها".. وهو
هنا لم يرد فلا تعقيب لي.
5. ابن خلدون وعلم الاجتماع
وهنا فعل ذات الأمر، كرر كلمته التي قالها من قبل دون
أدنى رد على كلامي
***
الخلاصة:
ومن بين سبع انتقادات وجهها يوسف زيدان للرئيس، ومن خلال
هذه الردود التي أمامكم.
أخطأ الرئيس في اثنتين: واحدة منها هامشية في عنوان كتاب
جورج سارتون
وأخطأت أنا في اثنتين: واحدة منهما هامشية في عنوان كتاب
الصفدي
وأخطأ يوسف زيدان في خمسة: اسم البيروني، اشتغاله
بالفلسفة، إسهام ابن الهيثم في الطب، وجابر بن حيان في الكيمياء، وابن خلدون في
علم الاجتماع.
***
وهذه هي الردود أمام القراء جميعا.. وأنفعهم بها هو
أصبرهم على قرائتها وأنصفهم في الحكم عليها، وقد كان في النفس كلام كثير تعليقا
على منهجية زيدان وعلى بعض أخطائه الأخرى لكن الرد طال جدا بما قد ينتفي معه النفع
على القارئ المعاصر الذي هو ملول بطبيعته.
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين
كفاية عليه كده من وقتك. ده نكرة أصلاً.. *ضياء*
ردحذفجزاك الله خيرا فقد انصفت وانتصفت
ردحذفجزاك الله خيراً
ردحذفكفيت ووفيت
ردحذفمن قال أن القارىء الآن أصبح يمن من السجاليات أو البحوث المتخصصة؟؟
القول هذا يمنع الكثير والكثير من الكثير
ممتع ردك الأول والثان وطريقة تفيندك بكل صدق
ورغم حدة ردك الأولى ولطف ردك الثاني
إلا أن هذه طبيعة السجاليات
ونتمنى أن نرى قلمك دوما محبرا
بارك الله فيك ؛ والقضيّة فيه شَبه منتهية إلا أن يشاء الله ؛ أمّا الغرض فـمتابعيه الذين هم واحسراتاه يحكمون بسابق الصورة الذهنية
ردحذفجزاك الله خيرا وزادك حلما وعلما