الثلاثاء، مارس 17، 2009

وليد سبف ساحر الفن والتاريخ جـ3

اقرأ أولا: وليد سيف ساحر الفن والتاريخ جـ1
واقـــــرأ: وليد سيف ساحر الفن والتاريخ جـ2

(4)
أزعم أن مسلسلات الدكتور وليد سيف كانت ستحتفظ بأوليتها وميزتها وتفردها عن باقي المسلسلات التاريخية لو أنها اكتفت بميزة التحقيق العلمي الممتاز، وباستبطانها العميق والرائع لنفوس شخصيات العمل التاريخي، لكنها زادت على هذا ثوبًا ولا أورع ولا أبدع من لغة فخمة جذلة.

يحز في نفسي أن كثيرًا من عمالقة الفكر ضاعوا أو نُسُوا أو لم يكن لهم جمهور؛ لأنهم لم يمتلكوا الأدب، وأكاد أقول: إن من خلدوا من العلماء والمفكرين كانوا واحدًا من اثنين: من امتلك الفكر والأدب معًا، فاستطاع أن يصوغ فكره في عبارات بليغة ومؤثرة، فَخَلَد فكره عبر لغته العذبة، أو مفكر أحدث نقلات نوعية في الفكر وقدم لعصره أو للأجيال بعده ما لم يقدمه أحد ممن قبله من نظرات وتفسيرات ورؤى احتاجها عصره أو عصر من بعده.

وأتذكر دائمًا في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية الذي كان عظيمًا لم يمتلك الأدب، بينما كان تلميذه ابن القيم عظيمًا كذلك لكن أدبه أفخم وأقوى وعبارته أحلى وأحسن، وبرأيي أن خلود ابن تيمية نصيب الفكر منه أكبر، وخلود ابن القيم نصيب الأدب منه أكبر. وفي عصرنا هذا أخشى أحيانًا أن ينسى -بعد حين- رجال عظام كان حظهم من الأدب قليلاً.

ولا أظن يخفى على أحد أن البلاغة وحدها خَلَّدت فكرًا فاحشًا وأخلاقًا ماجنةً، فكم خَلَد في الشعر شعراء فاحشون حقًّا! بل ولا أحسب محبًّا للأدب لا يحفظ أبياتًا ماجنة من فرط بلاغتها وإن كان لا يرددها إلا مع نفسه برغم استنكاره لمعناها تمامًا؛ فأبو نواس وبشار بن برد وعمر بن أبي ربيعة وسلسلة طويلة ربما انتهت بنزار قباني، كل هؤلاء صنعوا أسماءهم ببلاغتهم التي كانت ثوبًا جميلاً لأفكار فاحشة.

وإن هذا يلفت الأنظار إلى أن القرآن لم يكن حقًّا فحسب، ولكنه كان حقًّا بليغًا، حقًّا أعجز أساطين البلاغة أن يأتوا بمثله أو بسورة منه. الحق الذي لما فاجأ قريش في منتدياتهم ببلاغته ثم قال: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] لم يملكوا أنفسهم فسجدوا، سجدوا انبهارًا، فلقد سلبت بلاغة القرآن إراداتهم على نفوسهم.. وحتى نبي الله محمد لم يؤت الحق فقط، بل أوتي معه (جوامع الكلم).

وأتذكر في هذا كلمة للأستاذ محمد قطب في كتابه (منهج التربية الإسلامية) حين قال: "إن الجبال لا تكتفي بأن تكون جبالاً.. ولكنها تكون جميلة ورائعة، مكسوة بالثلوج، أو مكسوة بالغابات! إن السحاب لا يكتفي بأن يكون سحابًا يحمل الماء.. ولكنه كذلك يكون جميلاً بأشكاله وألوانه، ثم ينتشر عليه في بعض الأحيان، طيف الشمس (قوس قزح) في منظر رائع جميل! إن النبات لا يكتفي بأن يكون نباتًا، ولكنه يورق ويزهر، ويستمتع منه الإنسان بزهره الأريج وشكله البهيج! إن الطير لا يكتفي بأن يكون طيرًا، ولكنه يسقسق ويغرد ويلعب ويقفز، وتزهو منه الألوان! إن الحيوان لا يكتفي بأن يكون حيوانًا، ولكنه يقفز ويمرح، و(يتخابث) في لطف ويستألف للإنسان"[2].

ورحم الله شيخنا محمد الغزالي الذي كان يردد بلا ملل: معنا الحق الذي لم نحسن عرضه، وغيرنا معه باطل تفنن في عرضه.

ولهذا أجزم يقينًا بأن مسلسلات الدكتور وليد سيف خالدة بإذن الله، وإذا كانت المسلسلات التاريخية بطبيعتها مستمرة ويمكن إذاعتها بعد إنتاجها بعشرين سنة أو أكثر دون أن يمثل هذا عيبًا، فإن اللغة الفخمة التي كُسِيَت بها هذه المسلسلات ستجعلها دائمًا مطلوبة ومرغوبة.

والدكتور وليد سيف شاعر أصلاً، وهو أستاذ أدب في الجامعة الأردنية، وهو حقًّا ممن يمتلك ناصية اللغة فأنت تسمع في مسلسلاته اللغة العربية الباهرة التي تقرؤها في كتب الأدب القديم، اللغة التي تنقلك لذلك العصر البعيد، فتشعر أنك تشاهد التاريخ حقًّا كما كان.

ولهذا فلن تسمع الألفاظ العربية التي ولّدها العصر الحديث، وهذا شيء لم يسلم منه أحد من المؤلفين الآخرين الذين يعانون من الكتابة بالفصحى في الأصل، ولذا فلا يمكنهم أن يعرفوا أن مثل هذه الكلمات لم يعرفها بنو الزمان القديم الذين يكتبون تاريخه.. ومن هنا تحفل نصوصهم بكلمات وتعبيرات مثل "الوقت المناسب" و"الوقت الحالي" و"تصفية الحسابات" و"خلف خطوط العدو" و"من يضحك أخيرًا يضحك كثيرًا" و"أمر غامض" و"القوة الكافية"... إلخ، ولولا أن يصير المقال مَذَمَّةً لأطلت في هذا.

ولم يكن يُنْتَبَه إلى هذا الأمر حتى سمعنا اللغة الفخمة في مسلسلات وليد سيف، فَبِضِدِّها تتميز الأشياء، وإذا طلعت البدر غارت النجوم، وإذا جاءت الشمس طغى نورها على كل نور.

إن واحدًا من أسباب معاناتي مع المسلسلات الأخرى أني سمعت مسلسلات وليد سيف، فصار كل مشهد يجبرني على أن أتخيل كيف كان سيصوغه وليد سيف. إن هذه المسلسلات قد أحدثت طفرة في هذا الجانب، فلغة المسلسلات التاريخية بعده بعامة أفضل منها قبله، فمسلسلات (الحجاج، المرابطون والأندلس، أبناء الرشيد، خالد بن الوليد (بطولة باسم ياخور)، خالد بن الوليد (بطولة سامر المصري)، قمر بني هاشم، أبو جعفر المنصور..) أفضل لغة من المسلسلات فيما قبل بشكل عام، ولا أستثني من هذا إلا مسلسل (الظاهر بيبرس/ السوري) فلغته ركيكة إلى حد يثير الاشمئزاز.
وشخصيًّا كنت أظن أن جمهور الأمة لا يفهم اللغة العربية القوية، فعلمت من تلك المسلسلات أن الأمة أقرب إلى روحها وتراثها مما كنت أتصور. وبالمناسبة، فإن الأمة أقرب إلى روحها وتراثها كثيرًا مما يتصور كثير من السياسيين وحتى كثير من العلماء والدعاة، ودائمًا تكون الانتخابات هي الكاشف عن هذه المفاجأة.

وليد سيف ساحر الفن والتاريخ جـ4
وليد سيف ساحر الفن والتاريخ جـ5

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق