اقرأ أولا:
ما زلنا نواصل التقاط مواقف الفيلسوف المخضرم الكبير د. عبد
الرحمن بدوي من حكم العسكر عبر مذكراته الحافلة الصادرة في جزئين، وهو الذي عايش العهدين:
الملكي والعسكري، وحقق من المكانة الفكرية ما لا ينكره أحد ولو كان من أشد أعدائه.
(30)
"انتشرت الوشاية والتبليغ واستعداء السلطات والعمل
مع المخابرات – انتشارا هائلا جدا بين أعضاء هيئة التدريس في الجامعة. وحسبي أن
أذكر الحادث التالي:
1- في صيف سنة 1966 أقام أساتذة كلية الطب، في جامعة
القاهرة، حفلة عشاء في نادي الجزيرة توديعا لعميدها عبد العزيز سامي. وعند أواخر
العشاء قام د. رشوان فهمي –أستاذ طب العيون في كلية طب جامعة الإسكندرية؛ فخطب
مشيدا بعبد العزيز سامي ومدافعا عنه. وكان جمال عبد الناصر قد صرّح في خطبة له أنه
لو كان قصر العيني يُدار كما أدار محمود يونس هيئة قناة السويس، لما رأينا هذا
الفساد في قصر العيني. فقال رشوان فهمي مشيرا إلى قول عبد الناصر مع تحاشي ذكر
اسمه: لو أتيحت لعبد العزيز سامي الإمكانيات بل عشر الإمكانيات التي أتيحت لمحمود
يونس، لكان قد جعل من قصر العيني نموذجا كاملا لخير المستشفيات.
وفهم الحاضرون إشارته، فأصابهم وجوم تام استمر بضع
دقائق، قطعه د. عثمان وهبي بأن قال وهو يصفق تصفيقا شديدا- هذا الكلام عظيم فلماذا
لا تصفقون؟!
وانتهت حفلة العشاء حوالي منتصف الليل. وفي الساعة
الرابعة صباحا، كان قد صدر قرار بفرض الحراسة على رشوان فهمي، وفي الحال أخذت
الشرطة الجنائية (أو العسكرية، لا أذكر) بتفتيش شقته في الإسكندرية. وعاد رشوان
فهمي إلى الإسكندرية ليجد في انتظاره بالشقة مندوبين من الشرطة والحراسة، ما لبثوا
أن أخذوا في استجوابه عن أمواله. فلم يجدوا معه غير عشر جنيهات، وليس في حسابه
بالبنك مبلغ يذكر، ولا يملك أي عقار. ذلك أنه كان مبذرا جدا، ينفق مرتبه كله فلا
يبقى منه شيء، ولم يكن له عيادة، وهي وحدها التي تدر الأموال على الأطباء.
ونعود إلى الفترة ما بين منتصف الليل والساعة الرابعة
صباحا. ماذا حدث بكل هذه السرعة؟ الذي حدث هو أن أستاذا في طب الأطفال، كان من
عملاء المخابرات المباشرين، اتصل فور خروجه من الحفلة بعلي صبري، وهو المسؤول
الأول عن "الأجهزة" (أجهزة القهر والبطش والتنكيل والتعذيب)، كما كان
يتفاخر، ويخاطبه بهذا اللقب صلاح بيطار أيام الوحدة المشؤومة. فشغَّل علي صبري
أجهزته الإجرامية هذه وكان ما أتينا على وصفه.
وأذكر أني التقيت برشوان فهمي في يناير 1967
بالإسكندرية، فوجدته وهو يمشي معي يتلفت دائما إلى الوراء لأن المخبرين كانوا
وراءه أينما وصل وحيثما سار. فكانت خاطرة وقلت له: لا عليك فهذا أمر هين. وجلسنا
في ركن من مقهى في شارع توفيق وأخذت أداعبه قائلا:
- لماذا تحزن؟ إنك تستحق هذا كله! ألست أنت أول من أرسل
برقية تأييد للثورة نيابة عن جمعية هيئة التدريس في جامعة الإسكندرية، في 23 يوليو
سنة 1952، بينما كان الملك فاروق لا يزال في الإسكندرية ولا يدري أحد هل ستنجح هذه
الثورة؟!
ماذا أفدت من تعريض نفسك للخطر، وها أنت ذا لم تظفر بشيء
في عهد الثورة وطوال أربعة عشر عاما، بينما الخونةوأذناب الإنجليز قد نالوا أرفع
المناصب!
فقال لي: لكن أنت أيضا كنت مؤيدا للثورة في بدايتها.
فقلت له: كنت مؤيدا ولكن بتحفظ شديد ويأس تام من أن
تستقيم الأمور، بدليل مقالاتي في شهور أكتوبر إلى فبراير 1952 – 1953 وكلها تنقد
رجال الثورة على سلوكهم وتقريبهم للخونة وأذناب الإنجليز ومحاسيب العهد الماضي،
وهي المقالات التي أدت إلى وقف مجلة "اللواء الجديد". أنا يا سيدي أعرف
تواريخ الثورات جيدا، بحيث لا أنخدع أبدا بألفاظ رجالها ودعاواهم.
فقال: ماذا كان ينبغي أن نعمل إذن؟
فقلت له: لا شيء. فدعهم يعبثون حتى ينهاروا من تلقاء
أنفسهم. ونحصر همّنا كله –ونحن أساتذة في الجامعة- في التفرغ للبحث العلمي وتعليم
الطلاب، وفي حالتك أنت أن تهتم بمرضاك.
وهكذا مضى الحديث بين الندم والأسف: الندم على مبادرته
بتأييد الثورة قبل أن ينكشف من أمر أصحابها شيء، والأسف على ما وصلت إليه الحال في
مصر من استبداد لم يعرف له التاريخ مثيلا؛ حاكم لا يحتمل أية عبارة قد يُشْتَمُّ
منها ردّ هادئ برئ عليه! وهو مع ذلك يمزق أسماع الناس في كل مناسبة بكلمات الحرية والكرامة.
كيف يصل الأمر إلى حدّ أن كلمة رقيقة بسيطة كتلك التي قالها رشوان فهمي تثير ثائرة
هذا الطاغوت الرهيبة! وكيف يجرؤ بعد هذا أحد من الوزراء أو المشاركين له في
السلطان أن يرد له قولا، أو ينبس بأرق مخالفة لرأيه! وهل هناك أدل على ما أصاب
نفوس كبار المثقفين من جبن وخور وانحلال – هل هناك أدل على هذا من الذهول الشديد
الذي أصاب أساتذة الطب حينما سمعوا عبارة رشوان فهمي؟! إن هذا الذهول معناه أن هذه
الفئة المفروض فيها أنها من أرفع الفئات ثقافة وعلما قد صارت تتألف من دُمًى
مذهولة وشخوص جبانة فقدت كل ملكة للتفكير المستقل المستقيم. هذا على الرغم من أن
أبناء هذه الفئة (الأطباء) هم أقل الفئات اعتمادا على "الميري" لأن 90%
من دخلهم يرد إليهم من المرضى الخصوصيين.
الفزع والهلع، والجبن والخور، والتملق والنفاق – تلك كانت
الأحوال النفسيةوالخلقية السائدة لدى الطبقات المثقفة في المجتمع المصري في عهد
عبد الناصر.
وإذا كانت هذه حال المثقفين فكيف يُرجى لهذا المجتمع أي
نهوض؟! إن المثقفين هم ضمير الأمة، فإن فسد الضمير فعلى الأمة العفاء.
ويحار المرء في فهم هذه الحال التي سيطرت على نفوس هؤلاء
المثقفين وخصوصا أساتذة الجامعات. فإن لديهم في البحث العلمي والتفوق فيه ما
يغنيهم عن التطلع إلى أي منصب إداري. ولو استقرى المرء منهم من تولوا الوزارة،
لكان عليه أن يرضى عن نفسه لأنه لم يتول أية وزارة.
لقد صار منصب الوزير لأي مدنيّ مصدرا للذل والهوان، وهدا
للتنكيل والتخلص من المسؤولية وإخفاق سياسة الدولة. إن حدثت كارثة أو أزمة، سارع
عبد الناصر إلى إلقاء مسؤولية حدوثها على الوزير الذي تقع الكارثة أو الأزمة في
دائرة اختصاصه، رغم أن المسؤول الوحيد هو عبد الناصر نفسه بسياسته الخرقاء
الطائشة. وما أسرع ما تنهال وسائل الإعلام لتصب الذنوب كلها على رأس هذا الوزير
المسكين. وفي غمرة هذه الحملة الظالمة ينسى عامة الناس المشكلة الأصلية، ولا يعود
أحد يتحدث عنها، وكأن السلعة المفقودة قد عادت فغمرت الأسواق، أو أن المرفق الفاسد
قد صلحت أموره وعاد يؤدي مهمته، أو الأرض التي احتلها العدو قد جلا عنها وتحررت.
حتى صار الشعب المصري يعيش في الأوهام، ويتغذى بالأوهام، ويعالج كل أموره الفاسدة
بخلق المزيد من الأوهام"[1].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق