اقرأ أولا:
توفي هشام بن
عبد الملك (125 هـ) آخر الخلفاء الأقوياء من بني أمية، وكان مُلزمًا بأن يكون ولي
العهد من بعده ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ولم يكن الوليد على مستوى
المسؤولية بل كان منصرفا للهو والعبث والمجون وشرب الخمر، وتفيض بعض المصادر في
وصف مساوئ الوليد إلى حد لا يمكن تصديقه. ولهذا عزم هشام على عزله من ولاية العهد،
وأيَّده في هذا الإمام الكبير ابن شهاب الزهري الذي قال للوليد يوما: "ما كان
الله ليسلطك علي يا فاسق"، واستجاب الله له فمات قبل أن يتولى الوليد. وقد
تمنى المحدث المؤرخ ابن كثير أن لو نجح هشام في عزمه هذا[1]، إلا أنه
فشل وصار الوليد خليفة.
بدأ الوليد
خلافته بالإكثار من إنفاق الأموال –وكانت الميزانية قد فاضت لما عُرِف عن هشام من
الحرص على المال الذي وصفه البعض بالبُخْل- فرفع الرواتب والأعطيات ولم يسأله أحد
شيا إلا أعطاه ما أراد. وزاد فسوقا ومجونا في الخمر واللهو ومصاحبة الفُسَّاق حتى
إن الطبري –وهو المؤرخ المعروف بالإطالة في تقصي الروايات- أعرض عن ذكر هذه
الأخبار لطولها وكثرتها.
كذلك فقد بدأ
في التنكيل والبطش بكل من وافق هشاما في خلعه من ولاية العهد، وصادر أموال الخليفة
السابق، وعزل طائفة كبيرة من الولاة والعُمَّال والموظفين، وشمل بطشه حتى أبناء
الخليفة –وهم أبناء عمه- فقد جلد ابن عمه سليمان بن هشام بن عبد الملك وأهانه على
مشهد من الناس، فبذر بذلك بذرة الانقسام في بيت الخلافة، إذ صار سليمان هذا من
زعماء الثورة على الوليد ورجلا ممن سارت الخلافة إلى الانهيار على يديه.
ثم زاد الطين
بلة حين أراد الوليد أن يأخذ البيعة لولاية العهد من بعده لولديه الصغيرين الحكم
وعثمان، وهما ولدا جارية، ولم يكن هذا معروفا من قبل ولا مقبولا لا في البيت
الأموي ولا في عصبة العرب، إلا أن الوليد أصر وعزم وبطش بكل من عارضه في هذا
وأبرزهم والي الكوفة السابق وأحد أبرز رجال العرب وزعيم القبائل اليمانية: خالد بن
عبد الله القسري، فقد أسلمه الوليد لعدوه يوسف بن عمر بن هبيرة –وهو الآن والي
الكوفة- الذي سجنه وعذبه حتى قتله. وبهذا غضبت قبائل اليمانية على الوليد وصارت
وقودا للثورة.
هذا الوقود
التقطه الأمراء الأمويين الحانقين على سيرة الوليد، ورتبوا تمردا على الوليد،
واستغلوا خروجه للصيد واللهو خارج دمشق، وسيطروا على دمشق وقبضوا على رجاله،
وبايعوا يزيد بن الوليد –ابن عم الخليفة، وابن الخليفة الأسبق- خليفة، ومن دمشق
انطلق جيش إلى الوليد بن يزيد فهزمه وقتله (جمادى الآخرة 126 هـ) بعد خلافة قلقة
دامت سنة وثلاثة أشهر.
لكن الأحداث
تفاعلت بما لم يتوقعه أحد، فقد كانت هذا الانقلاب سابقة في تاريخ الإسلام وتاريخ
البيت الأموي، وهذه السابقة رفعت من شأن قبائل اليمانية مما ضاعف من حدة العصبية
بينهم وبين قبائل القيسية، والخليفة مضطر أن ينحاز إلى طرف اليمانية لأنهم أصل
الثورة، بينما قبائل القيسية تأنف من ارتفاع شأن اليمانية وتتمسك –ضمن هذا التنافس
العصبي- بشرعية الخليفة المقتول صاحب البيعة، ونشبت ثورات في حمص وفلسطين والأردن
والمدينة، بعضها أمكن تهدئته وبعضها أُخْمِد بالقوة.
وزاد من سوء
الأوضاع الوفاة السريعة للخليفة الجديد –وهو في أواخر الثلاثينيات- (ذي الحجة عام
126هـ) بعد ستة أشهر فقط من توليه، وكان في هذه الفترة القصيرة قد أبدى من التقوى
والخير ما جعلهم يشبهونه بعمر بن عبد العزيز ويجعلونه من خير خلفاء بني أمية.
وهنا تفجرت
الأحداث مرة أخرى بأقوى من السابق، إذ لما مات يزيد بويع لأخيه وولي عهده إبراهيم
بن الوليد، ولم يُرضِ هذا عددا من الأمراء الأقوياء، أبرزهم مروان بن محمد –الشخصية
العسكرية القوية، ووالي منطقة أرمينية- والذي رأى أنه أحق الناس بالخلافة وأنه
القادر على إنهاء هذه الفوضى في الحكم، لكنه اتخذ إلى هذه الغاية شعار "شرعية"
الخليفة المقتول الوليد بن يزيد، ودعا لبيعة ولديه الحكم وعثمان –وهما وليي عهد
الخليفة المقتول في حياته- رجاء أن يكون هو الوصي عليهما، وقطعا لهذه الحجة اقتحم
يزيد بن خالد القسري –وهو زعيم اليمانية الذي أخذ بثأر أبيه- السجن الذي فيه
الولدين فقتلهما وقتل معهما يوسف بن عمر –الذي كان واليا على الكوفة والذي قتل
أباه خالدا القسري من قبل- لكن هذا لم يغن شيئا.
لقد اعتمد
مروان بن محمد على قبائل القيسية المتضررين من ارتفاع شأن اليمانية، مما مكنه من
هزيمة جيش إبراهيم بن الوليد، ودخل دمشق منتصرا واضطر إبراهيم بن الوليد أن يخلع
نفسه ويتنازل له عن الخلافة.
يعتبر مروان بن
محمد –بالتصنيف المعاصر: مدنيين وعسكريين- أول شخصية عسكرية تصل إلى منصب الخلافة،
وهي الشخصية التي ستنهار الخلافة الأموية في عهدها.
لقد فَجَّرَ
وصول مروان بن محمد إلى الخلافة كثيرا من التفاعلات، فلقد اعتبر هذا نصرا للقيسية
على اليمانية، ومزيدا من الاضطراب في منصب وهيبة الخلافة لأنه وصول بالتغلب
والقتال، ومزيدا من الانشقاق في البيت الأموي لأن مروان بن محمد من خارج الفرع
المرواني الذي استقر له الحكم منذ نصف قرن.
حاول مروان بكل
وسيلة أن يهدئ من هذه الأوضاع، لكنه لم يستطع، إذ انفجرت في وجهه ثورات متعاقبة
متتابعة لم يكد يستريح من واحدة حتى تقوم الأخرى.
ففي الشام ثارت
حمص (127 هـ) وفشل في تهدئتهم فخرج إليهم بجيش فأخمد الثورة وهدم سور حمص كي لا
يثوروا مرة أخرى، وبينما هو هناك إذ كان يزيد بن خالد القسري –زعيم اليمانية-
يحاصر دمشق بجيش من قومه ومن أنصار الخليفة السابق، فأرسل إليهم فرقة من جيشه
استطاعت هزيمتهم وإنهاء حركتهم. لكن ما انهزم هؤلاء حتى ثار والي فلسطين ولكن
مروان تمكن من هزيمته.
وفي العراق ثار عبد الله بن معاوية بن
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في الحيرة، فهُزِم وانسحب إلى الكوفة فهُزِم مرة
أخرى على يد والي الكوفة عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فانسحب إلى فارس وهناك
وجد عددا ومددا ممن انضم إليه ومن الخوارج المنهزمين أمام مروان بن محمد في شمال
العراق، واستطاع أن يقيم لنفسه حكما في فارس استمر عاما لانشغال الخلافة الأموية
عنه بالثورات الأخرى. فما إن فرغوا له حتى هزمه الجيش الأموى (129 هـ) واضطره لأن
ينسحب نحو خراسان التي كانت تقوم فيها بذرة الدولة العباسية.
لكن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي
الكوفة الذي انتصر لتوه على عبد الله بن معاوية، تمرد على مروان بن محمد وقد وجد
عدته وأتباعه في القبائل اليمانية المجروحة مما وقع بهم في الشام منذ مقتل شيخهم
خالد القسري ثم ابنه وإحراق ديارهم، وارتفاع شأن القيسية وبهم سيطر على الكوفة
والحيرة ومناطق أخرى.
وفي هذه الأثناء ظهر سليمان بن هشام بن
عبد الملك، ابن الخليفة قائدا لثورة جديدة في حمص، واستطاع ترميم الأسوار، وكانت
له شرعية كونه من البيت المرواني وابن آخر الخلفاء الأقوياء والذي كاد يكون خليفة
لولا أزمة بيعة العهد المعقودة للوليد بن يزيد، وكانت ثورته هي الأخطر لما له من
نوع شرعية ومكانة في البيت الأموي، إلا أن مروان بن محمد استطاع أن يهزمه وظل
يطارده حتى فشلت ثورته وانضم إلى ثورة الخوارج بقيادة الضحاك بن قيس، وكانت هذه
إحدى مفارقات التاريخ أن يبايع أمويٌّ خارجيًا بالخلافة!!
وكانت ثورة الضحاك هذه قد بدأت في
الموصل –شمال العراق- (128 هـ) فقد استولى عليها وقتل والي بني أمية، ورغم أن
مروان استطاع هزيمتهم بعد قتال شديد إلا أنها لم تكن هزيمة حاسم، بل ظل القتال
مشتعلا لعشرة أشهر يتولى فيها قيادة الخوارج شخصيات قتالية باسلة يعجز جيش الخلافة
عن هزيمتها، إلا أن النهاية كانت لصالح جيش الخلافة الذي ظهر فيه أبطال باسلون
استطاعوا بعد هذه المدة الطويلة إنهاء ثورات الخوارج وطردوهم من الكوفة ثم من
الموصل ثم من الأهواز وظل أولئك الخوارج في انهزام وانسحاب حتى وصلوا إلى السند.
كذلك أشعل الخوارج في اليمن ثورة أخرى
قادها عبد الله بن يحيى الكندي الذي اتخذ لنفسه لقب "طالب الحق"، وكان
خطر هذه الثورة في أنها استطاعت أن تمتد نحو مكة والمدينة، إذ استطاع أبو حمزة
الخارجي قائد جيش ثورة اليمن نحو الحجاز أن يسيطر على مكة والمدينة. وقد أرسل
مروان بن محمد إليه جيشا هزمه وقتله وأنهى تمرده.
وما
كاد مروان يفرغ من ثورات العراق واليمن ويولي وجهه شطر الثورات التي اشتعلت في
المغرب العربي حتى ظهر أبو مسلم الخراساني في خراسان، وأبو مسلم هذا هو عنوان
انهيار الدولة الأموية وزوالها من الوجود!
نشر في ساسة بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق