اقرأ أولا:
بينما تحاول الدولة الأموية علاج التفكك الذي اعتراها
والصراعات التي نشبت في جسدها الكبير، إذ نبتت في خراسان –أقصى الشرق- بذرة الدعوة
العباسية التي ما لبثت أن كبرت واستفحلت واستولت على خراسان، إلا أن أحدا لم يكن
ليخطر بباله أن هذه الثورة البعيدة ستكون هي الثورة الكبرى ووريثة الدولة الأموية
العظيمة!
لم
يفلح رجال الحرب وأبطال الدولة في أن يصمدوا أمام هذه العاصفة القادمة من المشرق،
كانوا قلة في العدد والعدة لكنهم يحملون روحا وثابة وبسالة عجيبة، كانوا رجال
الدولة كما تكون الدول في أول عهدها، العفاء والفتوة والشباب.. وكان الأمويون
أمامهم –رغم العدد والعدة والتاريخ المجيد- كالدولة التي في أواخر زمانها، تدبر
عنها الأيام وتعاكسها تصاريف الزمان.
وبالرغم من أن الأمويون استطاعوا اعتقال
رأس الدعوة العباسية الإمام إبراهيم بن محمد إلا أن هذا لم يغير شيئا من مسار
الأحداث إذ كانت الدولة قد قامت فعلا في المشرق وتسير نحو المغرب.
كذلك فقد كانت العلاقة المضطربة بين
الخليفة الأموري مروان بن محمد وواليه على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة من أسباب
تضعضع موقف الأمويين، وكلاهما من الخبرات العسكرية النادرة. وقد استهان قادة
الجيوش الأموية أحيانا بجيش العباسيين فلقوا جراء ذلك هزائم مريعة.
واصل العباسيون تقدمهم من المشرق إلى
المغرب، وكان يمدهم بالمعلومات مركزهم السري في الكوفة –والذي يتولاه أبو سلمة
الخلال كبير الدعاة- وتأتيهم توجيهات القيادة العامة للدعوة في الشام، واستطاعوا
من خلال هذين المصدرين من المعلومات تغيير بعض الخطط ومسارات المعارك بما حقق لهم
النصر.
واستعمل العباسيون سلاح الإشاعات،
واستطاع قحطبة بن شبيب –قائد جيش الدعوة العباسية- أن يكسب بالإشاعة معركتين من
أهم المعارك، فعندما تحصن يزيد بن عمر بن هبيرة لقتاله عند جلولاء انطلق وأشاع أنه
سيذهب مباشرة إلى الكوفة (عاصمة العراق) فأجبر جيش يزيد على العودة المسرعة إلى
الكوفة خشية أن تسقط بيد العباسيين تاركا كثيرا من الغنائم والعدد في جلولاء، فعاد
قحطبة سريعا إلى المعسكر واستولى على هذه الغنائم وأحرق ما لم يقدر على الاستفادة
منه.
كذلك أشاع قحطبة أنه سيقصد إلى المدائن
(عاصمة العراق القديمة أيام الفرس) فاستعد ابن هبيرة لذلك ثم تبين له أن قحطبة
سيقصد إلى الكوفة، فالتقى الجيشان أخيرا بعد مناورات ومعارك محدودة في منطقة غرب الفرات
(5 المحرم 132 هـ).
من مطالعة الروايات وتتبعها نأسف أن المصادر
التي وصلتنا لا تكشف بوضوح الدور الخطير الذي لعبه أبو سلمة (كبير دعاة العباسيين
في الكوفة)، فنحن لا نراه إلا في لحظات قليلة لكنها دائما حاسمة وفاصلة ومؤثرة.
وأهم من المعلومات والتوجيهات التي كان يرسلها إلى قحطبة تحركاته الداخلية بين
عشائر الكوفة وزعمائها وأنصار آل البيت فيها، واستطاع أن يدبر انقلابا داخليا في
لحظة شديدة الحرج، ففي ليلة واحدة خرج زعماء الكوفة في تتابع مدروس مع أنصارهم وهم
يلبسون السواد (شعار العباسيين) فكانت مفاجأة قاسية لم يستطع أن يصمد أمامها صاحب
الشرطة (وزير الداخلية) فهرب إلى معسكر الجيش الذي كان يستعد لمواجهة جيش
العباسيين القادم من المشرق، ودخل أصحاب السواد قصر الإمارة في الكوفة بانقلاب
داخلي قبل وصول الجيش، وخرجت الكوفة فعليا من سلطة الأمويين. واستولى أهلها على
الأموال وما في الخزائن وصار الجيش الأموي في وضع شديد الحرج.
ثم أرسل أبو
سلمة بكل ذلك إلى جيش قحطبة وأمره بأن يقرأ هذه الأخبار على الجنود وأن يشيعها في
جنود الأمويين أيضا، فبلغت معنويات جيش العباسيين عناء السماء فيما نزل الخبر
كالصاعقة على جيش الأمويين، فاضطر ابن هبيرة أن يرسل فرقة من جيشه لحماية الكوفة،
لكن الفرقة ما إن وصلت حتى كانت الكوفة قد انتهى أمرها تماما، وساهم خروج هذه
الفرقة في ضعف الجيش الأموي أكثر وأكثر.
ثم وقعت المعركة بينهما بالقرب من "الفلوجة"، وجرى
قتال بدا فيه أن النصر للأمويين حتى جاء خبر دخول الكوفة في طاعة العباسيين
فانقلبت نتائج المعركة بما شاع في جيش الأمويين من الهزيمة، فتم النصر للعباسيين.
إلا أن الجيش المنتصر تلفت بعد النصر فلم يجد قائده الباسل
المحنك وصاحب كل انتصاراتهم منذ خرجوا من خراسان، والذي لم يبق له إلا أن يرى ثمرة
نصره الكبرى (دخول الكوفة)، وأغلب الظن أنه غرق في نهر الفرات، فانتصر الجيش رغم هزيمة
قائده!
والعكس بالعكس أيضا، فقد انهار جيش الأمويين رغم بقاء قائده
حيا، ولم تفلح محاولات ابن هبيرة لتدارك انسحابات الجيش، ثم استقر رأيه مع فلول
جيشه على الاعتصام بمدينة واسط، وهو قرار يعني ترك الكوفة لمصيرها المحتوم ودخول
العراق فعليا في سلطان العباسيين. كما أنه يدل على سوء الأوضاع بين ابن هبيرة
والخليفة الأموي إذ كان بالإمكان الانضمام بباقي الجيش إلى الجيش الرئيسي الذي
يقوده مروان بن محمد والقادم من الشام. وهو القرار الذي أغضب مروان بن محمد لا
سيما بعد أن عرف أن الجيش المنصور قد قُتِل قائده!!
وهكذا دخلت الكوفة في طاعة العباسيين، وأعلنها العباسيون عاصمة
لهم، وصار أبو سلمة الخلال الحاكم الفعلي في الكوفة وصاحب الأمر والنهي فيها، وخرج
الناس إليه فبايعوه كنائب عن الإمام الذي ما زال مجهولا وخفيا.
خرج أبو سلمة في موكب يحف به الجيش العباسي نحو مسجد الكوفة،
وألقى خطبة افتتاح العصر العباسي، التي أراد بها أن يقطع كل أمل في عودة الأمويين
ويبث في الناس اليقين بأن زمانهم قد ولَّى إلى غير رجعة، وجاء زمان الأئمة
المقدمين من آل البيت النبوي الكريم، قال:
«إن الله قد أكرمكم بهذه الدعوة المباركة، التي لم تزل القلوب تتشوق
إليها فخصكم الله بها، وجعلكم أهلها، ألا وإنه ليس لأحد فيها شرف إلا بعدكم، ولا منزلة
في حباء ولا في مجلس ولا مدخل ولا مخرج عند أئمتكم إلا دونكم، ألا وإنها دولتكم فاقبلوها
وأيقنوا بنصر الله إياكم كعادته فيما أبلاكم حتى بلغكم ما أنتم فيه، فاعتبروا ما بقي
بما مضى، وتحفظوا من خدع السفهاء وتزيين شياطينهم لكم اتباع أهوائهم؛ فإنهم سيقرعون
لكم بالحسد على هذه النعمة، فاتهموهم ولا تقاربوهم ولا تطمعوهم في أنفسكم؛ فيردوكم
على أعقابكم، وأبشروا بالخير الكثير في عاجلكم إلى ما قد ذخره الله لكم في آجلكم».
وكعادة الناس في أزمان انهيار الدول وقدوم العهد الجديد أجابوه
بالهتاف والطاعة والعزم على الصبر ومواصلة الجهاد.
وأعلن أبو سلمة أنه سيزيد العطاء (الرواتب) فبدلًا من ثلاثمائة
درهم في العام كما كان في عهد بني أمية؛ فإنه سيعطي ثمانين درهمًا في الشهر الواحد
(أي 960 درهمًا في العام)، وهذا للعامة، وأما الخاصة والمقدمون فهم أعلى من ذلك في
العطاء، ومارس أبو سلمة من هذه اللحظة إدارة الأمور بنفسه لا عبر الرسائل، فوجه الجيوش
والسرايا إلى واسط وإلى غيرها من الجيوب الأخرى، وولَّى الأعمال والولايات والدواوين،
وجبى الخراج من الأقاليم التابعة للكوفة، وبدأ في حشد الأجناد لمواجهة جيش مروان بن
محمد القادم من الشام، وراسل أبا مسلم الخراساني ليرسل إليه بالجنود؛ فبعث أبو مسلم
لمَنْ يتبعه من القادة والقبائل، فأخرجوا له أعدادًا من الجنود بعثها إلى أبي سلمة
الخلال.
ومن هذه اللحظة صارت الكوفة عاصمة الدولة الجديدة.. الدولة
العباسية الزاهرة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق