اقرأ أولا:
ما زلنا نواصل التقاط مواقف الفيلسوف المخضرم الكبير د. عبد الرحمن بدوي من حكم العسكر عبر مذكراته الحافلة الصادرة في جزئين، وهو الذي عايش العهدين: الملكي والعسكري، وحقق من المكانة الفكرية ما لا ينكره أحد ولو كان من أشد أعدائه.
(27)
"لقد استخدمت إذن "أسلوب الحكيم" كما
يقال في كتب البلاغة العربية، أو "الخطاب غير المباشر" كما يقال في كتب
البلاغة الأوروبية، إذ لم يكن في وسعي أن أنشر في الصحف أو أصدر كتبا تتناول الرد
على المدّ القرمزي (= الشيوعي) في مصر بطريقة مباشرة، فإن الرقابة كانت بالمرصاد،
والنفوذ الشيوعي في إدارة الدولة، خصوصا من سنة 1964 وما يليها كان كفيلا بالقضاء
على كل صاحب قلم يجرؤ على الهجوم المباشر على الماركسية والاشتراكية
"العلمية" وما تفرع عنها من اتجاهات. إذ في سنة 1964 استولى الشيوعيون
على كل أدوات الإعلام في مصر: من صحافة، وإذاعة، ومسرح، وسينما، ومطابع تنتسب إلى
القطاع العام والهيئة العامة للكتاب. وراحوا يتوزعون فيما بينهم رئاسة تحرير هذه
الصحف وإدارة المسارح وقطاع السينما والإذاعة، والهيئة العامة للكتاب، بل وزعوا
مكافآت للتأليف والترجمة على أنفسهم عن كتب لم يشرعوا فيها ولن يشرعوا فيها أبدا.
وضاعت هذه المكافآت على الدولة، فلم تستردها ممن تعاقدوا معهم وسلموهم المكافآت
دون أن ينجزوا ما تعاقدوا عليه. وهكذا استخدموا سيف المعز وذهبه: السيف بالشغب على
من لا يسير في موكبهم والتحريش عليه من السلطات الباطشة، والذهب: بالأموال التي
أغدقوها على أنفسهم ومن تملقهم أو مشى في موكبهم. وكان عجيبا حقا أن ترى من لم
يُعرف عنه من قبل أي ميل إلى الشيوعية والماركسية يلهث وراء هؤلاء الشيوعيين
والماركسيين، وذلك مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ اللذين صارا يدعوان الناس إلى
قراءة ماركسية لقصصهم، ويزعمان أنها قصص رمزية تقوم على الصراع الطبقي والإشادة
بالبروليتاريا والدعوة إلى ثورة شعبية تقضي على البورجوازية والطبقية وتصوّر
الحتمية التاريخية لانتصار الطبقة الكادحة على الإقطاع والرجعية – وهكذا إلى آخر
معجم الألفاظ المعروف. ولعدم خبرتهما بهذا التأويل الرمزي الماركسي استعانا بأئمة
التفسير الشيوعي الماركسي، مثل محمود أمين العالم، وغالي شكري"[1].
(28)
"كان جو الجامعة في تلك السنوات السبع (1960 –
1966) قد فسد فسادا لا علاج له أبدا. إذ تنافس الأساتذة في العمل بالمخابرات،
وكتابة التقريرات لمكتب الأمن وللمخابرات العامة وللمخابرات العسكرية، وصارت
المناصب الإدارية: مدير جامعة، وكيل جامعة، عميد كلية، وكيل كلية، وقفا على عملاء
المخابرات هؤلاء. ولم يكن أحد يعين في منصب من هذه المناصب إلا بعد موافقة
المخابرات. ولم يكن مدير الجامعة ليجرؤ على اقتراح اسم مرشح لعمادة الكلية إلا بعد
تلقي موافقة المخابرات. وهكذا كانت المخابرات هي التي تتحكم في تعيين مدير الجامعة
وعميد الكلية وسائر الوظائف العليا في إدارة الجامعة والكلية. وكان العميد في كل
كلية يتخذ له عملاء من هيئة التدريس في كل قسم ليوافوه بالأخبار عن المسلك السياسي
لأعضاء القسم. والعميد بدوره يبلغ مدير الجامعة، وهذا بدوره يبلغ الأمين العام
للجماعة، وكان من رجال الجيش السابقين، بكل ما لديه من أخبار عن السلوك السياسي
لأعضاء هيئة التدريس. وتتجمع المعلومات عند الأمين العام، ليبلغها بدوره إلى جهات
معينة في إدارة المخابرات، وأحيانا إلى مدير مكتب الأمن في وزارة التعليم العالي.
على أن لهذا الأخير عملاءه المباشرين من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات.
وكان هذا التنظيم الاستخباري قد بدأ في سنة 1956. ثم
واكبه ابتداء من سنة 1962 تنظيم آخر أشرنا إليه من قبل هو التنظيم السري الذي يشرف
عليه الجهاز السري. وهذا الجهاز السري، وكان يشرف عليه أستاذ في كل جامعة، صار
يستعين بنفر آخر من أعضاء هيئة التدريس في كل كلية ليحكم الرقابة في كل المواقع.
ومعظم هؤلاء العملاء كانوا من الماركسيين أو المتجرين باليسارية والماركسية
والشيوعية، لأن هذا التنظيم كان وليد استفحال سيطرة الشيوعيين على مراكز القوة.
وبالجملة كان الجو في الجامعة جو الجاسوسية الشاملة
والإرهاب المتربص والوشاية المتحفزة"[2].
(29)
وعن عبد العزيز السيد وزير التعليم العالي
يقول بدوي: "كان جاهلا مهرجا لا مؤهل له عند صاحب السلطان إلا سرد النكت
والفكاهات منذ أن كان زميلا له في التدريس في الكلية الحربية. وكما ينهال الزوج
الجريح في عمله المفلس مما كان في يده- على أهل بيته بالتنكيل والركل والتصرفات
الحمقاء الطائشة، انهال جمال عبد الناصر على أهل مصر بالحراسات والاعتقالات والعزل
السياسي.
ولعب كل وزير دوره في هذه الهستيريا
الشاملة، بدعوى "التطوير". فانطلق وزير التعليم العالي في الدعوة إلى
"تطوير" الجامعة، وهو خاوي الذهن تماما من كل تصور لهذا التطوير. ولم
يجد شعارا لهذا التطوير المزعوم غير عبارة "ربط الجامعة بالحياة". وكأن
الجامعة كانت قبل ذلك مرتبطة بالموت، تدبّره للطلاب بأيسر طريق! ثم استبدل به
شعارا آخر هو "ربط الجامعة بالمجتمع"، وكأن الجامعة قبل ذلك كانت تعد
الطلاب للعمل في الكواكب والأجرام السماوية! وأذكر أنني في صيف 1962 كنت أنزل في
فندق "سيسيل" بالإسكندرية وكان ينزل به آنذاك عبد العزيز السيد. وكان من
المحتم على النزلاء تناول الإفطار في الفندق. فكان عبد العزيز السيد يجلس أحيانا
معي لتناول الإفطار على نفس المائدة. فدار الحديث التالي بينه وبيني:
سألني: ما رأيك فيما أقوم به الآن من تطوير
الجامعة؟
فقلت: أي تطوير؟
فقال: لربط الجامعة بالمجتمع والحياة.
فقلت: وهل هي ليست مرتبطة بهما؟ هل كلية
الطب تخرج الأطباء كي يطببوا في السماوات العلا؟ وهل كلية الهندسة تخرج المهندسين
ليشيدوا العمائر وينظموا الري ويوفروا الكهرباء والآلات لسكان الكواكب الأخرى؟ وهل
كلية الزراعة تخرج الزراعيين ليحسنوا الزراعة في طبقات المريخ؟ وهل كلية التجارة
تخرج التجاريين والمحاسبين ومديري الأعمال والتأمين لكي يبذلوا نشاطهم هذا في يوم
الحساب؟ وهل كلية الحقوق تخرج رجال القضاء والنيابة والمحامين لممارسة القضاء
والتحقيق والدفاع في القضايا التي تثار بين الزبانية في الجحيم؟ وهل كلية الآداب
تخرج المدرسين للغات والعلوم الإنسانية ليعلموا ملائكة السماء!!
فقال: أتريد أن تسخر مني ومن جهودي العظيمة
لتطوير الجامعة؟ لا، لا ...
فعاجلته بقولي: هذا هو رأيي، وهو رأي شخص
مطلق الرأي Free Lance لا يتقيد إلا بما
يعتقد، لأنني لا أطمع في أي منصب قيادي في الجامعة. ولست واحدا من أولئك الذين
يلتفون حولك ويتملقونك ويؤمنون على كل ما تقول.
فقال: مطلق الرأي Free Lance؟ وهل في الجامعة أحد يتخذ موقفا كهذا، والكل يجب أن يكون مسخرا
لخدمة الشعب والمجتمع، ولا مجال لأي انحراف...
فعاجلته حتى لا يسترسل في هذه الشنشنة
المعتادة الممجوجة: أنت سألتني رأيي، وهذا هو رأيي، وليس لك أن تحفل به ما دام
المئات من أعضاء هيئة التدريس في الجامعة يسيرون وراءك ويعملون بما تأمر.
وعند هذا افترقنا، وتحاشيت جلوسه معي بعد
ذلك.
وامتلأ غيظا، لأنه راح يقول لبعض الناس بعد
ذلك إنني قلت له إنه يريد تخريب الجامعة، كما أخبرني بذلك نفر من هذا البعض.
وهكذا كان الأمر كله تهريجا في تهريج: فلا
أحد يريد إصلاح الجامعة، بل كان هدف الحاكم هو إخضاع كل أعضاء هيئة التدريس في كل
الجامعات، كي يكونوا مجرد أبواق تتشدق بكيل المديح للحاكم المطلق ونظامه الباغي
المتهاوي.
وجاء بعد عبد العزيز السيد وزير تعليم عال
آخر هو عزت سلامة، فاندفع في نفس الموجة وزاد عليها بالتضييق على أعضاء هيئة
التدريس في الحضور كل يوم، والتوقيع على الحضور، وإلزام رئيس القسم في يوم الخميس
بتقديم كشف غياب وحضور لأعضاء قسمه. فكنت أضطر إلى المجيئ يوم الخميس لكتابة هذا
الكشف وتقديمه لمقابلته. واستمريت على هذا النحو إلى أن أنقذني من هذا الموقف سفري
إلى باريس في 18 فبراير سنة 1967، وهو يوم بدء "غيبتي الكبرى" عن الوطن"[3].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق