كان من عجائب التوافق أن وقع النصر
والتحرير في أفغانستان في نفس الوقت الذي شهد انهيار تجربة حركة النهضة في تونس،
حيث جرى الانقلاب على راشد الغنوشي وإزاحته من المشهد، فكان ذلك بمثابة اللطمتين
المتعاكستيْن في وقت واحد: انتصار طالبان، وانهيار الغنوشي!
لقد انتصر أولئك الذين يُوصمون بأنهم
متشددون في الدين، لا يفهمون العالم ولا يحسنون التقدير، وانهار ذلك الذي قدَّم
أكثر المحاولات التطويعية للإسلام لكي يوافق المزاج الغربي، فسعى جهده لتطويع
الإسلام فكريا ليجعله مجرد نسخة حداثية غربية، وسعى جهده لتنفيذ كل التوصيات
العملية السياسية التي تجعله حزبا سياسيا أليفا ولطيفا ملتزما إلى أقصى حد
بالمواصفات التي تطمئن الغربيين وتؤكد لهم أنه حزب "معتدل"!
ولذلك عاشت البيئة النخبوية الثقافية
الإسلامية في صدمة ارتباك لفترة من الزمن، ولا تزال آثارها باقية حتى لحظة كتابة
هذه السطور، فأي محنة أشد من هذه يمكن أن يعيشها أولئك الذين عاشوا أعمارهم
يُنَظِّرون لأن التشدد هو مشكلتنا الثقافية التي سببت هزيمتنا وتخلفنا! وعاشوا
يرسمون لنا أن التقدم والتطور كامن في الاستفادة من الحداثة الغربية وفهم التجربة
الغربية في الانتقال من التخلف إلى التفوق.
ثمة أسباب عديدة يمكن أن تفسر نجاح
طالبان ومن ورائها الشعب الأفغاني في دحر الاحتلال الغربي، وتفسر نكسة الحركات
الإسلامية في العالم العربي، ولكني أريد في هذه الأسطر أن أتوقف عند سببٍ واحدٍ
أراه أحد الأسباب الرئيسية في تحقيق الفارق بين التجربتيْن: ذلك هو الإيمان بـ
"الدولة"!
إنه ما من صانع قرارٍ غربي حاول أن
يبحث أسباب فشلهم في أفغانستان، إلا وقد توقف عند الفشل في بناء
"الدولة"، بل لقد كان عدم وجود "الدولة الحديثة" مخيفا
للأمريكان قبل احتلالهم، ولذلك اقترح بول وولفوتيز قبل الاحتلال أن يبدؤوا باحتلال
العراق، إذ فيها دولة حديثة وجيش نظامي، ومن ثَمَّ سيسهل تحقيق النصر الأمريكي،
بينما أفغانستان التي لا فيها دولة حديثة ولا جيش نظامي سيصعب الانتصار عليها[1].
وفيما بعد احتلال أفغانستان، لخص زلماي
خليل زاده مسؤوليته فيها بقوله "توسطت في نزاعات بين أمراء الحرب، وحثثتهم
على التعاون مع الحكومة الوطنية، كما ساعدت القادة الأفغان على وضع حجر الأساس
للمؤسسات الوطنية، مثل: الجيش الوطني الأفغاني"[2].
وتقول كونداليزا رايس، التي عملت
مستشارة للأمن القومي ووزيرة للخارجية، عن الفرق المتنوعة التي عملت في أفغانستان:
"مع أن هذه الفرق كانت متنوعة التركيب والنشاط إلا أن لها جميعا هدفا واحدا،
هو مد سلطة الحكومة الأفغانية المركزية"[3].
ومثلها يقول روبرت جيتس، الذي تولى
وزارة الدفاع الأمريكية بعد دونالد رامسفيلد، وكان قد تولى قديما رئاسة المخابرات
المركزية الأمريكية: "كانت عشرات الدول والمنظمات الدولية والمنظمات غير
الحكومية منخرطة في محاولة مساعدة الأفغان على تأسيس حكومة فاعلة"[4]،
ويقول أيضا: "إن هناك تركيزا كبيرا في إنشاء حكومة مركزية قوية في بلد لم
يسبق له عمليا أن كانت فيه حكومة، وتركيزا بسيطا جدا في تحسين الحكم والأمن
والخدمات على صعيد المحافظة والقضاء، بما في ذلك الاستفادة أكثر من زعماء العشائر
الأفغانية المحلية ومجالسها"[5].
ولا يقتصر الأمر على الأمريكان وحدهم،
ففي مذكرات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والتي صدرت قبل أقل من عام
(صدرت في أكتوبر 2022م)، نرى نفس الأمر أيضا؛ فقد روى نتنياهو أن وزير الخارجية
الأمريكي جون كيري أراد إقناعه بالموافقة على مقترح للسلام، ولكن نتنياهو أصرَّ
على أن يحتفظ بحق اقتحام المناطق الفلسطينية بقواته الأمنية والعسكرية "لاستئصال
الخلايا الإرهابية"، ولما طمأنه كيري بأن الأمريكان سيدربون قوات الأمن
الفلسطينية للقيام بهذه المهمة، لم يطمئن نتنياهو، فاقترح عليه كيري ترتيب زيارة
سرية لأفغانستان ليطلع بنفسه على إنجاز الأمريكان في تدريب الجيش الأفغاني، فقال
نتنياهو: "في اللحظة التي ستغادر فيها أفغانستان ستقضي طالبان على هذا
الجيش"، يواصل نتنياهو: وهذا ما حدث فعلا في 2021، ما إن سحبت أمريكا آخر قواتها
حتى تبخر الجيش الأفغاني خلال أيام[6]!
ولقد كرر نتنياهو أكثر من مرة، في
مذكراته، أن القوات التي يدربها الاحتلال لا تتمتع بنفس الإيمان والتضحية
العقائدية التي تتمتع بها المنظمات التي يسميها "إرهابية"، ومن هنا قرأ
سيطرة طالبان على أفغانستان كنموذج متكرر لسيطرة حماس على غزة (2007م) وهزيمتها
لقوات السلطة الفلسطينية، ولسيطرة حزب الله على لبنان (2000م) واستعصائه على قوات
الجيش اللبناني[7].
الخلاصة المقصودة أن الشعب الأفغاني
احتفظ بعافيته، ولم تستطع "الدولة الحديثة" أن تكسر المجتمع الأفغاني
ولا أن تتغلغل فيه وتتغول عليه، ومن ثَمَّ بقي المجتمع قادرًا على مقاومة الاحتلال،
واحتضان المقاومة، ونبذ السلطات العملية المرتبطة بالمحتلين! وأهم من ذلك أن
الأجهزة التي بناها الاحتلال لم ينظر إليها الأفغان باعتبارها مكسبا ولا على أنها
مؤسسات وطنية يجب الحفاظ عليها!
بينما العكس تماما هو ما وقع في عالمنا
العربي، وقد ازدادت محنة العرب حين نشأت هذه "الدولة الحديثة" وجيوشها
النظامية بأيدي الحكام المحليين، مع أنهم كانوا عمليا تحت نفوذ الأجانب المحتلين،
ومن المؤسف أن الحركات الإسلامية في العالم العربي –مع وجود الغفلة وطول الزمن-
اعتبرت أن هذه المؤسسات الدولتية هي من المكاسب الوطنية التي تتحتم المحافظة
عليها.
لقد ارتكب الغنوشي كل تنازل ممكن بغية
المحافظة على الدولة ومؤسساتها، وأبدى عبد الفتاح مورو احترامه الكبير للطاغية
المجرم للحبيب بورقيبة –مع أن مورو من ضحايا التعذيب في عهده- لأنه بنى
"مؤسسات الدولة التونسية"، وكان الرئيس مرسي رحمه الله حتى جلسة محاكمته
الأخيرة يطلب جلسة خاصة يُفضي فيها إلى قضاته بما لديه من أسرار لأنه كان رئيس
دولة ويملك ما يرى أنه يجب ألا يُذاع!! ثم مات في نفس هذه الجلسة!! لقد كان وفيا
لمنطق الدولة –مع كل أسف- حتى مات مقتولا على يد هذه الدولة نفسها!!
لقد سمحت الحركات الإسلامية العربية
لهذه الدولة ومؤسساتها أن تفترسهم، ولم تفكر حتى الآن في أن هذه
"الدولة" إنما صُنِعت أساسا لا لخدمة الشعب، بل للسيطرة عليهم وتنظيم
امتصاص أموالهم، ولم تكن هذه الدولة إفرازا طبيعيا لديننا ومجتمعنا، وإنما نزلت
علينا عبر الاحتلال وصنائعه، فما من قصة احتلال ولا هيمنة أجنبية إلا وكان لها
صراع عنيف كسرت فيه المجتمع، وجردته من سلاحه، وهيمنت على أوقافه، وسيطرت على
أمواله!
إن قوة
المجتمع الإسلامي كامنة في توزع القوة فيه، فجيشها لا يحتكر السلاح ويجرد الرعية
منه، والسلطة لا تسيطر على أنشطة المجتمع وفعالياته العلمية والاقتصادية
والاجتماعية، والتماسك القبلي والعشائري هو أحد أهم عوامل القوة الداخلية
والخارجية وليس نقطة ضعف كما تنظر إليه الحداثة التي لا تريد إلا سلطة قوية شاملة
ومواطنا فردًا متجردًا من كل قوة ومربوطا بها في كل خطوة!
النظام
الإسلامي نظام يحرص على قوة المجتمع وقوة العلماء وقوة التلاحم القبلي، لأن
مجتمعًا بهذا الأسلوب لا يمكن احتلاله ولا يمكن الطغيان عليه، ولو حدث، فإنه
احتلال متعثر وزائل، وهو كذلك طغيان محدود ومتهدد.
والدولة التي تتوغل
على المجتمع لا تكتسب قوَّتَها إلا على حساب قوته، وكلما اختُزِلت القوة في السلطة
كان الجميع مهددًا، فإذا استبد بالسلطة طاغية لم يستطع أحد أن يقوم له، وإذا هَزَم
أجنبي جيش الدولة الرسمي فقد انهارت البلد كلها ولم يعد فيها مقاومة.
ونحن في
الذكرى الثانية لتحرر أفغانستان، نعيد ونكرر ونجدد التهنئة على ما كتبه الله لهم
من النصر، ونعيد ونكرر ونجدد الأمل في أن تبقى أفغانستان مجتمعا قويا متماسكا
متلاحما، متمسكا بالدين وحريصا عليه، مستعصيا على استبداد طاغية محلي أو على
احتلال طاغية أجنبي.
نشر في مجلة الصمود، الناطق بلسان الإمارة الإسلامية في أفغانستان، سبتمبر 2023
أحسنت يا رائع - د. محمود لملوم
ردحذففتح الله عليك فتح العارفين
ردحذفهذا الموضوع يشكل هاجسًا بالنسبة لي لأني لم أسمع به إلا مؤخرا وندر من تحدث عن أزمة الدولة الحديثة مع النظام الاسلامي. هل هناك من جمع هذه المادة في كتاب وجعله عن الدولة الحديثة في ميزان الإسلام
ردحذفكتاب الدولة المستحيلة / المؤلف : وائل حلاق
حذفبارك الله فيك أستاذ محمد
ردحذفبارك الله فيك
ردحذفمنتهى الحرفية والدقة فى مناقشة الموضوع
ردحذفمازلت سيدنا تؤكد على ضرورة هدم الصنم الأكبر " الدولة " والذى أوصل المسلمين إلى ماوصلوا اليه ،، لكن السؤال البديهى : ماهو البديل وكيف كان نظام الحكم فى الإسلام ؟؟
أقصد ان حضرتك شخصت الداء فكيف يكون الدواء ؟؟
زادكم الله علما ونفع بكم
أوجزت وأحسنت، الله يرحم والديك ويبارك فيك
ردحذفمن أروع ما قرأت وصف عميق لحالة الأخوان المسلمين المزرية
ردحذفروعة والله
ردحذفماشاء الله تبارك الله . وفقك الله .
ردحذفأصبت دكتور محمد في الاشارة إلى الانقلاب على الغنوشي وهذا صحيح فقد تحالف ضده وضد حزبه الجميع يمينا ويسارا ونقابات عمالية ووسائل إعلام ومنظمات غير حكومية وعسكر وأمن وجيران اقليميين وقوى دولية. وقد اعتبرتحضرة الدكتور هذا الانقلاب "سقوطًا" للغنوشي وفي هذا تجن كبير من طرفك على شخص (وحركة) اجتهد وتحرك رفقة إخوانه منذ عام ١٩٦٩ وسط ظروف صعبة جدا ومناخات يسارية متطرفة في بلد سار شوطا بعيدا في التغريب والاستئصال العنيف لكل مظاهر الدين والتدين. الرجل يقبع اليوم في السجن ظلما ويلا يستحق مثل هذا التجريح في مقارنة ظالمة بين أوضاع متباينة جدا ومختلفة جدا في كل من تونس وأفغانستان.
ردحذفاحسنت
ردحذف