لم يكن الكفر بالله طريقا إلى عذاب
الآخرة فحسب، بل هو كذلك باب العذاب في الحياة الدنيا، كما قال تعالى {وَمَنْ
أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
ففي الوقت الذي يرفض فيه الإنسان
الخضوع لله، ويتمرد على الله، فإنه يُنَصِّب نفسه إلهًا، ويجعل رغباته وشهواته
دساتير وقوانين ومبادئ حاكمة، وما دام الإنسان مغرورا بنفسه فإنه يغفل عما في
آرائه وأفكاره من النقص والخلل، ويغفل عما في تصرفاته من مآلات السوء والنكبة،
يحسب أفكاره منتهى العقل والحكمة، ويحسب رغباته وشهواته مطلق الحرية والحضارة، كما
قال تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ
عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ
غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } [الجاثية:
23].
ولا يزال كذلك حتى يُنْكَب بعقله
وشهوته، ويذوق فساد رأيه ووبال أمره، كما قال تعالى {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ
زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا
أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ
تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [يونس:
24].
ومن أوضح الظواهر التي نراها دليلا على
هذا الحال، ما ينعقد الآن من المؤتمرات الدولية التي تشكو من تغير المناخ ومن
ارتفاع درجة حرارة الأرض، ومن النقص في الموارد والثروات الطبيعية بحيث لا يتناسب
معها الأعداد المتزايدة من السكان، فيتسبب كل هذا معًا في الكوارث البيئية والأعاصير
والفيضانات والحروب والمجاعات وانتشار الفقر والمرض... إلخ!
وما من شك في أن الحضارة الغربية
المهيمنة والمتفوقة هي المسؤول الأول عن كل هذا الخراب بما أحدثته في هذه البيئة
من استهلاك عنيف للموارد، ومن تلويث ضخم للبيئة، ومن سياسات وحشية تمتص بها ثروات
الأمم وتسيطر عليها، ولكنهم مع ذلك –ولكونهم أغلقوا على أنفسهم باب الرجوع إلى
الله- فلا يجدون حلولا لهذه الكوارث إلا أن يستمروا في العتو والغلو واتباع الهوى
والشهوات، فينتهون إلى ضرورة إنقاص عدد السكان.
وإذ وصلنا إلى هذه النتيجة: إنقاص عدد
السكان، فإن العقل المعجون بالكِبْر والهوى والشهوة، ينتج الوسائل القبيحة للحصول
على هذه النتيجة، ليس أولها وسائل القتل العمد مثل: إنقاص حجم المساعدات للمحتاجين
والمكروبين، وإنقاص وسائل الضمان والرعاية الاجتماعية في البلدان التي تقدمها،
ورفع الدعم الحكومي عن الفئات الفقيرة والمهمشة، وهي الوسائل التي تنتهي عمليا
بدعم نشوب الحروب والعمل على إطالتها. وليس آخرها وسائل القتل الخفية مثل: تمكين
المرأة من وسائل منع الحمل، وجعل الإجهاض من حقوق المرأة وتيسير وسائله، وإباحة
عمل قوم لوط والفسق بالأطفال وإتيان الحيوانات، وهذه وسائل تمتزج فيها رغبة إنقاص
عدد السكان بهوس اتباع الشهوات التي لا تنتهي.
وليست هذه الوسائل جديدة، بل هي قد
بزغت منذ أن هيمنت العلمانية وغلبت المسيحية، إلا أنها في زماننا هذا تُغَلَّف
بزخارف علمية (أبحاث ودراسات ومؤتمرات منحازة ومغرضة) وزخارف فكرية (تجعلها من
حقوق الإنسان ومن علامات التحرر)، وتنتهي إلى حزمة من القوانين والدساتير التي
يجري تعميمها وفرضها على الجميع، ودعم شبكات من المنظمات الاجتماعية التي تروج لها
تحت غطاء: حقوق المرأة وحقوق الطفل ونحو هذه الأمور!
وإلا فقد قالها مالثوس قديما بكل وضوح،
قبل أن تكتسب الحضارة الغربية هذه القدرة الفائقة على تغليف التوحش وتزيينه، فقد
نادى بأن تبقى أجرة العامل عند حدّ الكفاف كي لا يتكاثر، ونادى بخفض الأموال التي
تُنْفَق على العاطلين لأن ذلك يشجعهم على الكسل وعلى المزيد من الإنجاب، ونادى
بوقف صرف إعانات للفقراء، ونادى بعرقلة الزواج المبكر. وقد كانت هذه الاقتراحات –كما
يقول ول ديورانت- بمثابة "وحي إلهي مقدس" تلقاه البرلمان البريطاني
لينفذ هذه التوجهات[1].
ما دام الإنسان قد كفر بالله، فقد كفر
في ذات الوقت بأن هذا الكون هو كون موزون مُقَدَّرٌ خلقه إله حكيم عليم خبير رحيم.
ومن هنا فلا ريب في أن الموارد قد تكون أقل من البشر، وأنها لا تكفيهم، وبذلك لا
بد من إيجاد الحلول (لمواجهة، وتحدي) هذه الطبيعة وهذا الكون العشوائي الذي جرت
الصدفة على هذا النحو فجعلته لا يكفي لحياة المخلوقات فيه!
وما دام الإنسان قد آمن بأنه هو مجرد
نتيجة لتطور دارويني صدر عن خلايا تلاقت وتفاعلت بمحض الصدفة عبر ملايين السنين،
فهو قد آمن في ذات الوقت بأن هذا الإنسان ليس ذا كرامة ولا قدر ولا أهمية،
فمَثَلُه كمَثَل الحديد والخشب والنحاس وسائر المواد التي تكوّنت من تفاعل آخر
لعناصر أخرى تلاقت بطريقة مختلفة! ومثلما يمكننا أن نحرق الحديد ونقطع الخشب ونصهر
النحاس لنحسن بها أحوال حياتنا، فلا بأس أيضا أن ننقص البشر –بالقتل المباشر أو
بوسائل أقل فجاجة- لكي يستطيع بقية البشر أن يتمتعوا بحياتهم!
وحين نصل إلى هذه النقطة فلا ريب أن
الإنسان الغربي المادي المتفوق لن يوزع الموت بالعدل على نفسه وعلى سائر الأمم!!
بل سيعمل على إهلاك بقية البشر ليستمتع هو بالقدر الأضخم من الموارد المحدودة
للطبيعة، وعليه أن يستنفذها ويستهلكها ليحقق أقصى إشباع لمنفعته ولذته! ولماذا
يفكر في العدل أصلا؟ ولماذا تخطر بباله الأخلاق؟! إن العدل والأخلاق وسائر هذه
الكلمات ليس لها وجود في الميزان المادي، إنها من مخلفات عصر الإيمان وعصر
الخرافة، ذلك الذي كان سائدا قبل عصر العقلانية وعصر العلم، حيث كان الناس يؤمنون
بإله قادر حكيم، ويؤمنون بيوم القيامة.. لقد كانت تلك أوهامهم التي اخترعوها
ليعيشوا بلا تظالم، فأما الآن، في عصر العلم والعقل، فلا دليل على وجود الإله أو
وجود يوم القيامة، ومن ثَمَّ فلا معنى لكلمات مثل العدالة والأخلاق، أو مثل:
الإسراف والاقتصاد!!
إن سياسة نهب العالم وطحن الشعوب
لتوفير الرفاه المادي للشعوب الغربية هي نتيجة طبيعية وحتمية لمنظومة فكرية مادية
لا تعرف غير تحقيق المنفعة واللذة، منظومة ترى في البيئة والطبيعة تحديا يجب
مواجهته، وموارد يجب استغلالها، وبشرا إن لم يكونوا عمالة ماهرة فهم عبء يجب
التخلص منه!
ولهذا لم يكن غريبا أن يخرج اقتراح في
مؤتمر ستوكهولم (1972م) الذي كان يبحث في تلوث البيئة، يقضي بضرورة أن تبقى
البلدان النامية بلا تصنيع؛ لأنها إن أنشأت المصانع فسترتفع معدلات تلوث البيئة!! أي
أن الغربيين رأوْا أنفسهم الوكيل الحصري للتمتع بالموارد وتصنيعها، ولهم وحدهم حق
تلويث البيئة لتحقيق منفعتهم ولذتهم!
كذلك لم يكن غريبا أن تُفرض برامج
إنقاص عدد السكان على بلاد آسيا وإفريقيا، وبعض هذه البرامج نُفِّذ بطرق وحشية
استؤصلت فيها الأرحام، وأعطيت فيها الأدوية التي تسبب العقم، وشُرِّعت فيها
القوانين التي تحرم الإنجاب بأكثر من طفل أو طفلين.. ومن فَتَّش في هذا الملف رأى
مآسي عظيمة عاشتها كثير من الأمم بسبب فرض هذه الأوضاع عليها، ولا يزال كثير من
هذا الوضع مستمرا حتى الآن، وفي مصر هدَّد عبد الفتاح السيسي باتباع الوسائل
الأوروبية في إنقاص عدد السكان، وألغى الدعم عن كل من سيتزوج، وعن كل من أنجب أكثر
من طفلين، وافتخرت طبيبة في مؤتمر أمامه بأنها تُعَقِّم كل امرأة في مستشفاها بعد
الولادة الأولى، وبالفعل تظهر الإحصائيات تدهورا في عدد المواليد في مصر! (ومصر
مجرد مثال).
نحن المسلمين لدينا كنز عظيم، ذلك هو
ديننا، رسالة نبينا محمد ﷺ، والتي ما تزال هي الحل لسائر مشكلات البشرية، كثير من
الناس يجهلون ذلك ويغفلون عنه، وبعض أعدائنا يعرف ذلك تماما، ولكنه يحرص على بقاء
هذا الحل مجهولا ومكتوما ومغمورا لأنه يعرقل طريقه إلى تحقيق منفعته ولذته على
حساب الشعوب الأخرى.
وهذا الحل يبدأ من اللحظة الأولى ومن
المبادئ الأولى للإيمان، فإن الله العليم الخبير الحكيم الرحيم قد خلق الكون
موزونا مقدورا، خلقه بعلم وحكمة، وهو الرزاق، عنده مفاتح الغيب، وبيده خزائن
السموات والأرض، فالعالم لا يشكو من الندرة لأنه مخلوق بيد أحكم الحاكمين. وأما ما
يظهر من الفساد في الأرض فهو ثمرة إفساد الناس وظلمهم وطغيانهم، وهو عقوبة من الله
لهم ليرجعوا إلى الحق والعدل {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
ومن مبادئ الإيمان أن الكون مسخر لخدمة
الإنسان، وهذه الأرض خُلِقت له ذلولا، فليس الإنسان في عداء أو مواجهة مع الطبيعة
من حوله، بل هو مُسْتَخْلَفٌ فيها، أي: أن الله جعله خليفة في هذه الأرض، عليه أن
يستعملها ويدبر أمرها وفق منهج الله المؤتمن عليه.. وهذا هو الفارق الضخم بين
الاستخلاف والامتلاك، فالمسلم مستخلف في الأرض بمعنى أنه يقوم فيها بأمر الله،
وأما الملحد فهو يتصرف في الكون باعتباره مالكًا لا يُسأل عما يفعل وعما يُفسد
وعما يُسرف!
ومن هاهنا احتوت تعاليم القرآن وتعاليم
النبي ﷺ على ثروة ضخمة في معالجة مشكلة البيئة، مع أن هذه التعاليم ظهرت في زمن لم
تكن قد حدثت فيه مشكلة بيئية ولا مشكلة سكانية أصلا، وهذا أمرٌ يجب أن ينتبه له
الإنسان العاقل الصادق مع نفسه، فإنه من دلائل النبوة ومن براهين ربانية هذا
الدين.
لقد جاء محمد ﷺ برسالة تحفل بالكثير من
التوجيهات؛ جاء بالنهي عن الإسراف في الماء ولو كان الذي يستعمله يغرف من نهر جارٍ،
وجاء بالنهي عن تغوير الآبار وعن إنقاص الماء وعن تلويث الماء، وبالنهي عن قطع
الشجر، وبالنهي عن العبث في النبات، وبالنهي عن تلويث الأرض وإفسادها، وجاء بالأمر
بالنظافة وجعل طهارة البدن والثوب والمكان من شروط العبادة، وجاء بالحث على الغرس
والزرع، وبالحث على إحياء الأرض الميتة، وبالحث على إماطة الأذى... إلخ! وسيرى
القارئ في هذا العدد من المجلة طرفا من ذلك عبر مقالات الكُتَّاب! وهو أمر قد
كُتِبت فيه كتب كثيرة ومجلدات كبيرة.
وهذه النصوص القرآنية والنبوية أخذها
العلماء والفقهاء فشَيَّدوا عليها بناء فقهيا سامقا وعظيما، واستنبطوا منها دقائق
عجيبة ومدهشة، واستخلصوا منها قواعد ضابطة وحاكمة، من قرأها عرف أنه ما كانت لتظهر
مشكلة البيئة ونقص الموارد لو استمر تفوق الحضارة الإسلامية في زماننا هذا، ذلك أن
تفاعل المسلمين مع البيئة عبر تاريخهم كان مثالا لموازناتهم بين مقتضيات المصالح
والمنافع التي تعود على البشر، وبين الأضرار والمثالب التي تعود من هذه المصالح
على البيئة ومواردها.
إن من قرأ هذا الفصل في تاريخ حضارتنا
أيقن أن الإسلام كان رحمة للعالمين، بما في ذلك عالم النبات والجماد أيضا.
مع أن مشكلة البيئة تبدو مشكلة عصرية
حديثة ناتجة من التطور الصناعي الضخم الذي أقبلت به الحضارة الغربية، إلا أن
حلولها كامنة في ديننا ورسالة نبينا ﷺ، ليس في جانب التصور الاعتقادي والنظري فحسب
(مع أنه الأهم والأعظم كما أسلفنا)، بل حتى في التفاصيل الصغيرة والدقيقة التي
تضبط سلوك الفرد في نفسه وبيته وقريته، وفي مأكله ومشربه ونشاطه الاجتماعي
والاقتصادي.
[1] ول
ديورانت، قصة الحضارة، 42/251 - 253، 42/381 – 389؛ وانظر: رشيد الحمد ومحمد سعيد
صباريني، البيئة ومشكلاتها، ص112؛ جان ماري بيلت، عودة الوفاق بين الإنسان
والطبيعة، ص27.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق