الثلاثاء، أبريل 07، 2020

هل القيادة مثل الحرية: تنتزع ولا توهب؟!

 

يقول بعض الناس: القيادةُ مثل الحرية؛ تُنْتَزَع ولا توهب.. فمن لم تكن له المواهب التي ينتزع بها مكانته لم يصلح أن يكون قائدا! مثل الذي إن لم ينتزع حريته لم يكن جديرا أن يكون حرا!

وفي هذا الكلام وجاهة ولا شك.. وسيرة الأبطال والقادة تدل عليه، فعموم القادة إنما حفروا في ظروفهم وبيئاتهم وشقوا طريقهم بأنفسهم، وزاوجوا بين القوة والسياسة حتى بلغوا ما بلغوا..

إلا أن هذا الأمر ليس مضطردا دائما..

وذلك أننا نعرف من السير ما يخالف هذه القاعدة، فمن أشهر ذلك:

1. ما رواه لنا القرآن الكريم عن بني إسرائيل حين ذهبوا لنبيهم ليختار لهم ملكا (قائدا) يقاتلون تحت رايته.. فاختار لهم الله طالوت ملكا، فانزعجوا وارتاعوا وقالوا (أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه)، ولم ينصاعوا له حتى جاءتهم آية قيادته من السماء (أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة).

وقد استطاع طالوت أن يقود بني إسرائيل إلى النصر على العماليق، بجيش قوامه ثلاثمائة رجل فحسب!!

وإذا تدبرنا في الأمر، وجدنا أن هؤلاء الثلاثمائة، ووجدنا هذا القائد نفسه، وجدناهم مغمورين ضمن القوم المضطهدين المطرودين الذين انتزعت منهم مقدساتهم وأخرجوا من ديارهم وأبنائهم.. لم يستطع هو أن يبرز بنفسه ولا وصل إلى القيادة بطريق حفرها في مجتمعه وبيئته وظرفه، مع أنه أوتي بسطة في العلم والجسم وكانت له مؤهلات القيادة.. كان المجتمع الفاسد الذي انحرفت آراؤه وقيمه ومعاييره يطمس هذه الموهبة، فلا هو يتركها يظهر، بل ولا هو يسمح لها بالإمكانية لأن تُظهر نفسها وتعلن عن وجودها..

ثلاثمائة رجل وقائد، حققوا نصرا تاريخيا كبيرا أنقذوا به أمتهم، ما كان لهم أن يفعلوها لولا أن أفسح له سبيل القيادة، وأفسح لهم -بيد هذا القائد- سبيل الظهور والكفاح!

في دروس قصة طالوت، انظر هنا المزيد: https://melhamy.blogspot.com/2015/01/blog-post_3.html

2. وإذا نظرنا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وجدنا نبينا الخبير بالرجال يفسح الطريق للمواهب ويضعها في مكانها، فهذا خالد بن الوليد وعمرو بن العاص يتوليان قيادة الجيوش والسرايا في العام التالي لإسلامهما، وهذا أبو ذر رضي الله عنه يُمنع الولاية وهو من السابقين إلى الإسلام.

كانت مؤهلات القيادة موجودة عند خالد وعمرو من قبل الإسلام، وعند الإسلام، ولكن الشاهد هنا أنهما لم يتسنما قيادة أمر إلا لأن رسول الله أفسح لهما هذا المكان، ولم ينتزعاه بأنفسهما، ولو منعهما رسول الله لما استطاعا أن يصلا إليه!

ويندرج في هذا المعنى أيضا شأن الزهد، فكم من الكبار كانوا زاهدين في الإمارة مع تمتعهما بمؤهلاتها كلها، ولم ينافسوا عليها، وإنما وضعوا فيها تحت ضغط الظرف أو بأمر القائد الأعلى.. وهذا أبو بكر رضي الله عنه -وهو خير الخلق بعد رسول الله- قدَّم على نفسه عمر وأبا عبيدة ولم يتول الخلافة إلا بحملهما إياه عليها ورضي به الأنصار، وإنما كان هذا لأن القوم يعرفون أقدار الرجال حتى قال عمر "أيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟!"..

ومثل ذلك عمر، لم يتولاها إلا بأمر أبي بكر وبرضا الصحابة الذين كانوا يعرفون أقدار الرجال، ولم يفكر أحدهم في منافسة عمر على الخلافة لما يعرفون من أنه أهل لها..

في معجزات الخلفاء الراشدين التاريخية انظر هنا: https://melhamy.blogspot.com/2017/12/blog-post_27.html

وهذه قصص مضطردة وسلك طويل يندرج فيه القادة الزاهدون جميعا مثل عمر بن عبد العزيز (الذي ردَّ على الناس بيعتهم بولايته عهده، فرضوا به)، وعبد الرحمن الناصر الأموي في الأندلس (وقد بويع بالإمارة وهو ابن عشرين سنة وفي القوم أعمامه الأسن منه)، ويحيى بن عمر اللمتوني وأبو بكر بن عمر اللمتوني قائدا دولة المرابطين الأوليْن (والأول تولى بأمر الإمام ابن ياسين والثاني ترك الملك لابن عمه يوسف بن تاشفين وقاد جناح الدولة في الغرب الإفريقي)، وصلاح الدين الأيوبي (الذي قيل فيه: يصدق فيك قول القائل "من الناس من يساق إلى الجنة في السلاسل)، وسيف الدين قطز (الذي تولى سلطنة مصر تحت ضغط ظرف الجهاد وخطر المغول)، ومراد الثاني والد محمد الفاتح (الذي تنازل عن الحكم مرتين لابنه).. وغيرهم!

والشاهد أن من القادة من يصل إلى مكانه بغير جهده الذاتي، رغم امتلائه بمؤهلات القيادة، وإنما تحمله إلى هذا الموقع: عين قائد خبير، أو قوم حكماء، أو ظرف استثنائي.

ماذا نستفيد من هذا كله؟

أو: ما مناسبة ذكر هذا الآن؟

الإجابة: إن أمتنا التي تعاني ما تعاني من الضعف والاستنزاف لهي أحوج ما تكون إلى أن تكتشف قادتها، وتفتش في بنيها عن أولئك القادة الذين يملكون تغيير واقعها وتبديل أحوالها..

وحيث عرفنا أن انتزاع القائد الأمرَ لنفسه ليس شأنا مضطردا، بل قد يوجد في الأمة قائد موهوب لكنه مطمور يحتاج عين خبير أو وصية حكيم أو تقديم آخرين له، فعلى كل واحد منا أن يكون مثل هذه العين التي تكتشف، أو أن يكون اليد التي تقدم المساعدة وتفسح الطريق، أو أن يكون الرعاية التي توفر الحماية بما لديه من علم أو علاقات أو نفوذ، وكل امرئ أدرى بما يمكن أن يصنع.

 فمن فعل شيئا من ذلك فقد أصاب الأجر العظيم وأدرك المراتب العليا!

هناك تعليقان (2):