أليس من
العسير أن يجد الكاتب شيئا يكتبه في أمرٍ يتكلم فيه العالم كله؟
بلى هو كذلك..
إلا أن الذي يُهَوِّن الأمر قليلا هو تنوع الهموم، فكلٌّ يُغني على ليلاه، وكلٌّ
يلتمس من الأحداث ما يجد فيه سلواه أو يجد فيه هداه.. وهذه سطور مسلم في زمن القهر
والهزيمة، قد أظلته جائحة كورونا، ففيها من الهمَّ والشجوى ومن الدرس والعبرة ما
ليس يراه من لم يكن كذلك!
وهي –وإن
طالت- مختصرة مجملة، فإن ظننتَ أن فيها سطحية مبتذلة، فكرِّر النظر وأعد التأمل،
فقد أودعتها خلاصة نظر طويل، فإن تبينت المعنى ثم أنكرته فلا تثريب عليك، التثريب
ألا تتبيّنه ثم تسارع مستنكرا.
(1)
كيف يكون
الهول الأعظم إذا كان هذا هو ارتياع العالم من فيروس لا يُرى، ولا يقتل في الحال،
بل وقد تعافى منه كثيرٌ ممن أصيبوا به؟
كيف سيكون حال
الناس حين تتزلزل الأرض وتنشق السماء وتنتثر الجبال وتُحشَر الوحوش وتهيج البحار
وينقلب حال الأرض كله هولا عظيما؟!
ذلك الذي يخوف
الله به عباده..
(حتى إذا أخذت
الأرض زخرفها وازينت، وظنَّ أهلها أنهم قادرون عليها، أتاها أمرنا ليلا أو نهارا
فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس)
لقد كان الله
حاضرا وخالقا ومدبرا في كل لحظة، هو الذي خلق البذرة وخلق الماء وخلق الأرض ووضع
في كل ذلك قوانين الزرع والنماء، فلما جاء الإنسان فبذر وسقى فخرج له زرعه ناضرا
زاهيا، ظنَّ أنه الذي فعل هذا كله، وظنَّ أنه المتحكم فيه القادر عليه، فإذا به
تأتيه العاصفة فتقلب له أرضه وزرعه، وتقلب معها تصوراته وأفكاره، وتفضح ضعفه
وعجزه!
وما أشبه هذا
بحال البشرية اليوم، تلك التي صار العلم فيها يُعبَد من دون الله، حتى ليُقال عن
شيء فرضه الله صراحة "لا نؤمن به حتى يثبته العلم"، أو عن شيء حرَّمه
الله صراحة "لا نكفّ عنه حتى يثبت العلم ضرره"، حتى هذا الخسوف والكسوف
يثير صخب العلمويين حتى يسخرون ممن يهرع إلى الصلاة، لسان حالهم: تلك آية من آيات
العلم لا من آيات الله!
وغدا بعد زوال
هذه الجائحة، وسواءٌ أزالتْ بأمر الله من تلقاء نفسها، أو زالت بأمر الله بأن هدى
بعض عباده لدوائها، سيرجع إلينا أولئك العلمويون ليقولوا: انتصر العلم!.. وهكذا
حتى تأتيهم عاصفة أخرى تفضح ضعفهم وعجزهم، ويحق فيهم قوله تعالى (أولا يرون أنهم
يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون)، وقوله تعالى (وإن
كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون)، وقوله تعالى (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا
يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم).
(2)
آمن الناس
بكورونا، ولم يؤمنوا برب كورورنا..
مع أنهم لم
يروه جهرة، ولا سمعوا له صوتا ولا أنزل لهم كتابا ولا أرسل إليهم رسولا، وما هو
إلا أن أخبرهم الأطباء به، ثم أبصروا آثاره في بعضٍ منهم.. هذا الذي يثير الحرارة
ويصيب بالصداع والغثيان وينشب في الرئة صار حقيقة لا شك فيه! وأما الذي خلق الرأس
والحرارة والرئة والبدن وكورونا نفسه فلا يزالون يتجادلون فيه!!
لقد راوغ
الملحدون كل مراوغة في التماس طريقة يثبتون بها الخلق دون الاضطرار إلى الإيمان
بالخالق، فتحدثوا عن الصدفة، وعن التطور، وعن غيرها من الأسباب، بل جادلوا في
قانون السببة نفسه، حتى صار يصحّ في عقول كثيرين منهم أن هذا الكون العظيم الرهيب،
بل هذه الخلية الواحدة المعقدة ليس لها خالق، أو أن خالقها قد تركها (أي: خلقها
عبثا) كصانع الساعة الذي يضبط حركتها ثم يتركها.. وفاضت في هذا كتب وهلكت فيه أعمار
وشغلت فيه ساعات من التلفاز والمسرح وأنواع الفنون.
فمن ذا يصدق
الآن رجلا يزعم أن كورونا ليس موجودا، وأن الذين أصيبوا به إنما هم أناس ارتفعت
حرارتهم وانهار تنفسهم بمحض الصدفة، لظروف خاصة شملت المصابين به عبر العالم، وأن
انتشاره لا ينتقل بالعدوى وإنما انبثق من تلقاء نفسه في جسد كل مصاب، وأنها مجرد
مؤامرة من الأطباء الكذابين الذين يستغلون خوف الناس من المجهول بغرض طلب الزعامة
لأنفسهم؟!
هذا الذي قيل
في الله وقيل عن رسله، مع أن الدلائل التي ساقها الله في كتابه المسطور وفي كونه
المنظور، والتي جاء بها رسله، لم يأت بمثلها الأطباء عن كورونا، وإنما هم لا
يزالون يكتشفون ويتبينون ويبحثون ويفحصون.. لكن الذين في قلوبهم مرض، كفروا بالله
وكذبوا رسله، وآمنوا بكورونا وصدقوا الأطباء!
(3)
أخبرنا
الأطباء أن اسمه: كورونا (المستجد)..
هل يكون من
الدروشة أن يذكرنا هذا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "وما فشت الفاحشة في
قوم فأذاعوا بها إلا ابتلاهم الله بالأوجاع والأسقام التي لم تكن في
أسلافهم"؟!
نعم، سيكون
هذا من الدروشة والخرافة عند من يؤمن بالعلم، ذلك الذي لا يرى سببا منطقيا واضحا
للربط بين انتشار الزنا والمجاهرة به وبين ظهور الأوبئة الجديدة.. ولكن مهلا: ما
هو العلم؟!
أليس هذا
العلم نفسه هو الذي لم يكن يعرف أن أكل الخفافيش والقطط والكلاب قد يسبب هذا النوع
من الأمراض؟ بلى، هو على الأقل العلم الذي لم يقطع بعد بالسبب الذي انتقل به
الفيروس من الحيوانات إلى البشر.. فلا زال العلم يكتشف، وقد تكاثرت علينا أقوال
"العلماء" حتى اضطربت وتناقضت!
لا بأس إذن..
إذا عرفنا أن العلم لم يبلغ من الإحاطة بالأمور ما يعصمنا به من الأضرار، فلماذا
يُصِرُّ بعضهم على اعتباره مصدرا وحيدا للمعرفة، ومعيارا وحيدا للحكم على الأمور؟!
إن في تاريخنا
رجلا أميًّا وجَّه أتباعه قبل نحو ألف وخمسمائة عام إلى تصرف الحجر الصحي حين ينزل
الوباء في بلد ما، وفرض عليهم التطهر بالماء خمس مرات في اليوم في بيئة صحراوية الماء
فيها عزيز نادر، ووجَّههم إلى غسل أيديهم عند الاستيقاظ من النوم "فلا تدري
أين باتت يدك"، ووجههم إلى استعمال اليد اليمنى في المأكل والمشرب والطهور
واستعمال اليسرى لمعالجة الأذى، ونهاهم عن الشرب من فيّ السقاء، وعن التنفس في
الإناء، وعن ترك الآنية مفتوحة مكشوفة، ونهاهم عن أكل الميتة والدم وأكل لحم
الخنزير والكلاب وذوات المخالب والأنياب، وعن البول في موارد الماء، وعن إنقاص
الماء أو تغويره.. وقد بُنِيت على هذه التوجيهات أساطيل من الفقه المكتوب الذي
يرقى الآن لأكثر مما يوصي به هذا "العلم الحديث"!
إذا كان رجلٌ
أميٌّ قبل هذه خمسة عشر قرنا قد قال بهذا كله.. أليس من العلم نفسه أن يعتبر مصدرا
للمعرفة؟! إن لم يكن إيمانا بأنه رسول الله فعلى الأقل وقوفا أمام هذه الظاهرة
العجيبة لهذا الحكيم العبقري الذي سبق العصور وخرق الأزمان وتفوق على العلوم؟
إنما هو أمرٌ
قاله الله في كتابه بهذه البساطة المُعجزة المبهرة: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم
من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا، قل: آلله أذن لكم؟ أم على الله تفترون؟).. هذه
الآية تطرح على البشرية كلها سؤال: مصدر المعرفة؟ من الذي يملك أن يقول هذا حلال
فكلوه وهذا حرام فاجتنبوه؟ من الذي يستطيع أن يهدي إلى الحق؟ اسمع قول الله تعالى
(قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟ قل: الله يهدي للحق، أفمن يهدي إلى الحق أحق
أن يُتَّبَع أم من لا يَهِدِّي إلا أن يُهدى؟ فما لكم كيف تحكمون؟)
وإذن، فإذا
كان العلم لا زال يكتشف ويبحث ويحاول الربط بين الظواهر بوسائله التي لا تزال
قاصرة غير قادرة على أن تعصمنا من الضرر، ثم إذا كان هذا علم رجل أمي قبل خمسة عشر
قرنا.. فما الذي يجعل قول هذا الرجل الأمي عن انتشار الفاحشة وإذاعتها وكونه سببا
في ظهور الأوبئة محتاجا إلى ختمٍ علمي كي يُعتمد ويُتَّبَع؟!
ولو تنزلنا
وسلَّمنا جدلا وفرضا بموقف العلمويين هذا، فأيهما أحسن للإنسان وأحسن للناس جميعا:
رجل يتبع النبي محمدا صلى الله عليه وسلم فإذا أصابه الطاعون اعتزل في بيته محتسبا
عند الله أجر الشهيد، أم رجل اتبع العلم فلم يجد عنده مؤنسا من اليأس ولا ترغيبا
في أجر ولا رادعا من عقوبة فخرج يترك لعابه على الأبواب والمتاجر والمصاعد
والمواصلات يريد أن ينشر المرض بين الناس عامدا، لسان حاله يقول: إذا متُّ ظمآنًا
فلا نزل القَطْر؟!
أيهما أحسن
للمرء ولبني الإنسان كلهم؟
(4)
بدأ كورورنا
في الصين، وعلى نحو ما هو معروف للجميع فإن الصين قد سكتت وصمتت وحاربت من يتكلم
عنه خشيةً على تجارتها واقتصادها حتى فشى فيها المرض، ثم فشى في بقية البلاد،
فاستيقظ العالم وإذا بالمرض قد انتشر فيه جميعا..
وتحاول الصين
الآن أن تهرع لمساعدة البلاد المنكوبة بما تستطيع، وهي تجد تجهما وهجوما شرسا
عليها وعلى ما تسببت فيه جراء طغيانها وقهرها وكبتها وغموضها وتعميتها على العالم
بشأن المرض، والآن هي اللحظة المثلى لكل ديمقراطي ليبرالي أن يتكلم عن الخطر
الشديد الذي تسببه دولة ديكتاتورية شمولية لا على نفسها بل على العالم كله، وأن
العالم كله يدفع ثمن وجود نظام ديكتاتوري واحد.
ونحن معه في
هذا ونُسَلِّم له به.. ها هو العالم كله يذوق ويلات قبوله وسكوته على وجود نظام
طغياني جبار، تسبب بسياسته غير الشفافة هذه في قتل آلاف البشر على بعد آلاف
الأميال!
ولو عاد الزمن
بأكثر الموتى وأهاليهم، وعلموا شيئا من أمر الغيب، لكنت ترى أن محاربة الصين وتغيير
نظامها ولو بالقوة هو عمل ينبغي أن يكون على رأس أولويات العالم..
مهلا لحظة..
أراهم هنا يتحدثون عن "جهاد الطلب".. أليس كذلك؟!
أليس جهاد
الطلب نفسه هو مطاردة الظلم والطغيان والشر في عقر داره، في غير احترام لمعنى
السيادة على شعبه؟!
نعم.. نعم،
أعرف أن الأمة الآن لا تحلم بجهاد الطلب بل هي أعجز من جهاد الدفع، وأنا أكتب لكم
هذه السطور من موقعي كلاجئ مشرد، لا يدري هل يُسْجن غدا أو يُقْتَل بعد غد.. نعم،
أعرف هذا.. وأعرف معه أيضا أننا ينبغي أن نفهم ديننا ونستوعب معانيه لا أن نسارع
لرفضها واستنكارها لأنها لا توافق الذوق السياسي المعاصر، فإذا فهمنا ديننا
افتخرنا به، وذلك أول طريق العزة.. فالظاهرة التاريخية –كما يقول ريتشارد كوك
وكريس سميث في كتابهما: انتحار الغرب- أن كل الذين غيروا العالم إنما هم الذين
اعتقدوا في أنفسهم القدرة على إنقاذه. وها قد جئت بالمعنى من قول الكافرين، لأني
أعرف أن نفوسا لن تستوعبه إذا قلته من كتاب رب العالمين (وما أرسلناك إلا رحمة
للعالمين)!
لقد أخبرنا
ربنا أن عقابه حين ينزل لا يصيب الظالمين وحدهم، وإنما يشمل معهم المظلومين (واتقوا
فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، قال ابن عباس: "أمر الله المؤمنين أن لا
يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب"، وصوَّر لنا نبينا هذا الوضع
أجمل وأشمل ما يكون التصوير، وذلك في حديث السفينة المشهور، وفيه أن الذين في أعلى
السفينة لو تركوا الذين في أسفلها يتصرفون على هواهم ويخرقون السفينة فإنهم يهلكون
جميعا، فأما إذا تصدوا لهم (ولم يحترموا حريتهم في التصرف في نصيبهم!!) فإنهم
ينجون جميعا!.. واقرأ هذه المعاني في أساليب متنوعة في باب الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، وفي باب الجهاد.
هذه الآيات
وأمثالها، وهذه الأحاديث وأمثالها كانت تأسيسا لثورة المسلمين على الطغاة منهم،
وعلى الطغاة من غيرهم، من هنا كانت مطاردة المسلمين للمنكر في الأرض كلها رحمة
للعالمين، جهادا في سبيل الله، وقد أحسن الأستاذ الراحل جلال كشك حيث قال:
"الجهاد ثورتنا الدائمة"!
(5)
انقلب حال
العالم، ومكث الناس في بيوتهم، وتعطلت الطائرات والاجتماعات وحتى الحفلات ومباريات
الكرة.. يخاف الإنسان من الموت (وجاءت سكرة الموت بالحق، ذلك ما كنتَ منه تحيد).
وها قد ظهر لكلٍّ منا أن كثيرا من الأمور يملك أن يتخلى عنها، بعضها هين وبعضها مع
نوع من الألم والمعاناة، إلا أن خطر المرض الذي يُحتمل معه الموت أكبر من ألم
الترك.
يشبه هذا
مشهدا قديما..
مشهد المدينة
المنورة حين نزل أمر الله بترك الخمر، فإذا بأزقة المدينة تسيل بالخمر التي كسَر
المسلمون أوانيها. وكذا مشهدها حين نزل أمر الله بحجاب النساء فكانت النساء تشققن
مروطهن فيحتجبن بها.. إلا أن أسلافنا من الصحابة الأجلاء لم يكونوا يخشون من
الموت، بل كانوا يخشون النار..
كانت الخمر
عادة عربية راسخة، وكذا كانت ثياب النساء.. وانتهى هذا حين كان داعي التغيير أقوى
من داعي العادة والميل والشهوة، سيظل هناك من يذنب ويعصي في كل الأحوال (كما سيظل
في الناس من يخترق حظر التجول بالتأكيد)، لكن هذا هو الشذوذ النادر وليس هو الأصل
العام.
إذن نستطيع،
ويستطيع الناس، في ظروف ليس بالهائلة المريعة أن تنقلب حياتهم.. ونحن نرى هذا
بأنفسنا في أنفسنا حين يأتي رمضان، ينقلب شأن اليوم كله، فإذا بالطعام –وهو أرسخ
العادات كلها- نتحمل الحرمان منه وانقلاب مواعيده، ذلك أن داعي طاعة الله وصوم
الشهر الكريم أكبر في نفوسنا من ألم الجوع في النهار.
إن شهواتنا
تحبس قدراتنا وطاقاتنا وإمكانياتنا، تحرمها من الظهور والنمو والفعالية.. وإن
أطماعنا في الحياة والأموال والرفاهية تثقلنا وتعوق حركتنا، ولذلك فطن الإمام ابن
حجر إلى أن من فضل الطاعون "تقصير الآمال، وتحسين الأعمال، واليقظة من الغفلة،
والتزود للرحلة".
على أننا مهما
حاولنا تذكير أنفسنا بهذه المعاني فلن نفلح في أن نعيشها، وليس يعيشها إلا
المجاهدون، أولئك الذين يقترب الموت منهم في كل لحظة، فالواحد منهم متخفف من دنياه
مقبل على آخرته، قصير الأمل قليل الطمع.. ولعل هذا من معاني كون الجهاد "ذروة
سنام الإسلام"، إذ هو يرفع صاحبه ليكون في ذروة اليقظة وذروة الاستعداد.
(6)
بدا العالم
وكأنه هشٌّ في مواجهة انتشار كورونا، المنظومات الصحية في الدول الغربية
"المتقدمة" تضطرب وتفقد توازنها.. وظهرت طبيعة الدول التي لا تحفل بشأن
الأخلاق، وتكرر استيلاء دولة على شحنة مساعدات طبية قادمة لدولة أخرى، كما تكررت
شكوى دول أوروبية من التجاهل الأوروبي لمعاناتها، كذلك أبدى ترمب انزعاجه من أن
يتوصل أحد إلى علاج كورونا ثم لا يكون الأمريكان أول من يستفيدوا منه، وأصدر قراره
بتسريع إجراءات هجرة الأطباء إلى أمريكا ليترك هؤلاء أهلهم وديارهم ويذهبوا لعلاج
الأمريكان.
هذه المشاهد
المريعة التي يجب أن تعيد إلينا التفكير في طبيعة النظام الدولي، وخرافات القانون
الدولي والعلاقات الدولية والتعاون الدولي وسائر هذه المفاهيم التي تظهر في أوقات
الرخاء كقيود حريرية تُسْتَعبَد بها الشعوب.
وهذا الذي حصل
بين الدول حصل مثله في الشعوب.. الشعوب الأوروبية "المتقدمة" التي
افترست المتاجر، وأحيانا اقتحمتها وسلبتها ونهبتها، فضلا عن التعامل الشنيع مع
المسنين والعجائز إما كمرضى أو كمقيمين في دور العجزة أو حتى كزبائن لا يستطيعون
المزاحمة. وهو ما يجب أن يعيد إلينا الثقة بأنفسنا وينقض عند كثير منا ما أصيبوا
به من عقدة الخواجة وتوهم أن القوم ينطوون على أخلاق أصيلة لديهم منحها إياهم
رقيهم الحضاري.. والحق أنها أخلاق زائفة تسود في لحظة الأمن والطمأنينة واستتباب
النظام.. وإلا فمن الذي احتلنا ويعيش حتى الآن على ثرواتنا المسروقة؟
هذه المشاهد
تكلم فيها كثيرون، لكن من بينها مشهد لم يحظ بالقدر الذي يستحقه من النقاش، ذلك
هو: تزاحم الأمريكان على متاجر شراء السلاح جراء شعورهم باحتمال حدوث الفوضى
واحتياج الواحد منهم إلى حماية نفسه وممتلكاته. ويناظره على مستوى الدول: تهديدات
ترمب المتعلقة بعلاج كورورنا.
وقد أثار
البعض في عالمنا سؤالا يبدو رصينا ولكنه ينطوي على نظرة حالمة ساذجة، ذلك هو
المفاضلة بين إنفاق المال على التسلح وإنفاقها على التجهيزات الطبية، الاهتمام
بتطوير السلاح أو الاهتمام بتطوير المعامل والأجهزة الطبية.. يقولون: ها قد بدا
للعالم أن الإنفاق على السلاح وتطويره لم ينقذكم من الوباء، وكان الأولى أن تنفقوا
على الطب والأبحاث.
هذه نظرة
حالمة ساذجة، ويجب أن يكون واضحا أن الإنفاق على العلم يخدم السلاح والطب معا،
والأغلب أن الدول التي أنفقت على اختراع السلاح وتطويره هي التي تتمتع بأفضل وضع
في التجهيزات الطبية، بينما المتخلفون الذين يسرفون في شراء السلاح هم أنفسهم الذين
يسرفون في شراء الأجهزة الطبية، ويتمتعون في نفس الوقت بجيوش ضعيفة ومنظومات طبية
ضعيفة.. على أننا سنسير وراء إغراء المفاضلة بين الطب والسلاح، ونسأل: إذا لم يكن
لدينا خيار ثالث فأيهما أوجب: الإنفاق على اختراع السلاح وتطويره أم الإنفاق على
الأبحاث الطبية؟
ربما في عالم
الأحلام والعالم الإنساني الواحد الذي يعمه السلام سيكون علينا الإنفاق على
الأبحاث الطبية، أما في عالمنا هذا الذي تنهش فيه الدول بعضها والبشر بعضهم، فلا
بد أن يكون الجواب هو الإنفاق على السلاح.. فالقوي المسلح هو الذي يستطيع أن يسلب
الضعيف تجهيزاته الطبية ويحتكر لنفسه نتائج الأبحاث الطبية التي قام بها، وسيجبر
القويُّ المسلحُ الطبيبَ الضعيف على علاجه وعلاج عصابته قبل أن يعالج الطبيب أباه
وأمه وأهله، هكذا سيكون الأمر تحت قوة السلاح!
تنمو الحضارة
بثلاثة أضلاع: العلم والسلاح والمال، وتظل متفوقة طالما أن الأضلاع الثلاثة تعمل
على تقوية بعضها البعض؛ العلم يطور السلاح ويبتكر موارد المال، والسلاح يحرسهما
ويأتي للعلم بالخبرات وللمال بالموارد الجديدة، والمال يغذيهما بالخبرات وبالإنفاق
على تطورهما.. وحين ينهار ضلع من أولئك، أو لا تعمل المنظومة بما يجعل الأضلاع
الثلاثة تخدم بعضها البعض تبدأ الحضارة في الانهيار، وساعتها تقع الحضارة الزاهية
المتفوقة علميا تحت أقدام الغزاة مهما كانوا أقل في درجة التطور العلمي والرقي
الحضاري.
في ساعة
الفوضى سيكون اللص أقرب إليك من الفيروس، وأقدر على الفتك بك وبأهلك ومالك من
المرض نفسه، وساعتها لن ينفعك جهاز التنفس الصناعي ولا علم الطب الذي في رأسك،
ستنفعك القوة التي في يدك، والتي تستطيع أن تحميك.. هذا ما يدركه الناس بفطرتهم
فيتحركون إليه كلٌّ بحسب قدرته، فمنهم من آخر قدرته أن يُخَزِّن الغذاء والدواء
وأن يسحب ما يستطيع من أمواله المحبوسة في البنوك، ومنهم من قدرته أن يقاتل عن
نفسه أو يقاتل ليسلب من غيره مأكله ودواءه وماله.
على أن
الأمريكان من ضمن الشعوب المحظوظة التي تتمتع بحق التسلح، بينما بلادنا العربية
المنكوبة بأنظمتها هي ضمن البلاد المنكوبة بأنظمتها الأخرى التي تجعل هذا الحق
مسلوبا من الشعوب، ومن ثمَّ فإن الشعوب في حالة الاستقرار أسرى بيد السلطة تظلمهم
وتهبهم كيفما شاءت (بالقانون الذي تُفَصِّله طبعا)، وفي حالة الفوضى أسرى بيد
الخارجين على القانون الذين تسلحوا رغم أنف السلطة أو بمخادعتها. (للمزيد في هذا، اقرأ:
مصير المواطن
الصالح، نكبة الشعوب
العزلاء)
وفي الواقع،
ما لم تحصل شعوب أمتنا على حق التسلح هذا، فستظل الأمة ضعيفة ومقهورة وفي واقع
احتلال وهزيمة، والحكومات المخلصة للشعوب الناهضة النامية تعرف أن قوتها في قوة
شعبها المسلح، فالشعوب المسلحة عصية على الاستبداد وعصية على الاحتلال كذلك، وهكذا
كانت شعوبنا المسلمة قبل عصر "الدولة الحديثة"، وكان المتطوعون في قصة
كل جهاد ضد الاستبداد أو الاحتلال، حتى جاءت هذه الدولة الحديثة بجيشها الرسمي
فصارت هزيمة الجيش تساوي سقوط الدولة (وكانت قبل ذاك تساوي بدء المقاومة الشعبية)
ودخول العاصمة يساوي احتلال البلد كله (وكانت قبل ذلك تساوي بدء انتفاضة الأنحاء).
(7)
بنى الإسلام
نظامه الاجتماعي على منهج تتعدد فيه مراكز القوى، فالسلطة قوية، والمجتمع قوي
كذلك، وبينهما شبكة من العلماء يتمتعون باستقلالية ونفوذ تجعلهم في منطقة وسط بين
السلطة وعموم الناس. ولكي لا تجور السلطة على الناس حرص الإسلام على أن يكون
المجتمع شديد التماسك والتعاضد والتكافل، وجعل صلاحيات السلطة محدودة ومُسَمَّاة،
وجعل شرعيتها مرتبطة بالتزامها الشريعة وجعل للناس حق الأمر بالمعروف وإنكار
المنكر باليد واللسان فضلا عن القلب. ولشدة حيوية المجتمع الإسلامي وقدرته على
الثورة كان المجتمع مأمورا بالسمع والطاعة للحكام في غير معصية وطالما كان
انحرافهم بسيطا. (للمزيد في هذا انظر كتاب "منهج الإسلام في بناء
المجتمع"، وانظر: كيف نفهم أحاديث طاعة
الأمراء).
هذا المنهج في
بناء المجتمع بقدر ما يجعل المجتمع قويا عصيا على أن يُستبدَّ به بقدر ما يجعله
أقدر على علاج مشكلاته وأسرع في الحركة لمعالجة نكباته، ومنها الأوبئة والطواعين..
وهذا على عكس نظام الدولة الحديثة الذي يجعل السلطة تحتكر كل شيء وتنظم كل شيء
وتراقب كل شيء، وليس للمجتمع ملجأ إلا هي.
والدول
"المتقدمة" التي تعمل منظومة الدولة الحديثة فيها لخدمة الشعب ما إن تنزل
بها كارثة أو نكبة حتى تسارع فتناشد المواطنين والمتطوعين -والمجتمع الدولي أيضا-
بمساعدتها في احتواء هذه النكبة وتقليل آثارها، أي أن المنظومة الحديثة غير قادرة
وحدها على استيعاب الطوارئ والمشكلات رغم ما لديها من الصلاحيات الواسعة
والترتيبات المتطورة والإدارات التفصيلية المزودة بالخطط والمقترحات والاستعدادات.
فإذا كان هذا
حال الدول "المتقدمة" في النكبات، فكيف يكون حال دولنا نحن التي صُمِّمت
أساسا لا لخدمة الشعوب بل لقهرها، لا لمصلحة الناس بل لمصلحة السيد الأجنبي (لذلك
قدَّم النظام المصري مساعدات للصين –التي تساعد دول العالم- ولإيطاليا بينما
المصريون أنفسهم في أمس الحاجة إلى المساعدة مع انهيار منظومتهم الطبية التي لا
يجد فيها الأطباء حتى الكمامات!!!).. كيف يكون حالنا؟
إنه لا سبيل
أمام الشعوب في مثل هذه النكبات إلا أن تحيي من جديد قيم التكافل والتعاضد
والتماسك، صلة الأرحام ومعنى العشيرة والقبيلة وأهل الحي وأهل الشارع، هذه الدوائر
الصغيرة القريبة تستطيع أن تنقذ نفسها لأن الدولة لن تفكر في إنقاذها أصلا.. يجب
أن يوجد في كل حي أو قرية متطوعون ينتدبون أنفسهم لتنظيم أمر القرية أو الحي
وموارده ووضع نظام لمعرفة المصابين وكيف يمكن إيواؤهم وعزلهم صحيا والتصرف بما تحت
أيديهم من إمكانيات ومبان ومركز صحي، وهم أعرف بمن فيهم من الأطباء والممرضين ومن
يملكون المساعدة في التسجيل والرعاية والنقل، ومن يستطيع منهم أن يكفل الفقراء
والمحتاجين الذين يتضررون بتوقف الأعمال، إلى آخره إلى آخره.. والعهد بالناس أنهم
إذا انطلقوا استطاعوا إدارة أمورهم بأفضل مما تستطيعه السلطة المحترفة فكيف
بالسلطة الفاسدة التي هي المرض الأكبر والوباء الأخطر؟!
لقد أثنى
النبي على الأشعريين، إذ كانوا حين تنزل بهم النازلة من المجاعة أو من غيرها
يجمعون ما لديهم، ثم يقسمونه بحسب الحاجة على بعضهم، وهذه هي الصورة المثالية
للمجتمع المسلم، إنها الصورة الضرورية التي تنتج عن مجتمع يلتقي أهل شارعه في
اليوم خمس مرات، يعرفون حقوق الجار، لا يبيت أحدهم شبعانا وجاره جائع، يخرجون
الصدقات والزكوات للفقراء المحتاجين والأقربون أولى بالمعروف، مجتمع تتوطد فيه
صلات الرحم، تنتشر فيه أعمال البر والوقف والتزاور.. الإسلام بنى مجتمعا مكينا
راسخا، ولا بد أن تعود هذه الصورة طاعة لربنا أولا وإنقاذا لأنفسنا وأهلنا ثانيا.
هذا هو الحل..
ولو استطاعت
شعوبنا أن تفعله، فلربما كانت هذه هي الخطوة الأولى في بداية استقلال الأمة وعودة
عزها ومجدها.