لا زلنا نحاول رفع التشويه والزيف والتزوير التاريخي الذي يردد أن الحقبة
العثمانية كانت احتلالا أجنبيا للبلاد العربية، وقد ذكرنا في مجموعة المقالات
الماضية أننا سندرس سلوك الحكم العثماني في القاهرة خلال نصف القرن الأول منه، حين
كانت الدولة في أوج قوتها وتمكنها وتستطيع أن تنفذ سياستها قهرا، لنرى هل كان
سلوكها حينئذ سلوك محتل أجنبي كما هو حال الاحتلالات الأجنبية فيما بعد، أم هو
سلوك دولة إسلامية تحكم رعيتها الممتدة؟ وقد ركزنا الحديث عن الأوقاف التي أنشأها
الولاة العثمانيون في القاهرة في تلك الفترة كنموذج لأوقافهم في عموم الديار
المصرية، وبعد أن عدَّدْناها وذكرنا تاريخها، نبدأ في هذا المقال بيان آثارها على
مجتمع القاهرة، وكيف اتسعت القاهرة عمرانيا وازدهرت اقتصاديا بأثر من نمو حركة
الأوقاف العثمانية.
تتعدد أوجه الآثار التي يمكن أن نرصدها لأوقاف الولاة العثمانيين على مجتمع
القاهرة في تلك الفترة، على أن أهم ما ينبغي التنبيه إليه أن حركة الولاة تجاه
نشاط ما يثير بطبيعة الحال إقبالا عليها في سائر طبقات المجتمع، فالناس على دين
ملوكهم، "وقد مضت سنة الاجتماع في تقليد الناس لأمرائهم وكبرائهم، فكل ما راج
في سوقهم يروج في أسواق الأمة"[1]،
ومن هنا نشطت حركة الأوقاف في طبقة الأمراء وطبقات الأغنياء والطبقات الوسطى،
فكانت ظاهرة عامة لها آثارها العميقة في المجتمع المصري.
وكثيرا ما يصعب فصل الآثار المترتبة على وقف ما تحت تصنيف بعينه، فقد يكون
للوقف نفسه أثر عمراني واقتصادي وديني واجتماعي، ولهذا فقد سرنا هنا في رصد الآثار
بحسب ما يغلب على الوقف من الأثر دون نفي الآثار الأخرى المتعلقة به بطبيعة الحال.
وقسمناها هنا إلى آثار: عمرانية واقتصادية واجتماعية. ونورد تحت كل منها شذرات
سريعة بحسب ما يحتمله المقام.
آثار عمرانية
لقد "كان لاتجاه الولاة العثمانيين إلى تشييد العمائر التابعة
لأوقافهم خارج القاهرة الفاطمية أثره في التوسع العمراني خارجها، فمن بين 9 ولاة
أقاموا منشآت لهم وجدنا واحدا بالقاهرة (11.5%)، وثلاثة بالمنطقة الجنوبية (تقريبا
33.5%)، واثنين ببولاق (نحو 22.5%) وواحد بمصر القديمة (تقريبا 11.5%)، واثنين
أقاموا منشآت في أكثر من مكان (22.5%) حيث أقاموها بالقاهرة الفاطمية والضاحية
الجنوبية وبولاق، وتنوعت هذه المنشآت بين خدمية (كالمدارس والكتاتيب والأسبلة
والصهاريج والتكايا والجوامع) وسكنية (كالرباع) وتجارية (كالوكالات والقيساريات
والحوانيت)"[2].
وتبدأ هذه العملية بأن يشتري الواقف أو يشيد "مباني اقتصادية تدر ريعا
مثل المنازل والحوانيت والرباع والحمامات العامة. وكان من مصلحة نظار هذه الأوقاف
أن تكون مواضع الممتلكات متقاربة حتى يسهل عليهم إدارتها وجباية دخولها والسهر على
سلامتها. وعلى هذا كانت العقارات تتجمع في غالبية الأحوال على مقربة من الصرح الذي
أنشئ الوقف لصالحه. وكان من الممكن أيضا أن يتحول وقف حضري كبير إلى عملية تعميرية
حقيقية يتم في ظلها إعادة تشكيل أو تنظيم حي بأكمله. وفي الأغلب تجري مثل هذه
العمليات في مناطق المدينة القابلة للتوسع، حيث توجد مساحات متاحة، وتقل كثافة
الإنشاءات. وهذا يفسر لنا لماذا أقيم عدد من الأوقاف في مواقع رائدة، وحيث ساهمت
في توجيه نمو المدينة أو على الأقل في مصاحبته"[3]،
وبهذه الطريقة أسفرت منشآت وقف إسكندر باشا عن إعادة تشكيل المنطقة الواقعة بين
باب زويلة وباب الخلق إلى مسافة 500 متر من باب زويلة[4].
وهكذا توسعت القاهرة في مطلع العصر العثماني عمرانيا إلى
الجهة الشمالية بأثر من النمو التجاري، الذي استثمرته ودعمته منشآت الولاة
العثمانيين، كمعاصر السكر ووكالات تجارة الكتان التي أنشأها سليمان باشا، ووكالات
الحبوب التي أنشأها داود باشا، فتوسعت بولاق تجاه الشمال والغرب ونما شارع كبير
موازٍ لنهر النيل على أراضي طرحها النهر أثناء انحساره تجاه الغرب، وقد وجد بها
عدة منشآت تابعة لأوقاف بعض الولاة كمسجد سليمان باشا وسنان باشا، وأخذ الزحف
العمراني يمتد إلى أرض وقف سليمان باشا بشاطئ النيل وتحولت بعض الحدائق المرصدة
إلى مقاهي ووكائل[5].
وإذا "كان الناس على دين ملوكهم فنجد أن القاهريين باختلاف فئاتهم
يسهمون بدور في تفعيل الحركة العمرانية، كأن هناك تكاتف بين هؤلاء والدولة على
أهمية التعمير، فاتجهوا أيضا إلى تشييد المنشآت التجارية والخدمية ولا سيما
الأسبلة والآبار ثم قاموا بوقفها، وقد راع هؤلاء أن يختاروا لمنشآتهم تلك المناطق
التي تتسم بخلخلة عمرانية والتي تسمح بالتوسع فيما بعد، فنجد مثلا الجمالي يوسف بن
يونس الزركاشي يوقف عدة منشآت تشتمل على معمل نشادر ووكالتين مستجدتي الإنشاء بخط
باب اللوق والجامع الطولوني بالإضافة إلى عدد من الحوانيت ومدبغة ونصف طاحون وغير
ذلك من المنشآت التي أحدثها الواقف، ووقفها على نفسه ثم من بعده يخصص جزء من ريعه
لحمل المياه إلى عدد من الزوايا"[6].
وقد حظي أمر توفير المياه للناس والحيوانات "باهتمام أغلب الواقفين،
فحرصوا على إنشاء الأسبلة والآبار في مختلف أحياء القاهرة، ولوحظ أن منشئيها قد
حرصوا على تشييدها بالمناطق الخربة والأرض الموات. وبعيدا عن العوامل العقدية
والدنيوية لإقامة مثل تلك المنشآت فإن اختيار أماكنها... أسهم بدور ولو بسيط في
تشجيع التوسع وجذب الناس إلى الأماكن التي تتسم بضعف النمو"[7].
وحيث كان جزء كبير من ريع الأعيان الموقوفة ينفق في صيانة الوقف وترميمه،
فقد سهل هذا من عملية الصيانة، التي كانت خاضعة لإشراف القضاء، ولم يكن ذلك ليتم
لولا اهتمام الدولة العثمانية بالأوقاف[8]،
مما أبقى الأثر العمراني للوقف أطول مدة ممكنة بمحافظته على عين الوقف وأنشطته وما
حوله من أوضاع. وقد كان من ضمن ما يخصص من وظائف الوقف: وظيفة الكنس والرش ولم
القمامات، وهو ما "يعكس حقيقة ذلك الاتجاه للاهتمام بنظافة
المدينة؛ لأن نظافة الوقف لم تكن منحصرة على ما بداخله، بل كان يتعدى إلى النطاق
الجغرافي المحيط به"[9].
آثار اقتصادية
كان دخول مصر تحت حكم الدولة العثمانية قد فتح العلاقات التجارية بين
القاهرة وبين مركز الإمبراطورية (اسطنبول والأناضول)، وهو ما "زاد من أهمية
بولاق التي كانت باب القاهرة على البحر المتوسط. وكان لنمو العلاقات مع الدول
الأوروبية نفس الأثر"[10].
ومن هنا عَمِلَتْ منشآتُ الولاة الصناعية والتجارية على أن تَرِدَ إلى
القاهرة العديد من البضائع التي لاقت رواجا اقتصاديا كالكتان والأرز والحبوب
والجلود والسكر بدلا من البضائع الكمالية التي كانت تفد إلى مصر القديمة[11]، فلذلك "كان القرن السادس عشر هو فترة نمو نشيطة
بالنسبة لبولاق حيث قام باشوات القاهرة بتشييد سلسلة من الوكائل، وبطبيعة الحال
أنهم كانوا يفكرون في الأرباح التي يمكنهم الحصول عليها من وقف هذه الممتلكات: فقد
شيد سليمان باشا (1525 – 1538) وكالة للكتان؛ وداوود باشا (نحو 1564) ... وتتفق
هذه الضخامة مع أنشطة بولاق التجارية خلال القرن العثماني الأول، بل وتتناظر أيضا
مع القوة المالية للحكام الذين قاموا بتمويلها"[12].
وبقدر ما أسهمت الأوقاف في تنشيط الحركة التجارية في بولاق وإتاحة الفرصة
لها لتكون مركزا تجاريا، بقدر ما عاد هذا على الأوقاف نفسها بالتوسع، فلقد صار وقف
سليمان باشا من الأوقاف الكبرى التي تزيد مواردها عن تغطية نفقات المصارف المقررة
لها، ولهذا سمح الواقف لإدارة الوقف أن تستثمر الفائض في توسيع الوقف بشراء المزيد
وضمه إليها، ويصبح حكم الجديد كحكم الوقف الأصلي، وقد ضم الوقف عقارا بقيمة 26 ألف
نصف فضة، وأنشأ وكالة تجارية لبيع الكتان تكلفت أكثر من 160 ألف نصف فضة[13].
وقد شجَّع وقف سليمان باشا بطريق غير مباشر على رواج الحركة التجارية، ذلك
أن أحواض وأسبلة المياه من وسائل رواج حركة التجارة الداخلية، إذ أن وجودها في
مكان ما كخدمة مجانية كان يزيد من نشاطه التجاري، ولقد كان في وقف سليمان باشا في
بولاق حوضان معدان لشرب الدواب، كذلك أسهم وقف سليمان باشا في رواج هذه الحركة
التجارية بطريق أخرى، حيث كان يصرف في كل سنة ثمن ستة قناطير زيت، يضاء به كل ليلة
الفنار الموجود في أبي قير لينير الطريق للمسافرين الواردين عليها. وهذا أمر متعدد
الفائدة إذ لها فائدة اقتصادية في تشجيع التجارة بإنارة الطريق للتجار، وفائدة
اجتماعية بتأمين الناس وحركة السير ليلا، وفائدة عمرانية بتعمير المكان[14].
ومن أهم الآثار الاقتصادية للأوقاف ما توفره من الوظائف المتعددة لكثير من
الطاقة العاملة، وهو ما يُدخل إلى سوق النشاط الاقتصادي موارد بشرية تزيد من حركة
دوران رأس المال في المجتمع، فقد كانت أوقاف المساجد والمدارس والتكايا والزوايا
تحتاج إلى العديد من الوظائف الدينية والفقهية، سواء من جهة الإشراف على هؤلاء
الموظفين وحساب الراتب وغيره، وكثيرا ما يكون لناظر الوقف نائب أو أكثر
كما يكون لديه وكيل يتولى عنه الحضور أمام القضاء وغيره، وربما كان للوقف الواحد
أكثر من ناظر، وربما كان للوقف ناظرٌ ومتولٍّ مع تشابه وتداخل في المهام، وأحيانا
يكون أكثر من واحد في مهمة المتولي، هذا فضلا عن وظائف أخرى توجد أو لا توجد بحسب
الوقف كالمُباشر والكاتب والشاهد، كذلك فقد استلزم وجود الوقف وظائف أخرى كالجابي
الذي يجمع أموال الوقف والشاد (ويُسَمَّى أيضا: القاصد) الذي يساعده، وفي بعض
أنواع الأوقاف لزم وجود الصراف لاكتشاف الأموال المزيفة، وأمين الكلار الذي يوجد
في الأوقاف التي تخزن الغلال أو الأمتعة والأدوات، ومتعاهد كتاب الوقف (وهو أقرب
إلى وظيفة الشؤون القانونية للوقف) وعمَّال الصيانة، والحارس (الخفير)، فضلا عما
يقتضيه كل وقف من وظائف مخصوصة تبعا لطبيعته وغايته[15].
وتؤكد الشواهد أن رواتب وظائف الأوقاف لم تكن سيئة، بل كان يقع على الحصول
عليها تكالب ولجوء إلى الوسطاء، كما وُجِد ما يدل على أن بعض الأسر كانت تتعيش من
رواتب الأوقاف، وأن الحصول على وظيفة وراتب ثابت من الأوقاف كان مدعاة للاستقرار
والاطمئنان، وقد زاد خاير بك في رواتب موظفي وقفه، وشرط سليمان باشا الخادم في
وقفيته أن تزيد رواتب موظفيه بمرور الزمن[16].
وقد منحت بعض الأوقاف لبعض موظفيها –فضلا عن الراتب- سكنا ملحقا بها، حرصا
على حسن القيام بالعمل، ومن ذلك أن وقف خاير بك قد منح سكنا "للمزملاتي"[17]، وقد مرَّ سابقا أن جانم الحمزاوي أوقف على التربة التي
عمَّرها وقفا ينفق على سكن المقيمن فيها، ومنح وقف إسكندر باشا سكنا لإمام الجامع،
وشرط سليمان باشا الخادم في وقفه 18 مسكنا لسكنى موظفي الوقف[18]،
وهذا السكن فوق ما له من الآثار الاقتصادية التي ترفع الكلفة عن كثير من المحتاجين
فإنه له آثارا اجتماعية عميقة.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية، يونيو 2019
[17] المزملاتي: هو
المسؤول عن تسبيل الماء في السبيل، وهو أهم موظف في الوقف إن كان سبيلا، انظر
مهماته التفصيلية في: محمود حامد الحسيني، الأسبلة العثمانية بمدينة القاهرة،
ص303 وما بعدها.
[18] محمد عفيفي، الأوقاف
والحياة الاقتصادية، ص113، 114، وراجع: محمد راغب الطباخ، إعلام النبلاء،
5/474.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق