الثلاثاء، يونيو 18، 2019

مذكرات الشيخ رفاعي طه (15) هكذا تشكلت زعامة صلاح هاشم


مذكرات الشيخ رفاعي طه (15)

من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

هكذا تشكلت زعامة صلاح هاشم مؤسس الجماعة الإسلامية المصرية

·        انتقلت من الصوفية إلى عقيدة أهل السنة على يد الشيخ عبد الله السماوي!
·        بدأ العمل قبل التفكير والتخطيط، وأول ما فعلنا: منع إقامة حفل فاسد بالجامعة!
·        كان الشيخ صلاح هاشم دمث الخلق مثالا في الإيثار على نفسه!

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
لقراءة الحلقات السابقة:

ذكرتُ في الحلقة الماضية كيف كان تعرفي على الشيخ عبد الله السماوي وكيف بايعته بعد أول خطبة جمعة سمعتها له، كان الرجل يدعو لدولة الخلافة وكنا نحب أن نكون رجال هذه الدعوة وهذه الدولة، لكن سرعان ما اختلف الأمر.

كانت تمضي بنا الأيام ويزداد العمر وينظر المرء خلفه فيجد أنه لم يصنع شيئا!!

أول سؤال يخطر ببال القارئ: ما هي النشاطات التي كنتم تمارسونها في جماعة الشيخ السماوي؟ وأجيب: هذه هي المشكلة، أنه لم تكن ثمة نشاطات نقوم بها، ما هو إلا أن يأت الشيخ عبد الله السماوي فنجتمع حوله، فيخطب فينا ويعظنا ويحدثنا ويبث فينا ما يثير فورة حماستنا وعزمنا وإصرارنا، ثم تنتهي الجلسة فينتهي معها كل شيء!

كان أمير مجموعتنا في الجامعة هو صديقنا عبد التواب طه أحمد الذي عرفني بالشيخ أول مرة، ومع هذا لم نفعل شيئا في الجامعة، بل لم نتخذ لأنفسنا اسما، إنما نعرف بعضنا كمجموعة الشيخ عبد الله السماوي. وهكذا كان يفتر حماسي بمرور الوقت بسبب هذه "البطالة"!، لم يكن الشيخ رحمه الله يُوَظِّف أتباعه توظيفا حسنا، كان تحت يده عشرات الشباب في الجامعة، ولكن إجابته الوحيدة تقريبا على حماسة الشباب التي تسأل عن العمل أن يقول: أول الواجبات نتعلم العقيدة الصحيحة!

وهو، والحق يقال، ممتاز في باب العقيدة، وأنا أعتبر نفسي تلميذه في هذا الباب، وقد قرأنا في مجموعته "العقيدة الطحاوية" وشُرِحَتْ، وقرأنا مجموعة التوحيد وشُرِحت لنا، وكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب وشرح لنا، وهكذا.. وبهذه الكتب والشروح انتقلتُ نقلة حقيقية وقوية من الصوفية إلى الالتزام بأهل السنة والجماعة وعقيدتهم: العقيدة الطحاوية.

كان رحمه الله مثالا للسلفي الحق، كان سلفيا مجاهدا أو مقاوما، ليس مثل أولئك الذين شوهوا صورة السلفيين، أعني: حزب النور وفريق الإسكندرية هذه الأيام[1]، وبالمناسبة: فلم تكن بداية سلفية الإسكندرية على هذا النحو الذي وصلوا إليه الآن، بل كانت مجموعة محمد إسماعيل المقدم مجموعة ممتازة، ولم يكن ثمة اختلاف كبير بيننا (نحن الجماعة الإسلامية – فيما بعد) إلا ما يرونه أننا استعجلنا في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن لهذا حديث مؤجل إن شاء الله.

كانت مجموعة الشيخ عبد الله السماوي سابقة في الجامعة على أي مجموعة دينية، لا جماعة إسلامية ولا سلفيين ولا شيء، وكان أظهر وجود لها عندنا في جامعة أسيوط، ومع أن الشيخ السماوي مقيم في القاهرة إلا أنه كان يكثر من زيارة أسيوط.

وكان ثمة شيخ آخر شهير جدا لكن غاب عني اسمه الآن، وكان من جمعية أنصار السنة المعترف بها رسميا، لكنه كان رئيس جماعة أخرى "جماعة الحق"، وكان أيضا من هذا التيار السلفي المقاوم، وكان يحث على العمل، لكن أهم ما أخذناه من العمل منه هو إعفاء اللحية، ولا أتزال أتذكر مقولته في الحث على ذلك، فهو إن وجد شابا حليقا سأله نصف مازح "أيهما خير؟ الديك أم البِنِّيَّة؟!" (وهي الدجاجة)، فتصل الرسالة، فمن هذا الشيخ تعلمنا الالتزام بالسنة والهدي الظاهر.

في تلك الأثناء بدأ يتزايد ظهور المتدينين في الجامعة من غير المنضوين تحت "الجماعة الدينية" الرسمية في الجامعة والتابعة في حقيقتها لأمن الدولة، كان أولئك المتدينون من أمثالنا وأمثال غيرنا من المتأثرين ببعض الشيوخ. وأحببنا أن يكون لنا نشاط إسلامي حقيقي، ينفذه متدينون مخلصون أمثالنا غير تابعين لأمن الدولة! فمن هنا بدأ يكون لنا شيء من النشاط المستقل داخل الجامعة، فصرنا نفعل ما كنا ننفذه ضمن "الجماعة الدينية" التابعة للجامعة ولكن باستقلال عنهم، من نحن؟.. إلى هذه اللحظة لم نتخذ اسما ولا عنوانا!

نقيم معرضا للكتاب الإسلامي، نكتب مجلة الحائط، نبيع الزي الإسلامي للفتيات، أحيانا نجمع من بعضنا مبالغ زهيدة بسيطة ثم نشتري هذا الزي ونوزعه مجانا، إمكانيات محدودة، إلا أن فارقا واضحا بين هذا الزمن وبين هذا الواقع الآن؛ في ذلك الوقت كنت طالبا ملتحيا فما إن أذهب إلى صاحب بقالة أقول له: نحن نجمع تبرعات للزي الإسلامي للبنات أو لشراء مذكرات الجامعة للطلاب الفقراء أو لأي غرض آخر، إلا ويعطيني من المال دون تردد، كان مظهر المتدين في ذلك الوقت يساوي الثقة. قد يعطيني التاجر خمسين قرشا، وكان هذا في ذلك الوقت مبلغ له قيمته. كذلك فقد كان في الناس خير وبذل وعطاء يبدو أنه غاض الآن!

كانت اللحية والقميص (الجلابية باللهجة المصرية) تُسَرِّع من تعارف المتدينين الجدد إلى بعضهم، ولم يكن أعضاء "الجماعة الدينية" الرسمية التابعة للجامعة يهتمون باللحية ولا الهدي الظاهر، بينما تمسَّكنا نحن بهذا، وكنا ندخل إلى الجامعة على هذه الهيئة، بل كان هذا القميص (الجلابية) من أهم أسباب القبض علي فيما بعد، ومنعي من دخول الامتحانات أربع سنوات.

بينما نحن كذلك إذ تناهى إلى مسامعنا أن شابا اسمه صلاح هاشم (الذي سيكون فيما بعد أحد أهم أعمدة الجماعة الإسلامية المصرية) يعتزم منع حفلة تقيمها الجامعة، وسرى الخبر في الجامعة وفيه فحوى تقول: فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلينصر أخاه في منع هذا المنكر!

وبهذا نستطيع القول أن فاعلية النهي عن المنكر سبقت تكوَّن الجماعة، سبق العمل التخطيط!

كانت الحفلة بمباركة عميد الكلية ورعاية رئيس الجامعة، ستأتي مُغَنِّيتان: خضرة وفاطمة سرحان، لم تكونا مشهورتين مثل مغنيات التلفاز والإذاعة لكنهما كانتا مشهورتيْن شعبيا، من فئة المغنيات الشعبيات، وقد اتفق معهما اتحاد الطلاب لإقامة حفل في الجامعة، ووافق على هذا ودعمه العميد ورئيس الجامعة.

وكانت فكرة صلاح هاشم بسيطة، أن يستكثر من المتدينين في مكان الحفل، وأن يسبقوهم إليه، فيحضروا ويكاثروا حتى يكثروا ويغلب عددهم عدد الذين يريدون الحفلة فعلا، ثم يشرعون في قراءة القرآن جماعة، هذا يقرأ ثم هذا ثم هذا، وهو ما كان.. سبق الشباب المتدين إلى مكان الحفل، أخذوا في تلاوة القرآن، ولم ينتهوا!

جاء العميد، وجاء من بعده رئيس الجامعة، وجاء من قبلهم ومن بعدهم غيرهم يستحثوننا أن ننتهي ونخلي المكان، ونحن ماضون في التلاوة كأن شيئا لم يكن، ولم يكن بدٌّ من وقوع اشتباك فقد جاءوا يخرجوننا بالقوة، فاشتبكنا معهم، وحيث وقع اشتباك وعراك فقد فسد الحفل، المغنيتان خافتا، والناس الذين جاءوا للحفل انسحبوا بأنفسهم، وانتهى الأمر على هذا الحال. أفسدنا عليهم حفلتهم أو بالأحرى: أصلحنا الأمر وقوَّمنا اعوجاجه.

لم نكن ننوي الاشتباك إنما حسبنا أن بقاءنا سيحملهم على الملل والعودة عن قصدهم، إنما حيث هوجمنا فقد كنا مضطرين. وهم بهذا يتحملون مسؤولية إفساد أجواء حفلتهم!

أغلب الظن أن هذه الواقعة كانت في ربيع 1976م، في الفصل الدراسي الثاني من عام 1975/1976م. قبل سنة واحدة من أول فوز "للجماعة الإسلامية" بانتخابات اتحاد الطلاب.

لكن أهم ما أسفرت عنه هذه الحادثة هو الزعامة التي تشكلت حول صلاح هاشم في الجامعة، لقد صار بهذه المبادرة والشجاعة زعيما بحكم الأمر الواقع، زعيما على المتدينين، على هذه الحالة الشبابية الإسلامية التي تتشكل في الجامعة. فكنا من بعدها إذا أردنا أن نفعل شيئا ذهبنا إليه فعرضناه عليه، أو إذا أردنا مشاورة شاورناه، وهكذا..

كان الشيخ صلاح هاشم حينها في السنة الرابعة والأخيرة من كلية الهندسة، هو ابن محافظة سوهاج، كان طيبا للغاية، دمث الخلق جدا، كريما جدا، مثالا في الإيثار، ولقد شهدت منه في هذا قصة كلما تذكرتها وتخيلتها في ذهني سبق إليَّ البكاء:

في ذلك الوقت كنا بدأنا في إقامة المخيمات أو المعسكرات، في المساجد، وكنا نستعين على نفقاتها من تبرعات المحسنين كما ذكرت آنفا، ولهذا فقد كان معظم ما فيها من الطعام الأمور البسيطة: الجبن والحلاوة الطحينية والعسل، فإذا اتفق وحضر أحدٌ من أهل الخير مخيما من هذا فربما تبرع من عنده ببعض الأرز واللحم، ودائما ما كان هذا الطعام يكفي بالكاد عدد الطلاب الحاضرين في مخيماتنا، إذ كان العدد يصل إلى ثلاثمائة طالب ولا يقل عن مائة وخمسين.

كان صلاح هاشم مسؤول المخيم، وتحته مجموعة نسميهم "أمراء الحلقات" وأولئك الذين يديرون المخيم فبعضهم يقوم على شأن الطبخ وإعداد الطعام، وبعضهم يقوم على شأن التعليم: تلاوة القرآن والتفسير واللغة العربية والفقه.. إلخ! وأولئك الذين يديرون المخيم يأكلون آخر الناس، بعدما ينتهي الطلاب من الطعام، يجمعون من بقايا الطعام طعاما لهم، لم تكن لدينا وقتها ثقافة التنظيم أو إبقاء بعض الطعام لمن يديرون المخيم، إنما كانوا هم ونصيبهم، فلئن بقي لهم طعام أكلوا وإن لم يبقَ لم يأكلوا.

أين صلاح هاشم هنا، مسؤول المخيم؟.. إنه آخر من يأكل، بعد أن ينتهي أمراء المخيم من أكلهم، هذا إن بقي له شيء يأكله. ولقد رأيته لا يقبل أن يأكل إلا آخر الناس ولو لم يبق له شيء إطلاقا. كان مأكله في مكان تنظيف الأطباق إن وجد شيئا!

لقد أكبرته جدا، وبمرور الوقت ترسخت بيني وبينه علاقة أخوة عميقة، كانت بذرة لنشأة الجماعة الإسلامية المصرية.

نشر في مجلة كلمة حق، يونيو 2019 


[1] سجلت هذه المذكرات عام 2015.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق