الأربعاء، يونيو 19، 2019

رحل مرسي وبقيت قصته مثلا وعبرة


عند لحظة الانقلاب على مرسي لم يكن أحد يعرف أنه قد بقي في عمره أقل من ست سنوات، أي أنه في كل الأحوال لم يكن ليُكمل فترتيْن في الرئاسة، حتى لو فاز بفترة ثانية! فإن أجل المرء لا يتقدم ساعة ولا يتأخر منذ أن قدَّره الله ومهما كانت الأسباب.

وهنا يأتي السؤال: ماذا كان سيكون مصير مصر والمنطقة لو أن مرسي توفي رئيسا بعد استقرار تجربة الديمقراطية والحكم المدني في مصر؟ هل كانت مصر والمنطقة ستكون أحسن حالا أم أسوأ حالا؟!

يجب أن يقف أمام هذا السؤال أولئك الذين فرغ صبرهم بعد عام واحد من حكم الرجل، وها هم يسيرون في العام الخامس تحت حكم السيسي، الذي مهَّد لنفسه بتعديل دستوري لا يزال ساخنا ليستكمل به للحكم مدى الحياة!

لكن يأتي قبل هذا سؤال آخر أهم منه: هل كان يستطيع مرسي أن يستمر في الحكم؟ أم أن انتخابه من قبل الجماهير على الطريقة الديمقراطية ليس شيئا كافيا لهذا؟

لا أظننا نحتاج جدالا كثيرا في الإجابة على هذا السؤال: ستة أعوام كافية لتقديم الإجابة الشافية الوافية الكافية على هذا السؤال.. باستطاعتنا أن نقول باطمئنان: إن فكرة الديمقراطية كحلّ قد وُضِعت في قبرها مع مرسي، ومثلما ستنفض الحالة السياسية يدها من عودة مرسي فينبغي على الحالة الفكرية أن تنفض يدها من الحل الديمقراطي كذلك! فإن الدبابة التي دهست مرسي حتى قتلته ثم شيعته في الظلام إلى قبره دهست معه فكرة الديمقراطية نفسها!

لقد تصرف مرسي كما ينبغي أن يتصرف حاكم ديمقراطي يقرأ من كتاب الليبرالية الغربية، بل بما هو فوق الموجود في الكتاب، فكتاب الليبرالية الغربية يعطي الحق للحزب الفائز أن ينفرد بتشكيل الحكومة والسيطرة على المؤسسات وتنفيذ برنامجه، لكن النخبة العلمانية العربية اخترعت كتابا جديدا اسمه "كتاب التوافق"، وهذا الكتاب الجديد يناقض كتاب الديمقراطية في أصل مبدئه الذي يقضي بانفراد الأغلبية بالحكم ويطرح أصلا جديدا يقول بتنازل الأغلبية عن حقوقها رعاية لرغبات الأقلية (التي لم ترضَ أبدا، ولن ترضى).

كانت أياما لا تتصورها الأحلام، حرية رأي لم تحصل عليها الدول التي ازدهرت فيها الديمقراطية نفسها، حرية رأي وصلت إلى أن يُكتَب السبُّ له على جدران قصر الرئاسة، وأن وُضِع أمام بيته البرسيم لأنه "خروف"، وكان الصحافي الذي لا يجد شيئا ليكتبه يُدبِّج المقالات في سب مرسي وجماعته، وأحد أولئك بعدما حُكِم عليه بالسجن  تدخل مرسي بنفسه ليعدِّل قانون الصحافة كي لا يبيت شاتمه في السجن، فخرج ليواصل مهمته في السب والتحريض!!

وتوافقٌ لم يشهد رئيسٌ منتخب مثله، تحولت به حكومته إلى شركاء متشاكسين، وزير من اليمن ووزير من اليسار، وزير محافظ ووزير ليبرالي، ورئيسٌ يعرض منصب رئيس الحكومة على خصومه السياسيين وهم يتمنعون، وعلى شباب يجاهر بمهاجمته وهم يرفضون، وفريق استشاري يتخلى أفراده عن رئيسهم في لحظة هو فيها مُهَدَّدٌ بالاغتيال!

لا أحسب أننا بحاجة إلى التذكير بأنه حينما جاء السيسي على دبابته، مزق كتب الديمقراطية والتوافق بلا تردد، فإذا بفلاسفة الديمقراطية والتوافق بين منافق وسجين وطريد وعائد إلى مزرعته السعيدة في بلاد الأجانب أو قواعده في تويتر أو مشروعاته العظيمة في الغذاء الصحي!!

القوة هي الحكم.. والسيف يهزم الدم.. والرصاص أقوى من السلمة.. والدبابة أعتى من الصندوق.. والقنابل تسحق الحشود.. والعسكري فوق الديمقراطية!

حين تتعادل القوى يظهر القانون، وعلى نحو ما قال الفقيه القانوني المعروف عبد الرزاق السنهوري: القانون يحكم بين قويين أو ضعيفين، أما إذا اختلت موازين القوى فلا قانون، وحينئذ تصير القوة هي القانون.

نعم في بعض اللحظات تكتسب قوة الشعب وزنا استثنائيا في معادلة القوة، كما هو الحال في لحظة الثورة والاحتجاج، وعندئد يمكن للقيادة الحكيمة أن تُوَظِّف هذه القوة في تلك اللحظة لتحقيق مكسب سياسي لا يمكن أن يتحقق في وقت آخر، لكن هذا يحتاج من الذكاء والمبادرة والسرعة ما لا يتمتع به إلا الزعماء الأكفاء.

قال مرسي، وصدق، بأن ثورة يناير والشرعية ثمنها حياته.. وقد وفَّى بهذا رحمه الله، فمات في سجنه بعد عذاب السنوات الستة ميتة كان يمكنه أن يتجنبها ويعيش في شيء من اليسر، ماتَ وقد ترك المشهد المصري واضحا: حق وباطل، ثورة وانقلاب، اختيار الشعب وحكم السلاح.

لكن لماذا لا يكون الحفاظ على يناير والشرعية ثمنها حياة أعداء الشعب؟! هذا ما كان ينبغي أن يكون.. أن تبقى ثورة يناير وتبقى شرعية الشعب ويكون الثمن هو حياة أعداء الشعب والثورة والأمة والدين.. هكذا يجب أن تمضي الأمور، تماما مثلما مضت في كل الثورات الناجحة!

ولو أن ثمة من لا يفهم هذا فيرى في الإجراءات الثورية الرامية لحفظ الثورة وحمايتها اعتداء على الحريات فلا بأس ألا يفهم، لعله إن عاش يفهم من تلقاء نفسه أو حتى فليمت دون أن يفهم وتبقى شرعية الشعب وحقه في التحرر والاستقلال واختيار من يحكمه. وإلا كان البديل أن تضيع الثورة وحياة رموزها كما حدث مع مرسي وغيره، ثم يفهم صاحبنا المغفل هذا بعد أن تضيع الفرصة، ثم هو قد لا يفهم أيضا مثل الذين لا زالوا حتى الآن يُنَظِّرون لكون سهرة 30 يونيو ثورة شعبية.

إنها لمكانة عليا أن تجتمع على مرسي قلوب ملايين المسلمين ترثيه وتنعيه وتنشد له الأشعار وينتصب رمزا ويتحلى بلقب الشهادة، هي مكانة عليا حقا، ولكن الأعلى منها والأنفع للأمة أن يعيش منتصرا متمكنا قادرا على حماية شعبه وتحقيق أمانيهم قاهرا لأعدائهم وعملاء أعدائهم، ثم هو في كل ذلك متعرض للشهادة أيضا، شهادة الفاتحين في ساحات النصر والكفاح لا شهادة الأسير في ضيق الزنازين.

إن الواجب علينا أن نسعى في النصر المؤزر حتى ندركه أو ننال الشهادة دونه، ولئن كنا ظننا يوما أن الديمقراطية تأتي قبل التحرر، فإن الوفاء لدم مرسي ودماء الشهداء وعذابات الأسرى والمشردين أن نؤمن الآن أن التحرر يأتي قبل كل شيء، وأن مطلب التحرر يجب أن يكون أولا، أن نمتلك القدرة على الاختيار لا أن نختار حين يُسْمَح لنا ثم نذبح حين تتغير رغبة القوي المحتل!

الديمقراطية صنم مأكول (كما ذكرت ذلك في المقال الماضي، الذي كُتِب بتقدير الله قبل وفاة مرسي)، ولو كان لها معنى لظل النبي في مكة يستكثر من الأتباع ثم يطالب سادة قريش بانتخابات حرة نزيهة، لكن شيئا من هذا لم يخطر بباله ولا ببال أحد، إنما كان يستكثر من الأتباع المؤمنين ليخوض بهم معركة التحرر والاستقلال، فلم يضيع –صلى الله عليه وسلم- السنوات الطوال في الخضوع لنظام قريش ومحاولة إصلاحه ليسمح بانتخابات حرة، بل عرض نفسه على القبائل يطلب النصرة، يبحث عن الأرض التي يقيم عليها الدولة ويحميه أهلها، حتى فتح الله قلوب الأنصار فكانوا رجال دولة الإسلام.

هنا حصل التحرر، حصل الاستقلال، هنا تحولت الفكرة إلى كيان، وهنا بدأت مرحلة أخرى من الحرب الإقليمية والعالمية ضده لتدميره.. إلا أن الخلاصة المقصودة في سياقنا الآن: أن الاختيار ليس متاحا لمن لا يملك (القدرة) على الاختيار، الضعيف مفعول به مهضوم الحق مهيض الجناح مهدوم الركن! مهما كان صاحب حق ومهما كان فصيحا في بيانه والتدليل عليه.

سجل المتنبي وهو أشعر العرب تجربته بين الشعر والسيف فقال:
حتى رجعتُ وأقلامي قوائل لي .. المجد للسيف، ليس المجد للقلم
اكتب بنا أبدا بعد الكتاب به .. فإنما نحن للأسياف كالخدم
صدقتِني، ودوائي ما نطقتِ به .. فإن غفلت فدائي قلة الفهم
من اقتضى بسوى الهندي حاجته .. أجاب كل سؤال عن هلٍ بِلَمِ

وقبله مدح أبو تمام المعتصم بقصيدته الشهيرة التي مطلعها:
السيف أصدق إنباءا من الكتب .. في حده الحد بين الجد واللعب

وبعدهما ردد شوقي ذات المعنى وهو يمدح مصطفى كمال أتاتورك يوم كان مخدوعا:
فقل لبانٍ بقولٍ ركنَ مملكة .. على الكتائب يُبْنَى المُلْك لا الكُتُب

ومن قبل ذلك كله، ومن بعد ذلك كله قول ربنا (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم).

رحم الله الرئيس الشهيد محمد مرسي، وجعل قصته هدى وعبرة وعظة للمؤمنين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق