بثت قناة الجزيرة فيما وثائقيا بعنوان "في سبع
سنين"، يروي الفيلم قصة تغير المسارات لدى الشباب واختار أن يتحدث عن تطرفين
متقابلين، فكان نصف الفيلم حديثا عن شباب من الإسلاميين تحولوا إلى الإلحاد، ونصفه
الآخر شباب لم يكن متدينا بالأصل وهو الآن يقاتل في سوريا.
ويمكن أن نعدّ هذا الفيلم مدخلا مناسبا للحديث عن بعض
أمور:
1. تنطلق فكرة الفيلم من أن الذهاب إلى الإلحاد كالذهاب
إلى الجهاد، كلاهما رد فعل متطرف على الأزمات التي عاشها الشباب، والواقع أن هذا
التصور نفسه بحاجة إلى نقد ونقض أساسي، وهو تصور ينطلق أساسا من رؤية تعودت وتآلفت
وتصالحت مع مشهد الدين المقهور تحت الدولة العلمانية، ومن ثَمَّ فهو يستنكر
ويستبشع الخروج من الدين إلى الإلحاد بنفس القدر الذي يستنكر به ويستبشع الخروج عن
الدولة إلى الجهاد. وإذا شئنا الحق فإن الخروج عن دين لا يجيب عن الأسئلة الجوهرية
أو الخروج عن الدولة التي لا تقوم بوظائفها الأساسية هو رد الفعل الطبيعي الفطري
التلقائي المتوقع، بينما المُستغرب حقا هو الولاء لدين مهما بدا أنه لا يحقق الاطمئنان
الفكري والإيماني أو الولاء لدولة تعمل بنقيض وظائفها. إنما الذي ينبغي أن يُستغرب
كيف يستطيع أحدٌ بعد هذه الزلازل أن يعتنق ذات الموقف الذي يجمع بين دين ودولة
كلاهما فارغ من مضمونه!
2. لم يكن الذين قدَّم الفيلم قصصهم على أنهم جهاديون
متطرفون من "تنظيم الدولة" (داعش)، فغاية ما يمكن أن يكونوا هو أنهم من
هيئة تحرير الشام التابعة للقاعدة والتي انفصلت عنها مؤخرا سعيا لبناء توافق داخلي
فصائلي سوري، يدل على ذلك عدد من الشواهد ليس هذا محل التفصيل فيها. وإنما كانت
هذه الإشارة مهمة لكي نقول بأن الذين ظهروا في هذا الفيلم لا يمثلون
"داعش" التكفيرية، وإنما يمثلون الحالة الجهادية التي هي في سوريا حالة
ثورية بالأساس آلت إلى حالة جهادية. وهذا أمر مهم في التأسيس للحوار حول
"التطرف" الذي سوَّقه الفيلم.
والذهاب للجهاد في سوريا ضد نظام بشار الأسد هو في الأصل
–ومهما خالطه من أخطاء عملية وتفصيلية- عملٌ ثوري نبيل في ميزان الشرائع الأرضية
وتاريخ حركات المقاومة، والمناضلون اليسار –وأشهرهم: جيفارا- هم النموذج غير
الإسلامي لما يسمى "الجهاد العالمي"، لكن الأدبيات اليسارية تسميه
"الثورة العالمية"، فضلا عن كونه واجبا دينيا إسلاميا بفتوى كثير من
العلماء المعاصرين يوم أن كانوا يملكون النطق والفتوى كما فعلوا في زمن مرسي فك
الله أسره. فلو أن الفيلم كان صادقا في رصد حالة التطرف والتكفير لكان عليه أن
يلتقي بداعشي ليتحدث عن تطور فكره إلى التكفير واستحلال الدماء.
3. كان متدينا ثم ألحد.. لم يكن متدينا ثم ذهب للجهاد
لو حاولنا تحليل هذه الثنائية التي يمكن أن تكون خلاصة
الفيلم الوثائقي، فيجب أن يلفت انتباهنا أن الإلحاد هو موقف من الإله ومن الكون
ومن الناس عموما.. بينما الجهاد موقف من الدولة ومن النظام! فالإلحاد هو خروج من
المعركة بينما الجهاد هو دخول فيها. الإلحاد هو نفض اليد من كل التكاليف بينما
الجهاد هو تحمل أشق وأشد أنواع التكاليف.. فمن منهما أصلب عودا وأقوى نفسا وأعظم
هما وأعلى همة؟!
لا يستوي من استثقل تكاليف المعركة فنفض يده منها، ومن
لم يكن يعلم بها فلما رآها عزم على خوضها مهما كانت التكاليف!
ولو تأملتَ لرأيت الذين ذهبوا للجهاد يُغَطّون وجوههم
ويحرصون ألا يُعرفوا، بينما الذين ألحدوا يتحدثون ويعيشون مكشوفي الوجوه ببساطة، وما
ذلك إلا لأن الأولين يخوضون المعركة ضد الواقع الظالم وأنظمته الجبارة، بينما
الآخرون لا يمثلون خطرا على أنظمة الظلم والقهر.. هذا بنفسه دليل فارق في أنهما لا
يستويان ولا يتقابلان، ويجب ألا يُقدَّما باعتبارهما وجهان للتطرف!
4. في ثنايا هذه الثنائية معنى مهم، وهو أن الدين
المغشوش الذي تشربه بعض الناس أسوأ من بقائهم بغير تدين.. الجهل خير من الأفكار
المسمومة كالجوع خير من الطعام المسموم، وفي حالتنا هذه فالمسألة ليست جهلا بقدر
ما هي البقاء على الفطرة. إن تحرك الإنسان نحو الجهاد والمقاومة والثورة حين يرى
المظالم والمذابح هو رد الفعل الإنساني الطبيعي، وأعرف بعض الأصدقاء ألحد أو كاد
يلحد حتى سمع عما في الإسلام من مقاومة للظلم ورفض له وجهاد ضده فدُهِش لأن
الإسلام فيه هذه الأمور، فوافق هذا فطرته فكان من بعد ذلك متدينا صبورا متحملا
لتكاليف المقاومة ومضحيا في سبيل هذا الدين.
وقد عبَّر بعض الذين ظهروا في الفيلم عن هذا المعنى
ببساطة: "لا يمكن أن يكون هذا الخنوع في الإسلام، ولو كان الإسلام فيه هذا
الخنوع فصالحوا النظام واخضعوا له"، وهذه العبارة مع بساطتها ووضوحها تمثل ما
يشبه المعضلة الفكرية العويصة التي يتجادل حولها وحول مقتضاها كثير من الموصوفين
بأنهم نخبة ومفكرون، ويهيمون في أودية محاولات الجمع والتوفيق بين حقائق الدين
وحقائق الواقع، ولأنهم أضعف وأعجز وأقل رغبة في تغيير الواقع فإنهم يمارسون
مجهوداتهم في تأويل وتمييع وتفكيك حقائق الدين، حتى يريدون أن يجعلوا من الإسلام
مسيحية تعطي الدنيا لقيصر وتستسلم للعلمانية وتنزوي في الشعائر والطقوس!
أمثال هذه المحاولات التي تنتج خطابا دينيا مقهورا على
مقاس السلطة الحاكمة من جهة بينما تعد أتباعها بالخلافة وأستاذية العالم من جهة
أخرى، هي التي تنتج في النهاية هذه المحاولات الارتدادية عن الدين كله، إن آخر ما
يحتاجه جندي في معركة أن يُشَنَّف سمعه بعبارات النصر والتمكين بينما لا يدري ماذا
يفعل في ظل قرار حائر مضطرب مرتبك! ولقد قيل كثيرا على لسان الذين شاهدوا المذبحة
"لم نكن نظن أن الله لن ينصرنا"، "ما معنى هذا؟ هل فعلا سنغادر
رابعة قبل عودة الرئيس؟!"، "أين نصر الله؟!"، وكتب أحدهم مقالا
عنوانه "الله الذي لا ينصرنا".. وبغض النظر الآن عن مآل كل واحد من
هؤلاء (إذ ليس بالضرورة أن يصل المسار دائما إلى الإلحاد) فإن أصل هذه الحيرة هو
ذلك الظن الكبير في أن النصر يتنزل بمجرد الدعاء والتضرع، أو لمجرد وجود الظلم، أو
لمجرد وجود الحق.
من أين جاء هذا الظن؟!
من خطاب ديني مسموم مزيف، خطاب يريد تمكينا بلا تكاليف،
نصرا بلا جهاد، عزة بغير تضحيات.. خطاب يتحدث عن الاعتصام باعتباره صمودا، وعن
المسيرات باعتبارها جهادا، خطاب يسوق أن "سلميتنا أقوى من الرصاص"، فلما
جاء الرصاص انقشع الوهم وظهر الزيف، وسالت الأفكار مع مسيل الدم!
وهنا يجب أن يستشعر العلماء والدعاة وقادة الحركات
الإسلامية حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وحجم ما يمكن أن يسببوه من الخراب
والضلال في نفوس الناس، وأن تزييف الدين أو إهمال فهم الواقع وحسن الإعداد له
ينقلهم من كونهم أئمة هداية إلى كونهم أئمة ضلالة! وبئس الانتكاس!
5. ومع هذا فإن موقف الإلحاد هنا هو نتيجة صدمة نفسية
وليست ناتجة عن فحص وقراءة ودراسة وتشبع بشبهات فكرية، وهو أهم ما ينبغي التأسيس
عليه في تحليل ظاهرة الإلحاد في زمن ما بعد الانقلاب العسكري، وهذه ظاهرة لن يكون
علاجها على يد المتميزين في المجادلة والحجاج والتمكن العلمي، بل يكون على يد أهل
التربية والفراسة والذكاء، وإن كان يلزم في كل الأحوال حدا أدنى من العلم، إن
الذين صدمتهم الحياة بعنفها وقسوتها ومضادتها لمسيرتهم الحالمة ورأوا سقوط أفكارهم
وقناعاتهم تحت عجلاتها الجبارة لن يستمعوا ولا يحتاجون لحجاج منطقي متقن كحاجتهم
إلى تفسير، وقد قال الشهيد سيد قطب "تظل الحجة تُفحم ولكن لا تُقنع. وتُسْكِت
ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل. ويظل الجدل عبثا والمناقشة جهدا ضائعا"،
وإنها لمهمة ثقيلة وطويلة.
ولو فقه أهل العلم والدعوة شأن الواقع لعلموا أن مكافحة
الظلم والطغيان والوقوف في اللحظات الفاصلة موقفا مشرفا خير من معالجة الآثار
الوخيمة له، وأن ملاحقة الظالمين الفاجرين في لحظة ثورة وقوة خير من ملاحقة بقايا
الدين في نفوس الضائعين والتائهين في زمن الذل والهزيمة، وأن كلمة حق في وجه
الجائر تعصم من آلاف الحوارات التي تقنع الملحد، وأن معارك السياسة في بلادنا إنما
هي معارك دين، لأن الصراع في بلادنا على أصل الهوية وأصل التوجه وأصل الشريعة وأصل
الولاء والبراء.
6. بقيت ملاحظة أخيرة وضرورية، لئن كان مفهوما أن الفيلم
الوثائقي ليس عملا بحثيا، ولا يتسع وقته لمناقشة ظاهرة معمقة، فعلى الأقل لا بد من
الحد الأدنى من الاتساق والتفسير، وهذا ما لم يكن.. إن عددا من الشواهد التي روى
بعض الشباب أنها كانت سببا في تحولاتهم غير صحيحة بيقين:
فالفتاة التي تحدثت عن أن مظاهرات محمد محمود لم يكن
فيها إسلاميون، وأن هذا كان بداية شكها وتخليها، هذه الفتاة لا تخلو من أحد
احتماليْن: إما أنها تكذب أو أنها كانت هناك ولم تنظر إلا في جزء صغير من الميدان
ثم سَلَّمت عقلها للإعلام، ذلك أن مظاهرات محمد محمود كانت تزخر بالإسلاميين، حتى
من الإخوان المسلمين رغم القرار الرسمي من الجماعة بعدم النزول (لتخوف الجماعة من
أن تكون هذه فوضى تعطل مسيرة انتقال السلطة، حيث كانت انتخابات البرلمان مقررة بعد
أيام)، وهذا فضلا عن الحضور المميز والواضح للشيخ حازم أبو إسماعيل وأنصاره،
ولأطياف الشباب الإسلامي المتعددة، وقد سجلت بنفسي شهادتي على ما حدث في هذه
الفترة في هذا المقال، وكنت الصف الأول للمعارك في شارع محمود محمود صبيحة يوم 20 فبراير
فالتفتُّ ذات مشهد فرأيت الصف الأول جميعه من الشباب الملتحي (الإسلاميين) وخطر لي
وقتها في هذه الأجواء أن هذا يحتاج تسجيلا للتاريخ، فانتحيت جانبا وكتبت هذه التغريدة من هاتفي
والفتاة التي تحدثت عن أنها كانت سلفية وأنها لا تدرس سوى عن المسلمين
غير المسلمين (الشيعة والصوفية والإخوان ونحوهما)، وذكرت أنها كانت تداوم سماع
قناة الناس، وأنها تشبعت من ألفاظ: زنديق، خرج عن الملة، كفر، منافق.. إلخ!
وهذا الكلام غير صحيح، فهذه المدرسة السلفية لا تكاد
تستعمل لفظ "كفر" و"زنديق" و"خرج من الملة"، كما لا
يكثر في خطابها لفظ "منافق"، بينما الذي يكثر في خطابها لفظ
"مبتدع، عاصي".. فلا أدري هل هذا مما اختلط عليها أو مما نسيته مع طول
البعد والعهد.
ثم إنها ذكرت موقف التحرش بها باعتبارها من الإخوان وهو
ما تسبب في خلعها النقاب، ثم لفتة سريعة حول زوج سيئ يعاملها معاملة قاسية تقوم
على الخوف منه، وهي المعاملة التي شبهتها بالمعاملة مع الله: الخوف منه!
وهنا افتقدنا كمشاهدين فهم تفسير هذا التحول، فلو كان
مفهوما ببعض الصعوبة خلع النقاب للنجاة من التحرش، فليس مفهوما موقف الإلحاد لوجود
الزوج القاسي!! وهذا يعد عيبا كان على الفيلم أن يتلافاه لكي يقدم الحد الأدنى من
صورة متماسكة مفهومة للحالة.
نشر في مجلة كلمة حق، فبراير 2019
جزاك الله خير يا أستاذ محمد اني احبك في الله
ردحذف