الثلاثاء، فبراير 05، 2019

عن أوقاف السلاطين


يؤثر واقع الدولة الحديثة على فهم التاريخ فيما قبل الحداثة، ومن أهم تلك الفوارق التي تجب الإشارة إليها أن النشاط الاقتصادي والتعميري لم يكن موكولا إلى السلطة فيما قبل الحداثة، وكان تدخل السلطة فيه محدودا يقتصر على الحفاظ على الأمن اللازم لاستمرار النشاط الاقتصادي وتوفير القضاء الذي يتدخل لحل المنازعات، بينما يدير الناس هذا النشاط الاقتصادي دون توجيه ملزم أو تحكم وسيطرة من قبل السلطة. بينما في عصر ما بعد الدولة الحديثة تحول الموقف إلى النقيض، إذ تتولى السلطة إدارة النشاط الاقتصادي وتحديد نظامه وطبيعته وتتحكم في مراحله جميعا، والسلطة هي التي تسمح بحدود الحرية التي يمكن للناس أن يحظوا بها في إطار النظام الاقتصادي.

لذلك فيمكن أن نبصر الانهيار الاقتصادي في صفحات التاريخ مع ضعف نظام السلطة الذي يؤدي إلى انهيار الأمن أو ضعف القضاء أو زيادة الظلم والمصادرات، بينما في الواقع المعاصر يمكن أن يكون نظام السلطة قويا ومتحكما بكفاءة لكن الوضع الاقتصادي ضعيف أيضا بفعل الفساد داخل جهاز السلطة نفسه.

وما يهمنا في هذا السياق أن مسألة الأوقاف لم تكن بالأساس عملا سلطويا،  فالحديث عن "الأوقاف العثمانية" يشير أساسا إلى نشاط الأوقاف في العصر العثماني وليس إلى نشاط السلطة العثمانية في إنشاء الأوقاف، فلم يكن رصد الأوقاف ضمن مهمات السلطة في النموذج الإسلامي، وإنما هو يحدث من قبيل مشاركة السلطة في نشاط اجتماعي خيري وليس هو من مهماتها بالأصالة[1].

لكن حيث كانت ظاهرة الأوقاف ظاهرة كبيرة وشاملة وراسخة في المجتمعات الإسلامية فكان من النادر ألا توجد سلطة إلا وترصد أوقافا على جهة ما من وجوه الخير، وهو تخصيص موارد جزء من بيت المال كأوقاف، تلك الأوقاف هي التي يقع عبء إدارتها على عاتق السلطة، إضافة إلى الأوقاف التي صارت مجهولة الصاحب مع تقادم العهد أو لأسباب أخرى أو الأوقاف التي هجرت وخربت أو التي غاب عنها أصحابها غيابا متصلا أو التي كانت أهلية وانقرض المستفيدون منها ونحو ذلك.

لم يكن غريبا أن تكون الموارد الموقوفة هي معظم موارد البلاد، وقد أورد المؤرخ المصري الإسحاقي أن السلطان سليم الأول العثماني حين دخل مصر وأمر بمسح أراضيها وجد نحو 40% منها موقوفة[2]، بل وأوردت مصادر أخرى أن الموقوف كان ثلثي الأرض وأن بعض الوزراء استكثر هذا وحرَّض السلطان على ضمها للخزينة فرفض واحتد وقال: "خيرات فعلها من قَبْلَنا لا نحب أن يكون نَقْضُها من قِبَلِنا"، ووقع مثل هذا أيضا مع السلطان سليمان القانوني[3].
ولذا تعددت محاولات بعض الولاة والسلاطين للاستيلاء على الأوقاف أو تغيير شروط واقفيها إما بدافع الطمع أو بدافع تجهيز الجيوش أو غيره، وهو ما كان يجد معارضة قوية من العلماء، وظلت الأوقاف مُصانة في الجملة حتى جاء عصر الدولة الحديثة والأنظمة العلمانية فسيطرت عليها فكانت تلك من أقسى النكبات التي عانت منها الأمة[4].

لذلك فحين نتحدث عن وقف أنشأه سلطان أو والٍ في سلطنته الكبيرة أو في ولايته الصغيرة فإنما نتحدث عن نشاط سلطوي في إرصاد الأوقاف، ولا بد من فهم مسألة أن الوالي إذا لم يوقف وقفا فلا يُعَدُّ هذا تقصيرا منه طبقا للنموذج الإسلامي وطبقا لمفاهيم ذلك العصر، بخلاف عصر ما بعد الحداثة الذي تضخمت فيه مسؤوليات السلطة وشملت النشاط الاقتصادي. ومن هنا، فنحن حين نتحدث عن أوقاف ولاة أو سلاطين فإنما نتحدث عن جانب طوعي خيري يقوم به الوالي العثماني في مصر فوق مهماته الأساسية. ويجب أن يكون واضحا أن نشاط الوقف هو نشاط مجتمعي وليس نشاطا سلطويا.

لكن ها هنا يجب الانتباه أيضا إلى أن أوقاف الولاة والسلاطين ليست كلها فعل خير خالص، وإنما وفَّر نظام الوقف الإسلامي بابا كبيرا لأمور وَجَدَ فيها الولاة والسلاطين ما يحقق مصلحة لهم فاستثمروه. ذلك أن جوهر الوقف أن الإنسان يُخرج شيئا من ملكه ليصير ملكا لله تعالى، فبهذا يحرم التصرف فيه والاعتداء عليه، فمن أوقف ريع أرض على وجه من وجوه الخير الذي يحدده فقد حرم التصرف فيها على أي نحو آخر، ويمكن للواقف أن يوقف شيئا على أهله وأولاده فيمتنع عليهم التصرف فيه واقتسامه كالإرث، وإنما يستفيدون منه كما تركه، وهذا ما يسمى الوقف الأهلي أو الذري (من الذرية)، وهذا النوع الأخير من الوقف أدَّى إلى منع تقسم الملكيات الكبيرة كالبيوت والأراضي ونحوها كما يحدث مع الميراث.

لا يمكن إغفال العامل الديني الذي نزع بالولاة والسلاطين إلى إرصاد الأوقاف تدينا ورغبة في التوبة وخدمة الدين، ولكن نظام الوقف كان طريقهم لعدد من المصالح الأخرى منها: التقرب للرعية والعلماء بإرصاد الأوقاف على الفقراء والمساكين ومصالح الناس وعلى العلماء والمدارس والمساجد، ومنها: التنافس مع غيرهم من الولاة السابقين والمعاصرين رغبة في الشهرة والذكر الحسن بين الناس وعند الخليفة، ومنها: تجنب ما قد يمكن أن يقع على أملاك الوالي إذا تغير الحال وانقلب الوضع السياسي وصار هو قتيلا أو طريدا ففي هذه الحالة تبقى أملاكه موقوفة على ذريته لا يمكن مصادرتها ونزعها منهم[5].

وقد أفتى الفقهاء بأن أوقاف الملوك والسلاطين لا يُراعى شرطها ويجوز نقض ما لم يوقف منها على مصالح الأمة لأنها من بيت المال، وأول ما وقع هذا بحسب ما نعلم ما كان من العلماء حين واجهوا رغبة السلطان برقوق الذي احتاج لنقض الأوقاف لتمويل مواجهة المغول المهاجمين لديار الشام، فتصدى له العلماء وقال سراج الدين البلقيني وبرهان الدين ابن جماعة وأكمل الدين الحنفي، ولم يجيزوا له إلا نقض ما أوقفه السلاطين على الذراري فحسب، وعن أولئك نقله السيوطي، وعن السيوطي نقله ابن عابدين في الحاشية، وذكر ابن عابدين رأي شيخ الإسلام أبي السعود أفندي مفتي السلطنة العثمانية زمن السلطان سليمان القانوني، وخلاصة قول ابن عابدين أن أوقاف السلاطين إرصادات لا أوقاف حقيقية لذا لا يُراعى شرطها. وهذا التحقيق عن ابن عابدين سرى في كتب المتأخرين كما في حاشية المكي على الفروق للقرافي وكما في قواعد الأوقاف لمفتى الشام وناظر أوقاف دمشق محمود أفندي الحمزاوي وغيرهم[6].

والشاهد المقصود أن مثل هذه الأمور فارقة في تصورنا للتاريخ وفهمه حين نطالع كتبه، ولذا يجب علينا أن نفسهم الفوارق التي كانت بين مجتمعاتنا الإسلامية قبل دخول الدولة الحديثة والسلطة المركزية وبينها بعد هذا الزمان، وبدون التنبه لمثل هذا لا يمكننا فهم وتقييم الأوضاع التاريخية القديمة ومن ثَمَّ فلا يمكننا تطوير أوضاعنا المعاصرة نحو خير أمتنا وشعوبنا.



[1] للمزيد حول هذا الموضوع، انظر: محمد إلهامي، منهج الإسلام في بناء المجتمع، ط1 (القاهرة: دار التقوى، 2015م)، ص113 وما بعدها، 224 وما بعدها.
[2] الإسحاقي، أخبار الأُوَل فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول، (طبعة مصر، 1310هـ)، ص143.
[3] عيسى السفتي، عطية الرحمن في صحة الأرصاد للجوامك والأطيان، مخطوطة بالمكتبة الأزهرية، خاص (372) عام (49572)، لوحة 20، ص38.
[4] محمد أبو زهرة، محاضرات في الوقف، ط1 (القاهرة: معهد الدراسات العربية العالية، 1959م)، ص20 وما بعدها؛ محمد عمارة، هل الإسلام هو الحل: لماذا وكيف؟، ط2 (القاهرة: دار الشروق، 1998م)، ص121، 122؛ وانظر: محمد إلهامي، جناية الأنظمة العلمانية على الأوقاف الإسلامية، مجلة البيان السعودية، عدد 312، شعبان 1434هـ = يوليو 2013م.
[5] ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، ط2 (بيروت: دار الفكر، 1988م)، ص549.
[6] انظر: ابن عابدين، حاشية ابن عابدين: رد المحتار على الدر المختار، ط2 (بيروت: دار الفكر، 1992م)، 4/184؛ محمد علي بن حسين المكي المالكي، تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية، ضبطه وصححه: خليل المنصور، مطبوع بحاشية الفروق للقرافي (بيروت: دار الكتب العلمية، 1998م)، 3/12 وما بعدها؛ محمود أفندي الحمزاوي، قواعد الأوقاف، اعتنى به: محمد وائل الحنبلي، ط1 (عمان: أروقة للدراسات والنشر، 2017م)، ص94.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق