ذكرنا في مقالات سابقة كيف أخرج الإسلام خير أمة للناس،
وحاولنا استقراء هذا في بناء الإسلام للفرد والمجتمع والسلطة، ثم أردنا أن نثبت
بأن الإنجاز الإسلامي لم يكن فقط على مستوى البناء والنظرية التي تفوقت على
الفلسفات والمناهج البشرية الوضعية، بل كان في تحويله هذا البناء النظري إلى واقع
عملي، وقد قدَّمنا في المقال السابق ما يثبت أن الإسلام كان أنجح حركة في تاريخ البشرية،
واستشهدنا على ذلك بأقوال المستشرقين ليكون ذلك أوضع في الحجة وأبلغ في الدليل.
لكن التأثير الإسلامي
لم يكن فحسب فيما أنجزه للعرب، بل ثمة تأثير شامل فاض به الإسلام على العالمين، وقد
شمل هذا التأثير كافة الميادين الإنسانية:
ففي ميدان العلوم
تقول المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه: "لقد طوَّر العرب بتجاربهم وأبحاثهم العملية
ما أخذوه من مادَّة خام عن الإغريق، وشكَّلوه تشكيلاً جديدًا، فالعرب -في الواقع- هم
الذين ابتدعوا طريقة البحث العلمي الحقَّ القائم على التجربة... إن العرب لم يُنْقِذُوا
الحضارة الإغريقية من الزوال ونَظَّمُوها ورتَّبُوهَا ثم أَهْدَوْهَا إلى الغرب فحسب؛
إنهم مُؤَسِّسُو الطُّرُقَ التجريبية في الكيمياء، والطبيعة، والحساب، والجبر، والجيولوجيا،
وحساب المثلثات، وعلم الاجتماع، وبالإضافة إلى عددٍ لا يُحْصَى من الاكتشافات والاختراعات
الفردية في مخْتَلَفِ فروع العلوم -والتي سُرق أغلبها ونُسب لآخرين- قدَّم العرب أثمن
هدية؛ وهي طريقة البحث العلمي الصحيح، التي مَهَّدَتْ أمام الغرب طريقه لمعرفة أسرار
الطبيعة وتَسَلُّطِهِ عليها اليوم"([1]). ويشهد المستشرق الفرنسي كارا دي فو بأن "العرب
ارتفعوا بالحياة العقلية والدراسة العلمية إلى المقام الأسمى"([2]).
وفي ميدان التشريع
يقول القانوني والمستشرق الإيطالي دافيد دي سانتيلانا: "إننا لو ضربنا صفحًا عن كل ما تقدَّم (من ذِكْرِه
مزايا الشريعة الإسلامية)، فلا شك وأن المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يسم الجانب الأكبر
من شريعة العرب قد عمل على تطوير وترقية مفاهيمنا العصرية، وهنا يكمن فضل هذه الشريعة
الباقي على مر الدهور"([3]).
وفي ميدان الاجتماع
يقول المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون: "العرب يتصفون بروح المساواة المطلقة وفقًا
لنُظمهم السياسية، وأن مبدأ المساواة الذي أعلن في أوروبا -قولاً لا فعلاً- راسخٌ في
طبائع الشرع رسوخًا تامًّا، وأنه لا عهد للمسلمين بتلك الطبقات الاجتماعية التي أدَّى
وجودها إلى أعنف الثورات في الغرب ولا يزال يؤدي"([4]).
وفي ميدان الأخلاق
نرى المستشرق والكولونيل البريطاني رونالد فيكتور بودلي يتعجب قائلاً: "إن مما
يؤثر في الغريب اليوم أدب العربي الصميم، ورقة قلبه، وحسن ضيافته، ولا يوجد جنس بشري
آخر يبلغ في الكرم ما يبلغه العربي، كرم يصدر عن نفس صادقة، لقد انقضى ثلاثة عشر قرنًا
منذ أعطى محمد r دروس الأخلاق في
المدينة، ولكن تلك الدروس لم تُنْسَ إلى الآن". وهو يبدو منبهرًا إذ يطالع هذه النتيجة فيقول: "يبدو
هذا العمل عظيمًا لمن لا يعرف العرب عن كثب؛ ولكنه أعظم خطورة مما يظهر؛ فالعرب فوضويون بطبعهم، لا يخضعون
لقانون، فإذا ما اشتغل العربي أو حارب، فإنما يفعل ذلك بدافع من حماسته الشخصية، ولا
يتحلَّى العربي بروح الجماعة... إن طريقة صهر محمد r العرب في فريق واحد لا يهزم، لإحدى معجزاته العظمى، وإن الفضل كل الفضل له"([5]).
وفي ميدان اللغة والأدب
يقول المستشرق الإسباني أميركو كاسترو: "أغلب المتخصصين يعرفون أن صدى الإسلام
ظلَّ باقيًا في الآثار التي خلفها في قرطبة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة، وكذلك العديد
من المدن الأخرى قليلة الأهمية في هذا المقام، أما فيما يتعلق باللغة فهناك الآلاف
من الألفاظ والمصطلحات العربية التي ما زال بعضها حيًّا، بينما عفا الزمان على بعضها
الآخر، كما أن الأدب استلهم المصادر العربية، ووضح هذا الإلهام في قواعد الكهنوت...
بل إن هناك تعبيرات قرآنية يتم تداولها في لغة الحياة اليومية، ومن يقرأ القرآن بعناية
سيعثر على الكثير، ونقول على الآلاف من الأقوال والأمثال الإسبانية، فيقال بالإسبانية
-مجازًا- "إن فلانًا حمار محمل بالعلوم"، وهذا معناه أن القيمة الثقافية
لذلك الإنسان ضعيفة رغم أنه يعرف الكثير... وفي البرتغالية عبارة مرحة تقول: (إن الحمار
المحمل بالكتب دكتور). وهنا يتضح معنى الاستعارة بشكل أفضل، وعندما نقرأ القرآن نجد
أنه يوضحها بجلاء لا لبس فيه؛ إذ تقول الآية: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ
يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]"([6]).
ويشهد المستشرق البريطاني
ألفريد جيوم بأنه "عندما ترى ضوءَ النهار جميعُ المواد النفيسة المختزنة في مكتبات
أوروبا، فسيتضح لنا أن التأثير العربي الباقي في الحضارة الوسيطة لهو أعظم بكثير مما
عرف عنه حتى الآن"([7]).
إن هذه ليست أكثر
من لمحات خاطفة، فإن أثر الإسلام في العرب وفي الدنيا كلها كُتبت فيه المجلدات الكثيرة، وما زال يُكتب المزيد، ويبقى أن نؤكد معنى مهمًّا،
وهو أن هذا الأثر لم يعد تاريخًا قد مضى، بل ما زال الإسلام منشودًا ومرغوبًا في أرضه
وخارج أرضه أيضًا.
فأما داخل أرضه فتثبته
كل انتخابات ولو شبه نزيهة؛ إذ يكتسحها الإسلاميون في كافة أنحاء العالم الإسلامي، وأما خارج أرضه فهو
مبثوث في العديد من كتابات المفكرين غير المسلمين، وقد ارتفعت الوتيرة كثيرًا بعد الأزمة
المالية العالمية، التي لم يصمد فيها إلا المؤسسات المصرفية الإسلامية،
بل إن المتعصبين ضد الإسلام؛ إذ يصرحون بأن الإسلام هو الخطر، وهو القادر على تقديم بديل حقيقي للفكر الغربي فإنهم -بهذا- يعترفون بأنه الأمل
الذي يداعب خيال العالم بعد فشل النماذج الغربية([8]).
إن رسوخ الإسلام كواقع
حضاري بعد نحو ألف وخمسمائة عام، بل ووجوده كبديل مطروح قوي حتى في ظل ضعف البلاد الإسلامية،
إن هذا الخلود بحد ذاته دليل لا يقبل الشك على قوة الإنجاز الإسلامي على أرض الواقع
لا في مساحات التنظير فحسب.
نشر في ساسة بوست
([8]) على الرغم من الخلاف الأساسي بين طرحي فرانسيس
فوكوياما وصمويل هنتنجتون، فإنهما يتفقان في أن العقبة الرئيسية أمام انتشار الحضارة
الغربية هي الإسلام والدول الإسلامية، وبينما يأمل فوكوياما في أن الوقت سيأتي بهم
إلى محراب الحضارة الغربية (فيما بعد تراجع فوكوياما عن نظريته "نهاية
التاريخ")، يرى هنتنجتون أن هذا من الأحلام المستحيلة وأن المسلمين أبدًا لن
يتغربوا، وأن الصدام لا محالة واقع بين الغرب والإسلام. انظر: فوكوياما: نهاية
التاريخ ص56، 57، هنتنجتون: صدام الحضارات ص166، 168.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق