يقدم لنا التاريخ الإسلامي مادة ثرية في التطبيق العملي للمنهج
الإسلامي، وبوسع الباحثين في مجال التاريخ والحضارة الإسلامية أن يكتبوا الكثير والكثير
عن قوة المجتمع الإسلامي وترابطه وتحمل أبنائه للمسئولية تجاه أنفسهم وأمتهم والعالمين.
وعلى الرغم من دخول الخلل على المسلمين -لا سيما بعد عصر
الخلافة الراشدة- فإن آثار هذا الخلل لم تؤدِ لما هو متوقع في الظروف المماثلة من انهيار
سريع للدولة والحضارة، بل ظل العالم الإسلامي يتألق حضاريًّا وعلميًّا وفكريًّا طوال
ألف سنة بلا منافس تقريبًا، وهو ما زال –حتى هذه اللحظة- يقدم النموذج الأرقى في العلاقات
الإنسانية والاجتماعية التراحمية، وخاصة في المناطق التي لم تتأثر كثيرًا بآثار الاحتلال
والعلمنة.
وقد قدَّمنا في المقالات السابقة أن منهج الإسلام في تكوين الفرد وبناء النظام العام يجعل الفرد -في نفسه-
مستشعرًا للمسئولية ومنبعثًا لحركة الإصلاح، ويجعل النظام العام مهيَّأً وقابلاً للإصلاح
والتغيير.
ولقد استوعب الضمير الجمعي المسلم مركزية الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر في قضايا الدين، حتى لم يكن أحد من الفرق والطوائف الإسلامية إلا
معتمدًا لها، ومنهم من غلا فيها كالخوارج والشيعة، ومنهم من جعلها أصلاً من أصول الطائفة
كالمعتزلة، وكثيرًا ما يطالع قارئ كتب الطبقات والتراجم عبارة: "كان من الآمرين بالمعروف والناهين عن
المنكر". وذلك لكثرة المتطوعين للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حتى إن كثيرًا منهم لم نعرف أسماءهم، وكانت
مواجهة السلطان -وهي ذروة المخاطرة- أكثر ما ينتشر من أخبار هؤلاء، وقد لاحظ مايكل
كوك -بعد استقصاء واسع- أن مؤرخي التراجم يهتمون بإيراد وقائع مواجهة السلطان أكثر
من اهتمامهم بتفصيل واقعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي بدأت بها هذه المواجهة([1])، وهذا يدل على أمرين: تعظيم المؤرخين لهذه البطولة،
كما يدل على انتشار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى الحد الذي يجعل المؤرخ عازفًا
عن إيراد تفصيله؛ لأنه معروف مشهور مفهوم
ليس في ذكره كثير فائدة.
وعلى ضوء هذا سنجعل كلامنا في ذكر هذه الحوادث التاريخية
منقسمًا إلى([2]): مواقف فردية، ومواقف جماعية. واخترنا منها
عشرة حرصنا ألا تكون مشهورة، خمس منها فردية وخمس جماعية. ونبدأ بالمواقف الفردية:
(1)
حجَّ هشام بن عبد الملك -وكان ذلك قبل أن يتولَّى الخلافة-
فلم يتمكن من استلام الحجر الأسود لكثرة الزحام؛ فنُصِب له منبر، ووقف أهل الشام حوله حتى استطاع استلام الحجر، ثم إذا بالناس
يوسعون لعلي بن الحسين من تلقاء أنفسهم، فقال رجل من أهل الشام لهشام: من هذا؟ فخشي
هشام أن يتعلق به أهل الشام فقال: لا أعرفه. فقام الشاعر الفرزدق وقال: ولكني أعرفه. ثم أنشد:
هَذَا الَّذِي
تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ
|
|
وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ
وَالْحِلُّ وَالْحَرَمُ
|
هَذَا ابْنُ
خيرٍ عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمُ
|
|
هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ
الطَّاهِرُ الْعَلِمُ
|
وَلَيْسَ قَوْلُكَ:
مَن هذا؟ بضَائرِه
|
|
العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ
|
إِذَا رَأَتْهُ
قريشٌ قَالَ قَائِلُهَا
|
|
إِلَى مَكَارِمِ هَذَا
يَنْتَهِي الْكَرَمُ
|
مُشْتَقّةٌ مِنْ
رَسُولِ الله نَبْعَتُهُ
|
|
طَابَتْ مَغارِسُهُ والخِيمُ وَالشّيَمُ
|
(2)
وكان عبد الله بن عبد العزيز العمري قوالاً بالحق أمَّارًا
بالمعروف، وكان ذا هيبة وجلالة، وكان يقول: "إن من غفلتك عن نفسك، إعراضك عن الله
بأن ترى ما يسخطه فتجاوزه، ولا تأمر ولا تنهى، خوفًا من المخلوق، من ترك الأمر بالمعروف
خوف المخلوقين، نزعت منه الهيبة، فلو أمر ولده لاستخف به". وكان هارون الرشيد إذا ذهب مكة أو المدينة زاره
فطلب منه الموعظة أو فاجأه عبد الله فوعظه، فيتأثر الرشيد ويبكي، ولا يستطيع الرشيد -مهما اشتد عليه
بالكلام- إلا أن يرفق ويتلطف في الردِّ عليه، وشاء عبد الله مرة أن يذهب إلى بغداد
فتهيب الرشيد مجيئه؛ كأنما نزل به مائة ألف
من جيش العدو، وجمع العُمَريين وقال لهم: ما لي ولابن عمكم، احتملته بالحجاز، فأتى
إلى دار ملكي، يريد أن يفسد علي أوليائي، ردوه عني! فقالوا: لا يقبل منا. فأرسل الرشيد إلى أمير الكوفة موسى بن عيسى
أن يتلطف به حتى يرده فلا يصل إلى بغداد، وقد كان([4]).
(3)
اتخذ الإمام أبو إسحاق الفزاري لنفسه مهمة تربية وتعليم أهل
الثغور حيث المجاهدين، فذهب إلى المصيصة وأقام بها، وكانت في ذلك الوقت من أهم مدن
الثغور، ومع إمامته ومكانته صار يُذكر له هذا الفضل: "هو الذي أدب أهل الثغر،
وعلمهم السنة، وكان يأمرهم وينهاهم، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه، وكان كثير الحديث،
وكان له فقه". كما يُذكر له تعرضه لسلطان
–لعله والي المصيصة أو غيره- بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضُرب مائة سوط أو أكثر،
وأغلب الظن أن أبا حاتم الرازي كان يقصد ما فعل في الثغور حين قال: كان عظيم الغناء
في الإسلام([5]).
(4)
وفي عهد المعتضد بالله العباسي سَكِر أمير تركي؛ فلما مرَّت به امرأة حسناء راودها عن نفسها،
واستغاثت المرأة بالناس الذين حاولوا إنقاذها؛ ولكنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا أمام حراسة الأمير، الذين ضربوهم لا سيما رجل خياط تزعم محاولة
إنقاذ المرأة، فرجع الخياط إلى بيته جريحًا، ثم ألهمه الله أن يؤذن في منتصف الليل كأنه أذان الفجر،
فجاءته فرقة من الشرطة من عند الخليفة المعتضد فقبضوا عليه، وذهبوا به إلى المعتضد الذي هَدَّأ من روعه، وسأله: ما حملك على أن أذنت هذه الساعة، وقد
بقي من الليل أكثر مما مضى منه، فتَغِرُّ بذلك
الصائم والمسافر والمصلي وغيرهم؟! فحكى له الرجل
قصة الأمير التركي، فغضب غضبًا شديدًا، وأمر بإحضار الأمير والمرأة، ثم أوصل المرأة
إلى زوجها في حراسة ثقات منه، وأمرهم أن يقصوا
للزوج قصتها وأنها معذورة ليعفو عنها، ثم أمر بضرب الأمير التركي، كما ضرب من أمروه بالمعروف ونهوه عن المنكر،
ثم أُلْقِي به في نهر دجلة، وأمر الخياط أنه إذا رأى شيئًا فليدخل عليه في أي وقت؛ فإن منعه أحد من الحرس فليؤذن في أي وقت، فصار
هذا الخياط واسطة كل مظلوم له حق عند أي رجل من رجال الدولة، الذين كانوا يهابونه ويخافون من أذانه([6]).
(5)
وثمة موقف ينبغي إيراده ويحتاج لبعض التفصيل:
لقد كان الخلفاء الأوائل من بني العباس يفسحون للعلماء ويسمعون
منهم، هكذا كان المنصور والمهدي، ثم بلغ الأمر
غايته مع هارون الرشيد، الذي كان يكثر
القدوم على العلماء وطلب الموعظة منهم والتأثر بها، وبعد الرشيد وقعت الاضطرابات بين
الأمين والمأمون، وقد خَفَّف من حدة هذه الاضطرابات ما قام به الآمرون بالمعروف والناهون
عن المنكر، حتى جاء عهد المأمون فكثر في الناس من يتصدى للأمر والنهي حتى قام به الجهلاء
المجترئون، وحتى صار الشيوخ -لأنهم في زمن الفتنة وافتقاد الإمام- يحبسون ويعاقبون،
فمنع المأمون -بعد استقرار الأمور- أحدًا أن يقوم بالحسبة إلا بإذن، فمن وثق في علمه
أطلق له الإذن بهذا.
فمن الجهلاء المجترئين هذا الذي خرج على المأمون متحنطًا
متكفنًا، وكان هذا في إحدى الغزوات، فاتهمه بترك الخمر يُباع في المعسكر، وبارتكاب الحرام، وبتحريمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلما ناظره المأمون
تبين له أنه لا يعرف الخمر، ولا يُقَدِّر التدبير في الحرب فيظنه منكرًا ينهى عنه،
ثم سأله المأمون:
رأيتك لو أنك أصبت فتاة مع فتى في هذا الفج، قد خضعا على
حديث لهما، ما كنت صانعًا لهما؟ قال: كنت أسألهما: من أنتما؟ قال: كنت تسأل الرجل،
فيقول: امرأتي. وتسأل المرأة: فتقول زوجي. ما كنت صانعًا بهما؟ قال: كنت أحول بينهما وأحبسهما.
قال: حتى يكون ماذا؟ قال: حتى أسأل عنهما. قال: ومن تسأل؟ قال: كنت أسألهما من أين
أنتما؟ قال: أحسنت، سألت الرجل من أين أنت؟ قال: من أسبيجاب. وسألت المرأة، قالت: من أسبيجاب؛ ابن عمي تزوجنا وجئنا. أكنت حابسًا الرجل والمرأة
بسوء ظنك الرديء وتوهمك الكاذب، إلى أن يرجع الرسول من أسبيجاب، مات الرسول، أو ماتا
إلى أن يعود رسولك؟ قال: كنت أسأل في عسكرك؟ قال: فلعلك لا تصادف في عسكري من أهل أسبيجاب
إلا رجلاً أو رجلين، فيقولان لك: لا نعرف.
على هذا لبست الكفن يا صاحب الكفن؟! ما أحسبك إلا أحد رجال:
إما رجل مديون، وإما رجل مظلوم، وإما رجل تأولت في حديث أبي سعيد الخدري (وسرد الحديث
حتى بلغ) إلى قوله: "أَلَا إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ
سُلْطَانٍ جَائِرٍ". فجعلتني جائرًا
وأنت الجائر، وجعلت نفسك تقوم مقام الآمر بالمعروف وقد ركبت من المنكر ما هو أعظم عليك،
لا والله لا ضربتك سوطًا، ولا زدت على تخريق كفنك، ونُفِيتُ من آبائي الراشدين المهديين
لئن قام أحد مقامك، لا يقوم فيه بالحجة، لا نقصته من ألف سوط، وأمرت بصلبه في الموضع
الذي يقوم فيه"([7]).
فأما إن كان عالمًا بالمعروف والمنكر فلم يمنعه المأمون؛ فهذا أبو نعيم الفضل بن دكين رأى جنديًّا يلمس
امرأة في بغداد فصاح به وزجره، فأخذه الجندي
إلى الشرطة، ورفعت الشرطة أمره إلى
المأمون، فلما دخل على المأمون سلَّم عليه فردَّ المأمون السلام ردًّا ضعيفًا –وهي
علامة غضب- ثم جيء له بماء ليتوضأ فتوضأ على بصر المأمون، ثم صلى ركعتين أمامه، ثم
سأله المأمون أسئلة في الميراث، فأجاب عنها أبو
نعيم، فقال المأمون: "يا
هذا من نهى مثلك أن يأمر بالمعروف؟! إنما نهينا أقوامًا يجعلون المعروف منكرًا. قال:
فقلت: فليكن في ندائك لا يأمر بالمعروف إلا من أحسن أن يأمر به"([8]).
وما يهمنا من سرد هذه الأخبار هو القول بأن كل هذه المواقف
وغيرها، وباختلاف الأحوال وردود الأفعال -حتى التي وصل فيها الأمر إلى قتل السلطان
لمن ينصحه- فلا ريب أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد آتى ثماره، إن لم يكن بالاستجابة
المباشرة الفورية؛ فبما يلقيه من التردد
والحذر في نفس السلطان، فينعكس هذا على
عامة أعماله فيما بعد.
نشر في ساسة بوست
([2]) ونحن نعترف
بأن هذا التقسيم مجحف، ولا يعبر عن سمو المنهج الإسلامي؛ ولكننا لم نجد أفضل منه
في ظل المساحة المتاحة، وإذا ضربنا مثلاً فنقول: إن نصيحة فرد للحاكم قد جعلناها
ضمن المواقف الفردية، على الرغم من أنه ما كان لهذا الفرد أن يفعل ذلك لولا أن
النظام العام يسمح بمثل هذا؛ (في الفلسفات والمناهج السلطوية لم يكن الفرد العامي
يجرؤ على مناقشة الإمبراطور، ولم يكن الإمبراطور يتخيل أن شيئًا من هذا يجوز في
حقه)، وكذلك جعلنا عجز الحاكم عن إنفاذ أمره لتماسك المجتمع ضمن المواقف الجماعية،
في حين أنه يمكن –في كثير من الأحيان- إرجاع الفضل لا لقوة المجموع فحسب؛ بل
للتكوين الأخلاقي والنفسي لهذا الحاكم، الذي نزل عن إنفاذ أمره ولم يفكر في
استعمال طرائق غير شرعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق