لم تكن فرحة أنصار حزب العدالة والتنمية في تركيا بالفوز
بأقل من فرحة العرب والمسلمين، في تركيا وخارجها، بهذا الفوز نفسه. بل نقول: فرحة
العرب تزيد، فإن منهم اللاجئ ومنهم المطارد ومنهم من فقد الأمل في الحكام جميعا
ولم يعد ينظر بعين الأمل إلا إلى أردوغان.
وحيث ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، فإنه ليس أسوأ من
الهزيمة إلا الفشل في قراءة أسباب النجاح، وإذا كان يُقال: للنجاح آباء كُثُر، فإن
تفرق نسب النجاح بين الآباء لم نستطع أن نعرف أصله وسببه، ولم ندرك أين يكمن معدنه
وجوهره.. فإن كل ذي رأي يمدُّ سبب النجاح إلى رأيه ويبحث فيه عن هواه.
ولتهذيب وضبط القراءات المتعددة للتجربة التركية نكتب
هذه السطور:
(1)
العسكر الترك والعسكر العرب
بداية فإن الشبه الأساسي بين تركيا والبلاد العربية هو
في كونهما حُكِما بأنظمة استبدادية، ومثلما يرى العسكر أنفسهم في العالم العربي
أصحاب الدولة وأنها ملكهم يرى العسكر الترك ذلك، فعسكر تركيا يرون أنهم مؤسسو
الدولة الحديثة وأصحاب الانقلاب على الإرث العثماني "المتخلف" وأصحاب
معركة التحرير واستنقاذ البلاد من أنياب معاهدة سيفر التي كانت تقضي عليها عمليا،
ويفتخر العسكر حتى الآن بإنجاز لم يكونوا قد وُلِدوا حين تمَّ، هذا لو تجاوزنا كل
ما يثار من إشكاليات حول كونه إنجازا.
ورغم هذا الاتفاق فإن الفارق الكبير أن العسكر الترك
كانوا منذ ظهرت آفاق التحديث ذوي رأي وسياسة، فحين بدأت سياسة ما يُعرف بالتنظيمات
أو الإصلاحات في الدولة العثمانية كانت بدايتها في الجيش، وفي الجيش تكونت الحركات
التي انقلبت فيما بعد على الخلافة العثمانية، ومنذ تأسيس الجمهورية والجيش هو من
يحكم بسياسة علمانية واضحة وصريحة اشتبكت مباشرة مع نظام الخلافة ومع المجتمع
المسلم، فالعسكر التركي يرث ميراثا علمانيا هو من أسسه ورعاه وصار ذا خبرة في
معاركه.
بينما العسكر العرب جهلاء بلا فكر ولا رؤية ولا لهم دور
في بناء دولهم ولا خاضوا معارك تحرير حقيقية يمكنهم أن يستمدوا منها شرعيتهم أو
يفهموا بها معنى الصراع الحضاري، بل إن عامة سيرتهم هو أنهم ورثوا البلاد من
احتلال أجنبي سابق، هذا الاحتلال هو من قام بمهمة المواجهة مع المجتمع المسلم
ونظامه ومؤسساته ثم قهر البلاد والعباد ثم أورثهم إياها جاهزة ممهدة قد استقرت
فيها العلمانية على مستوى النخب.. فكانت سيرة العسكر العرب في بلادهم أسوأ من سيرة
الاحتلال نفسه.
ولذلك فبقدر ما يتصرف العسكر العرب تماما كأذيال للغرب
بلا أدنى رؤية ولا فكر، بقدر ما يرى العسكر الترك أنفسهم أصحاب عقيدة ورأي في وضع
تركيا وخياراتها ومصيرها! ولذلك آثار بعيدة على التعامل مع المدنيين!
(2)
المشهد الديمقراطي
بينما وقعت عدد من البلاد العربية تحت نمط الحكم
الشيوعي، كانت تركيا واقعة تحت نمط الحكم الغربي الرأسمالي، وكانت تركيا خط دفاع
متقدم للمعسكر الغربي بوجه المعسكر الشرقي، وكان من ضرورات هذا الصراع أن يقوم في
تركيا "مشهد ديمقراطي" يحتوي على أحزاب وتعددية وانتخابات نزيهة، فيما
يغيب هذا المشهد بالكلية عن البلاد العربية فيكون استبدادها فجًّا غليظًا متوحشا
لا يتجمل ولا يتزين.
من هنا فرضت الرغبة الغربية أن يكون في تركيا أحزاب
وانتخابات نزيهة وسلطة تُتَداول، مع الاحتفاظ للعسكر بحقهم في "تصحيح مسار
الديمقراطية" إن جاءت على خلاف العلمانية، لذلك لا تعرف تركيا تزوير
الانتخابات، بل تعرف تداول السلطة وتعدد الأحزاب والتنافس الحقيقي على مواقع
الحكومة، ولكن في ذات الإطار الغربي الذي يجعل الناس تحت سقف العلمانية وحكمها
ويطحن المجتمعات التقليدية غير المعلمنة ويهمشها ويزيحها إلى أطراف المجتمع.
بينما ظل العالم العربي محكوما بجثة عسكري أو ملك حتى
يتعفن، بلا أحزاب ولا مشهد ديمقراطي ولا تداول سلطة ولا انتخابات نزيهة، ولئن كان
ثمة انقلابات عسكرية فإنها ليست لحماية العلمانية بل هي صراع أجنحة داخل العلمانية
نفسها، وهو صراع ممدود إلى حبل أصله في الخارج.
(3)
الحركة الإسلامية: احتواء وممارسة
وكان من آثار هذا على الحركة الإسلامية أن اختلفت اتجاهاتها
بين تركيا والعالم العربي، ففي العالم العربي حيث الأفق السياسي منغلق تماما اتجهت
الحركة الإسلامية إلى المواجهة المسلحة مع الأنظمة أو ظلت تدور تحت السقف السياسي
المسموح به، وفي كل الأحوال ظلت الحركة الإسلامية بعيدة تماما عن السلطة الحقيقية
ودهاليزها وفهم خريطتها، فأعلى ما حققوه أن تكون لهم حكومة بلا صلاحيات تحت ظل
سلطة تسيطر على المال والعسكر والأمن (مراكز القوى الحقيقية لأية سلطة) بينما
كانوا نزلاء السجون وضيوف المشانق كثيرا وطويلا.
بينما كان الحال على النقيض في التجربة التركية، فبرغم
الانقلابات العسكرية الكثيرة (حتى لقد وصفت تركيا بأنها بلد الانقلاب العسكري كل
عشر سنوات) إلا أن الإسلاميين هناك وصلوا إلى السلطة غير مرة ضمن حكومات ائتلافية،
كما تولوا بلديات مهمة بصلاحيات حقيقية، ولذلك كانوا ممارسين بالفعل للسلطة وأقدر
على فهم خريطتها والتعامل معها. ومن ناحية أخرى كانوا دائما تحت احتواء النظام إذ
لم يبدُ منهم أي محاولة حقيقية للتحول نحو السلاح ومواجهة النظام القائم بالخروج
عليه.. كانت العملية الديمقراطية (نصف الشكلية) تستطيع دائما استيعاب الطاقة
الإسلامية ومنعها من الذهاب نحو أن تكون ضد النظام. إلا أن العملية الديمقراطية
ذاتها سمحت بوصول من وضع نفسه الآن في موضع يبدو معه أنه صار عصيا على الانقلابات
العسكرية وأنه يستطيع أن يحمي تجربته مما شهدته التجارب السابقة.
(4)
العلمانية الشعبية
ليس سرا أن تركيا كانت تجربة لبناء "الإسلام
المعتدل" أمريكيا، وهو الإسلام الذي يمنح الناس حرية العبادة الشعائرية
والتعبير عن الرأي بينما تبقى الخيارات الحضارية الكبرى رأسمالية غربية علمانية
تامة. وأغلب الظن أن ما فعله أردوغان عبر هذه التجربة قد جعلت الأمريكان يعدلون عن
تكرار هذه التجربة، بدليل ما فعلوه في مصر مع الإخوان الذين أعلنوا بوضوح أنهم
يتوقون لتطبيق النموذج الأردوغاني.
لكن ثمة فارقا كبيرا يجعل تطبيق التجربة عسيرا في البلاد
العربية، فمما لا يُنتبه له في الشأن التركي أنه قد جرت عملية ضخمة لتحويل الأتراك
وفصلهم عن جذورهم، وقد استمرت هذه العلمانية لثلاثة أرباع القرن تعمل بكل شراسة
وهي تملك إمكانيات السلطة المركزية الضخمة.. إلا أن أصعب ما جرى في هذا السياق هو
تغيير اللغة الذي شمل حروفها وكثيرا من ألفاظها كذلك، فهنا صارت القطيعة بين الشعب
التركي وتراثه قطيعة كبرى تبدو عملية علاجها مستحيلة.. فإذا وضعنا هذا مع عامليْن
آخريْن هما (عدم تعرب الدولة العثمانية، وكون التدين التركي صوفيا) أمكن أن نتصور
مدى الفجوة التي حدثت بين الإسلام كما هو في مصادره الأصلية وبين الإسلام كما
أرادت له السلطة العلمانية أن يكون.
لقد أثمر كل هذا نجاحا ملموسا للعلمانية داخل الشعب
التركي (لا طبقة النخبة)، فصار طبيعيا جدا أن ترى في تركيا من يحافظ على الصلوات
الخمس في المسجد ثم ينتخب حزب الشعب الجمهوري العلماني الأتاتوركي، وأن ترى من لا
يشرب الخمر ويكرهها ولكنه يتخوف بجد من أن الإسلاميين قد يمنعونها فهي حرية شخصية
(والحرية الشخصية مقدسة)، وأن ترى متحجبة متمسكة بالحجاب لكن سلوكها في حجابها لا
يختلف عمن تعتنق العلمانية!
هذه النماذج لا تكاد توجد في العالم العربي، بل الناس في
أرض العرب منقسمون إلى مسلمين وطبقة علمانية متغربة، وإن كانت أفكار العلمنة تزحف
رويدا رويدا في بلادنا فتكتسب جمهورا جديدا من الطبقة الوسطى، إلا أن نجاح
العلمانية في عالمنا العربي شعبيا لا يمكن أن يقارن بنجاحه في تركيا.
ولست أعني هنا أن عموم الشعب التركي صار متعلمنا،
إطلاقا، فما يزال الترك من أصلب الناس إسلاما وحمية للدين، وإنما يكثر التشوش في
مسائل العلمانية والحكم ومساحة الدين بالنسبة للسلطة، وثمة مناطق –مثل اسطنبول
وأنقرة وإزمير وبعض المدن الساحلية- صارت العلمانية فيها نمطا معتادا، حتى يُسأل
الشاب هناك: من تنتخب؟ فيقول: حزب الشعب الجمهوري. فيقال له: لماذا؟ فيقال: هذا تقليدنا
في العائلة!
نشر في تركيا بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق