لم يزل الحديث موصولا في إلقاء الضوء حول طبيعة المجتمع
الإسلامي، وكيف صنع الإسلام من العرب البدو الرعاة خير أمة أخرجت للناس.
وقد بدأنا الحديث –في المقالات السابقة- عن منهج الإسلام في بناء الأمة، ثم أتبعناه بأن هذا
المنهج لم يكن مجرد فلسفة ونظريات بل تحول إلى واقع عملي وإلى بشر يطبقونه في
حياتهم.
ومن أهم خصائص هذا المنهج في تكوين الفرد وبناء النظام العام
أنه يجعل الفرد -في نفسه- مستشعرًا للمسئولية ومنبعثًا لحركة الإصلاح، ويجعل النظام
العام مهيَّأً وقابلاً للإصلاح والتغيير. وقد ذكرنا في المقال السابق كيف كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشبه بالطبيعة
في المجتمع الإسلامي يقوم بها الأفراد والمجموعات من تلقاء أنفسهم، والتقطنا عشرة
مواقف للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر: خمسة منها فردية ذكرناها في المقال
السابق، وتركنا لهذا المقال الخمسة مواقف الجماعية.
(1)
أول ما نعرف من مجموعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مجموعة كَوَّنها الصحابي هشام بن حكيم بن حزام t؛ إذ جمع حوله نفرًا من أهل الشام، وكانوا يسيحون في الأرض يأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر؛ ليس لأحد عليهم إمارة،
وقد تفرغ هشام t لهذه المهمة؛ حتى لم يتخذ زوجة ولا ولدًا، وكان مهتمًّا بالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر منذ عرف الإسلام -أسلم يوم فتح مكة- حتى صار معروفًا ومشهورًا بهذا
في زمن عمر بن الخطاب t، الذي كان إذا بلغه منكر قال: أما مَا بقيت أنا
وهشام بن حكيم فلا يكون ذلك. وكأن عمر بن الخطاب
t قد أطلق يده؛ إذ كان هشام بن حكيم يهدد الوالي في مدن الشام إذا أراد
فعل شيء من المنكر أنه سيكتب إلى عمر بهذا فيمتنع، وقد رأى يومًا عياض بن غنم -وكان
والي حمص- أوقف ناسًا من أهل الذمة في الشمس؛ لأنهم لم يدفعوا الجزية، فواجهه بحديث النبي r: "إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ
النَّاسَ فِي الدُّنْيَا"([1]).
(2)
وقد كانت قوة القبائل والعشائر تقف أمام الحكام عبر التاريخ
الإسلامي، وقد قلنا فيما سبق: إن الإسلام جاء
بتقوية الروابط بين الناس حتى يصير المجتمع جسدًا واحدًا؛ فيمتنعوا بهذا من ظلم الحكام؛ بل وتنفذ إرادتهم في بعض الأمور وعلى رغم أنف الحاكم أحيانًا،
وبهذا يوضع جهد كل قبيلة قوية -كانت قوتها سببًا في إقرار الأمور وتوازن القوى بينها
وبين السلطة- في هذا الباب، فمن ذلك مواجهات الأحنف بن قيس التميمي لمعاوية بن أبي
سفيان t، ومنها قول معاوية له: "والله يا أحنف
ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزازة في قلبي إلى يوم القيامة. فقال له الأحنف: والله يا معاوية إن القلوب التي أبغضناك
بها لفي صدورنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادها، وإن تَدْنُ (أي: تقترب)
من الحرب فترًا نَدْنُ منها شبرًا، وإن تَمْشِ إليها نُهَرْوِلْ إليها. ثم قام وخرج، وكانت أخت معاوية من وراء حجاب تسمع كلامه، فقالت: يا أمير المؤمنين، من هذا الذي يتهدد
ويتوعد؟ قال: هذا الذي إذا غَضِبَ
غَضِبَ لِغَضَبِهِ مائة ألف من بني تميم لا يدرون فيم غضب؟"([2]).
(3)
كانت بغداد في ختام القرن الثاني الهجري ومطلع القرن الثالث
الهجري مسرحًا للاضطرابات والانفلات الأمني، فلقد قُتِل الأمين لكن المأمون ظل في مرو، ولم يقدم إلى بغداد، وشاع في أهل بغداد أن الفضل
بن سهل –الوزير الفارسي- هو المسيطر على المأمون وهو المتحكم على الحقيقة، فرفض أهل
بغداد أن يظل الخليفة خارج بغداد وتحت سيطرة فارسي غير عربي، ثم رفضوا الحسن بن سهل
-أخا الوزير الفارسي- واليًّا عليهم، وشاع التمرد على المأمون من الناس ومن فرق الجيش
كذلك، فعاشت بغداد أجواء الانفلات الأمني والسرقات وقطع الطرق واختطاف النساء والأطفال
وفرض الإتاوات على الناس. كانت العصابات تأتي الرجل فيسألونه مالاً، فإذا رفض أخذوا
جميع ما في منزله، وربما تعرضوا للغلمان والنسوان، ويأتون أهل القرية فيستاقون من الأنعام
والمواشي ويأخذون ما شاءوا من الغلمان والنسوان، ونهبوا أهل قطربل ولم يدعوا لهم شيئًا
أصلاً.
فانبعث رجلان؛ وهما: خالد الدريوش،
وسهل بن سلامة الأنصاري؛ فكَوَّنا
"لجانًا شعبية" لحماية الناس، وانضم إليهم متطوعون، فكانوا يقبضون على اللصوص
وقطاع الطريق فيعاقبونهم أو يحبسونهم ثم يسلمونهم للسلطان، وقد استطاعت هذه "اللجان
الشعبية" إنهاء حالة الفوضى بعد استمرارها نحو العام (شعبان، رمضان 200 هـ - شعبان،
رمضان 201هـ)([3]).
(4)
في واحدة من لحظات انهيار الأندلس –بعد سقوط دولة الموحدين-
في الربع الأول من القرن السابع الهجري، كان المشهد على هذا النحو:
اقتتال أمراء البيت الموحدي وثورة بعضهم على بعض، يتحالف
بعضهم مع النصارى ضد إخوانه في النسب والدين ليحفظ الملك لنفسه، ثم يثور على هؤلاء
مغامرون آخرون، والنصارى يأكلون الأندلس قطعة قطعة ويأخذون –عبر شروط التحالف- ما لا
يمكنهم أن يأخذوه بكل السيوف، وكان المستولي على شرق الأندلس يُدعى أبو جميل زيان الذي
ما كاد يخرج من صراعاته مع زعماء التمرد حتى دهمه خايمة الأول (ملك أرجون، الذي لجأ
إليه أمير بلنسية السابق أبو زيد عبد الرحمن الموحدي، وبلغ من خيانة هذا الأمير أن تنازل للصليبي عن ما كان يملكه
من أرض الأندلس، بل لقد تنصر هو نفسه وصار منهم)، ولكن أبا جميل بدل أن يقاتل سار في
مسار التسليم، فنهض أهل بلنسية بأنفسهم وبقيادة علمائهم وعلى رأسهم الإمام سليمان الكلاعي –شيخ المحدثين في ذلك الوقت- فأنشبوا معركة
هائلة بإمكانياتهم المحدودة وتسليحهم الخفيف ضد النصارى، وحمل الكلاعي راية المسلمين، وظلوا يجاهدون، لكن ميزان المعركة أسفر عن التفوق
الكبير للنصارى، فثبت الكلاعي في قلة ممن
معه، وصار ينادي في الناس: "أعن الجنة تفرون؟!" فما زال كذلك
حتى نال الشهادة (الخميس 20 من ذي الحجة 634هـ) بعد أن أعذر هو ومن معه إلى ربهم([4]).
(5)
أراد الظاهر بيبرس البندقداري الاستيلاء على أموال وأملاك
الأوقاف؛ ليغطي بها تكاليف الحرب
مع المغول، فقرَّر أن يسأل صاحب الوقف عن مستنده؛ فإن وجده تركه وإلا استولى عليه، فوقف أمامه في هذا جمع
العلماء يتقدمهم الإمام النووي، الذي كان صلبًا
راسخًا في وجهه، واشتدت بينهم المراسلات والمكاتبات؛ حتى بلغ الأمر في المواجهة الأخيرة أن قال له النووي:
"أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار، وليس لك مال، ثم مَنَّ الله عليك وجعلك
ملكًا، وسمعت أن عندك ألف مملوك، وكل مملوك له حياصة([5]) من ذهب، وعندك
مائتا جارية، لكل جارية حقٌّ من الحلي، فإذا أنفقت ذلك كله، وبقيت مماليك بالبنود الصوف
بدلًا عن الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي، أفتيتك بأخذ المال من الرعية". فأمره الظاهر بالخروج من دمشق، وهنا وقف له
الفقهاء وقالوا: "إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا، وممن يقتدى به، فأعده إلى
دمشق". واضطرَّ الظاهر تحت ضغط
موقف العلماء أن يكتب برجوعه، لكن النووي رفض الرجوع، وصارت أزمة بليغة جاء حلها من
السماء بوفاة الظاهر بيبرس بعد شهر من هذه الواقعة، وحُفِظت بهذا الموقف أموال المسلمين
وأوقافهم قرونًا أخرى([6]).
فتلك عشرة مواقف،
خمسة فردية وخمسة جماعية، تعطي لمحات عن تحمل المسئولية لدى أفراد الناس وجماعاتهم،
تجاه من يعرفون ومن لا يعرفون؛ سواء أكانوا من
العامة أم من الحكام والمتسلطين، وهي من المواقف التي تحدث اتفاقًا بدافع الظروف وتطور
الحدث لا تحتاج ترتيبًا أو تهيئة طويلة، فأما ما كان يحتاج هذه التهيئة وهذا الترتيب
فنجعله إن شاء الله في المقال القادم.
نشر في ساسة بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق