ذكرنا في المقال الماضي أن الخلاف بين الإسلام والغرب يعود في جذوره إلى
"قصة الدين" وموقعه في حضارة كلا الطرفين، وخلاصته أن الفارق بين
المسيحية بالنسبة للغرب وبين الإسلام بالنسبة للمسلمين ليس مجرد فارق بين دينين،
ولا بين نظامين، بل هو فارق تأسيسي خطير؛ فالمسيحية جزء من الروح الغربية والإسلام
هو كل الروح الإسلامية، والمسيحية تركز على عالم الملكوت وكل تغيير يتم في هذا
العالم يُعدّ خصما من رصيد الآخرة، بينما الإسلام يرى أن النجاح في الآخرة مبني
على النجاح في الدنيا ومرتبط به، وأن بذل المجهود في إقامة مملكة الله في الدنيا
هي الطريق لنيل ملكوت الله في الآخرة.
وقد ترتب على هذا كثير من الخلافات الجذرية الأخرى، منها
ما نتناوله في هذه السطور القادمة، وهو خلاف الربانية والبشرية.
إن الثلاثية التي بُنِي عليها الغرب بشرية: الفلسفة
اليونانية، الحضارة الرومانية، المسيحية. فحتى المسيحية انحرفت مبكرا عما أتى به
المسيح، وصار البابا في مرحلة لاحقة يملك تحريم ما كان حلالا أو تحليل ما كان
حراما، ويملك أن يغفر الذنوب وأن يحرم من الصلاة وأن يتاجر في أرض الجنة.
بينما الأمة الإسلامية وحضارتها بُنِيَت على أمر واحد:
الإسلام، وهو رباني، وقام على تطبيقه رسول معصوم حتى اكتملت مهمته، ولم يعد
للعلماء من دور إلا التبيين والشرح والتفسير والتوجيه وكل ما من شأنه إقامة الدين
دون صلاحية في تحليل أو تحريم أو تبديل للدين، وهم طائفة لا تملك السيطرة على نفوس
الناس، كما ليس لهم كهنوت ولا أسرار ولا مؤسسة مقدسة، وظل علماؤنا لأجيال طويلة
يجمعون بين علوم الدين والدنيا حتى قال إرنست بلوك: "كاد كل عالم أن يكون
طبيبا أيضا"[1].
وقد أثمر هذا عددا من الفوارق المؤثرة بين السيرة
الغربية والسيرة الإسلامية، أبرزها كما نرى:
أولا: أن حضارتنا
حضارة مركزية بينما حضارة الغرب طردية[2]،
فحضارتنا ترجع إلى نصٍّ معصوم متجاوز تستلهمه وتسترشد به وتريد تحقيقه على الوجه
الأمثل، بينما حضارة الغرب -وخصوصا بعد العلمانية- تسير باطراد في مسار لا يحكمه
نص ولا يرجع إلى قاعدة أو أساس، وهو ما وصفه د. عبد الوهاب المسيري في مؤلفاته
بالسيولة، حيث لا مقدس ولا معصوم، ولا معيار يُرجع إليه أو يُقاس عليه.
ثانيا: وهذا يستلزم
أن لحظة الذروة عندنا قد حدثت ونحاول دائما الاقتراب منها والعودة إليها وتكرارها،
فعصر النبوة والخلافة الراشدة هو أفضل العصور في تمثل الإسلام، وأهله هم "خير
القرون". بينما لحظة الذروة في الحضارة الغربية ما تزال لم تتحقق، وهي تتحقق
بمزيد على السيطرة والتحكم المادي في كل الإنسان حتى أخلاقه وسلوكه ورغباته
ومشاعره، هي عند الماديين اللحظة التي يكون فيها الإنسان –أو على الأدق: الإنسان
الغربي وحده- إلها يعرف كل شيء عن هذا العالم ويتحكم فيه.
والفارق الحقيقي بين النظرتين وما يتولد عنهما من
طموحيْن، هو الفارق بين أرحم الناس وأحلمهم وأزهدهم وأرفقهم بالناس، كما كان حال
الصحابة، وبين أقسى الناس وأشرسهم وأعنفهم وأشدهم تدميرا وطغيانا، كما يتمنى نيتشه
في فلسفته عن السوبر إنسان الذي لا يعرف الرحمة ولا الشفقة[3]
وفوكوياما في عصر ما بعد التاريخ، حيث تُعزل الشعوب الأخرى خلف خط حديدي، وتعيش
الشعوب الحرة عصرا يعترف بأنه سيكون عديم الشجاعة والطموح والإبداع[4]!
فيما تكون القوة هي وسيلتهم في التعامل مع الشعوب الأخرى[5].
حتى تصوراتهم وأحلامهم بشعة!!
ثالثا: إن الفارق
بين الربانية والبشرية، ووجود المركز (النص الإلهي المعصوم) الذي يمثل المعيار
والمرجع الذي يُرجع إليه ويُقاس عليه يثمر فوارق نظرية وعملية في غاية الخطورة؛
منها هذا الفارق بين "الشريعة" و"القانون"؛ إذ إن "مهمة
القانون الوضعي صياغةُ ما تعارف عليه الناس من أوضاع ومعاملات وتقاليد في صورة
مواد تشريعية، مهما يكن في هذه الأوضاع والأعراف من فساد وانحراف، ومهما يكن
وراءها من إضرار بالجماعة وبالأمة وبالإنسانية. فالقانون مرآة تعكس صورة الأمة
صلاحا وفسادا ورقيا وهبوطا واستقامة وانحرافا، أما الشريعة فمهمتها أن ترقى بالأمة
وتأخذ بيدها وتعينها على التحرر من ضغط الأنانية والشهوات وأسر التقاليد الفاسدة
والأعراف الضارة. بينما مهمة الشريعة أن تُقَوِّم عوج الأمة وتصلح ما فسد منها لا
أن تبرر ضعفها وانحرافها، وتضفي عليه صبغة شرعية أو قانونية، إنما تقر الصالح
والنافع فقط مما تواضعت عليه الأمة. وفي هذا نجد بونا شاسعا بين الشريعة الإسلامية
والقانون الروماني، فالشريعة جاءت بـ "تقنين الأخلاق" أي جعل الأوامر
والأحكام الأخلاقية قوانين ملزمة، أما القانون الروماني فقام على أساس "تقنين
العادات" أي صياغة ما تعارف عليه الناس من أوضاع وتقاليد في صورة قوانين، وما
أعظم الفرق بين الأمرين"[6].
ولقد كان نيتشه صادقا تماما وهو يعبر عن القانون في
الفكر الغربي بأنه "تعبير عن رغبات الأقوياء"، بينما الشريعة في الإسلام
هي دين نزل من عند الله، لا يملك أحد التلاعب بها، ويحرسها المسلمون كجزء من
حراستهم لدينهم، كلما هلك في سبيلها قوم نهض آخرون!
رابعا: ومنها هذا
الفارق بين "المعيارية" و"الوضعية" في العلوم الاجتماعية، إذ
انقلب الفلاسفة في العصر الحديث على كل معيار ومرجع، وأرادوا دراسة الإنسان كما
يدرسون المادة، يقول أوجست كونت مؤسس المذهب الوضعي: "ما دمنا نفكر بشكل وضعي
في مادة علم الفلك أو الفيزياء، لم يعد بإمكاننا أن نفكر بطريقة مغايرة في مادة
السياسة أو الدين، فالمنهج الوضعي الذي نجح في علوم الطبيعة يجب أن يمتد إلى كل
أبعاد التفكير"[7].
وإذا أخذنا "الأخلاق" كمثال، فسنجد أن كل التاريخ الفكري يتعامل مع علم
الأخلاق باعتباره من العلوم المعيارية؛ بمعنى أنه لا يدرس ما هو كائن، بل ما ينبغي
أن يكون[8]؛
ولذا فمهمته هي وضع الشروط التي يجب توافرها في الإرادة الإنسانية وفي الأفعال الإنسانية؛
لكي تصبح موضوعا لأحكامنا الأخلاقية[9].
حتى جاء القرن التاسع عشر وظهرت مدرسة في فرنسا تنظر إلى علم الأخلاق باعتباره تفسير
ما هو كائن، لا باعتباره معيارا لما ينبغي أن يكون[10]،
وصارت الأخلاق لديهم تساوي "القواعد السلوكية التي تسلم بها جماعة من الناس في
حقبة من حقب التاريخ"، فنزعوا عن القيم الأخلاقية فكرة الثبات والدوام[11].
ومن أجمل ما قرأت في وصف هذا الفارق ما قاله المفكر
المجاهد علي عزت بيجوفيتش: "إن المساواة والإخاء بين الناس ممكن فقط إذا كان الإنسان
مخلوقًا لله، فالمساواة الإنسانية خصوصية أخلاقية وليست حقيقة (مادية)، إن وجودها قائم
باعتبارها صفة أخلاقية للإنسان، كسمو إنساني أو كقيمة مساوية للشخصية الإنسانية، وفي
مقابل ذلك إذا نظرنا إلى الناس من الناحية المادية فالناس غير متساوين... فطالما حذفنا
المدخل الديني من حسابنا سرعان ما يمتلئ المكان بأشكال من اللا مساواة: عرقيًّا وقوميًّا
واجتماعيًّا وسياسيًّا. إن السمو الإنساني لم يكن من المستطاع اكتشافه بواسطة علم الأحياء
أو علم النفس أو بأي علم آخر"[12].
ويشهد جوستاف لوبون بأن "العرب يتصفون بروح المساواة
المطلقة وفقًا لنُظمهم السياسية، وأن مبدأ المساواة الذي أعلن في أوربا -قولاً لا فعلاً-
راسخٌ في طبائع الشرع (الإسلامي) رسوخًا تامًّا، وأنه لا عهد للمسلمين بتلك الطبقات
الاجتماعية التي أدَّى وجودها إلى أعنف الثورات في الغرب ولا يزال يؤدي"[13].
والخلاصة باختصار: أن الربانية تحسم الإجابات عن
أسئلة ربما تنقضي فيها القرون وتهلك فيها العقول قبل التوصل إلى إجابات حاسمة
فيها، سواء على مستوى تعريف القيم الكبرى كالتقدم والسعادة والأخلاق، أو على مستوى
تعريف وضبط الغايات والعلاقات والسلوكيات تجاه الكون والإنسان والكائنات، أو على
مستوى القرارات الصغيرة كالاتحاد والتفرق، فوحدة الأمة ليست مجرد قرار تحركه
المصلحة كما فعل الغرب في الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي، ولا تفرقها إلى
قوميات هو قرار كما في معاهدة وستفاليا، بل الاتحاد فرض ديني والتفرق حرام.. وعلى
هذا فقِس الفوارق الكبرى بين الربانية والبشرية.
لقد عملت "الربانية" على بقاء عالم الإسلام
ثابتا على أصوله الكبرى متمسكا بها وإن ضعف طامحا إلى استعادة مجده القديم وإن طال
عليه الأمد، بينما كان أثر "البشرية" واسعا، فلقد "انتقلت أوروبا
من دين بلا حضارة إلى حضارة بلا دين! ومن دين بلا علم إلى علم بلا دين! ومن دين
يقتل حيوية الناس بالرهبانية السلبية وإهمال عمارة الأرض إلى حيوية عارمة تقتل
الدين! ومن فكر يعتقد الثبات في كل شيء ويرفض إحداث أي تغيير في جانب من الحياة
لأنه يخالف سنة الثبات، إلى فكر يعتقد التطور في كل شيء ولا يقر الثبات في شيء على
الإطلاق"[14].
نشر في الخليج أون لاين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق