روى
ابن المقفع في رائعته "كليلة ودمنة" أن ملكا سأل فيلسوفا أن يحكي له قصة
من اضطر إلى صداقة عدوه لينجو بذلك من عداوة آخرين، فقص عليه الفيلسوف قصة جمعت
بين أنواع الصداقة والعداوة، وكيف تستحيل كل منهما إلى الأخرى، وكيف ينبغي أن تكون
سياسة المرء في صداقة من اضطر إلى صداقته.. فتلك هي قصة السنور والجرذ، نسوقها
إليك باختصار، فتأملها فإن فيها من حِكَم السياسة والحياة شيئا بديعا:
زعموا
أن شجرة عظيمة كان في أصلها جُحْر سِنُّور، وكان قريباً منه جُحْر جرذ، فنزل ذات يوم
صيادٌ فنصب حبالته قريباً من موضع السنور فوقع فيها. فخرج الجرذ على عادته فوجد
السنور في الفخ، فسُرَّ واستبشر، لكنه التفت فرأى خلفه ابن عرس يريد أخذه، وفي الشجرة
بومًا يريد اختطافه، فتحيّر في أمره، وخاف إن رجع أخذه ابن عرس، وإن ذهب يمينًا أو
شمالاً اختطفه البوم، وإن تقدم أمامه افترسه السنور.
فقال
في نفسه: هذا بلاء قد اكتفني، ولست أرى لي من هذا البلاء مخلصاً إلا مصالحة السنّور،
فإنه قد نزل به من البلاء مثل ما قد نزل بي، ولعل إن سمع كلامي الذي أكلّمه به، ووعى
عنّي فَصِيحَ خطابي، ومحض صدقي الذي لا خلاف فيه، ولا خداع معه ففهمه، وطمع في معونتي
إياه، نَخلُصْ جميعاً.
فدنا
من السنّور فقال له: كيف حالك؟
قال
السنور: كما تحب؛ في ضنك وضيق.
قال:
وأنا اليوم شريكك في البلاء، ولست أرجو لنفسي خلاصاً إلا بالذي أرجو لك فيه الخلاص
وكلامي هذا ليس فيه كذب ولا خديعة وابن عرس ها هو كامنٌ لي، والبوم يرصدني وكلاهما
لي ولك عدوٌّ فإن جعلت لي الأمان، قطعت حبائلك، وخلّصتك من هذه الورطة فإذا كان ذلك
تخلّص كل واحد منّا بسبب صاحبه: كالسفينة والركاب في البحر: فبالسفينة ينجون وبهم تنجو
السفينة.
فلما
سمع السنور كلام الجرذ وعرف أنه صادق قال له: إن قولك هذا لشبيه بالحق وأنا أيضاً راغب
فيما أرجو لك ولنفسي به الخلاص. ثم إنك إن فعلت ذلك فسأشكر لك ما بقيت.
قال
الجرذ: فإني سأدنو منك فأقطع الحبائل كلها إلا حبلاً واحداً أبقيه لأستوثق لنفسي منك.
ثم أخذ
في قرض حبائله، فلما رأى البوم وابن عرس دُنُوّ الجرذ من السنور يأسا منه وانصرفا،
ثم إن الجرذ أبطأ على السنور قطع الحبائل.
فقال
له: مالي لا أراك مُجِدًّا في قطع حبائلي؟ فإن كنت قد كنت ظفرت بحاجتك فتغيرت عما كنت
عليه، وتوانيت في حاجتي فما ذلك من فعل الصالحين؛ فإن الكريم لا يتوانى في حق صاحبه.
وقد كان لك في سابق مودتي من الفائدة والنفع ما قد رأيت. وأنت حقيق أن تكافئني بذلك
ولا تذكر العداوة التي بيني وبينك، فالذي حدث بيني وبينك من الصلح حقيق أن ينسيك ذلك
مع ما في الوفاء من الفضل والأجر وما في الغدر من سوء العاقبة، فإن الكريم لا يكون
إلا شكوراً غير حقود تنسيه الخلة الواحدة من الإحسان الخلال الكثيرة من الإساءة،
وإن أعجل العقوبة عقوبة الغدر ومن إذا تُضُرِّع إليه وسُئِل العفو فلم يرحم ولم يعفُ
فقد غدر.
قال
الجرذ: إن الصديق صديقان: طائع ومضطر وكلاهما يلتمسان المنفعة ويحترسان من المضرة فأما
الطائع فيُسْتَرسَل إليه ويُؤْمَن في جميع الأحوال، وأما المضطر ففي بعض الأحوال يُسْتَرسَل
إليه وفي بعضها يُتَحَذَّر منه، ولا يزال العاقل يرتهن منه بعض حاجاته لبعض ما يتقي
ويخاف. وأنا وافٍ لك بما جعلتُ لك ومحترسٌ منك مع ذلك من حيث أخاف أن يصيبني منك مثل
ما كنت أخاف من ابن عرس والبوم، ومثل خوفك أنت من الصياد. وأنا قاطع حبائلك كلها غير
أني تارك عقدة واحدة أرتهنك بها ولا أقطعها إلا في الساعة التي أعلم أنك فيها عني مشغول:
وذلك عند معاينتي الصياد.
ثم إن
الجرذ أخذ في قطع حبائل السنور. فبينما هو كذلك إذ وافى الصياد فقال له السنور: الآن
جاء الجد في قطع حبائلي. فأجهد الجرذ نفسه في القرض حتى إذا فرغ وثب السنور إلى الشجرة
على دهش من الصياد ودخل الجرذ بعض الأحجار وجاء الصياد فأخذ حبائله مقطعةً، ثم انصرف
خائباً.
ثم إن
الجرذ خرج بعد ذلك، وكره أن يدنو من السنّور، فناداه السنّور:
أيها
الصديق الناصح، ذو البلاء الحسن عندي، ما منعك من الدنوِّ إليّ، لأجازيك بأحسن ما أسديت
إليّ، هلمَّ، إليَّ ولا تقطع إخائي، فإنه من اتخذ صديقاً وقطع إخاءه وأضاع صداقته،
حُرِمَ ثمرة إخائه وأيس من نفعه الإخوان والأصدقاء. وإن يدك عندي لا تُنْسَى، وأنت
حقيقٌ أن تلتمس مكافأة ذلك مني ومن إخواني وأصدقائي. ولا تخافنّ مني شيئاً. واعلم أن
ما قِبلي لك مبذولٌ. ثم حلف واجتهد على صدقه فيما قال.
فناداه
الجرذ: ربَّ صداقة ظاهرة باطنها عداوة كامنة. وهي أشد من العداوة الظاهرة. ومن لم يحترس
منها، وقع موقع الرجل الذي يركب ناب الفيل المغتلم ثم يغلبه النعاس فيستيقظ تحت فراسن
الفيل، فيدوسه ويقتله. وإنما سمي الصديق صديقاً: لما يرجى من نفعه، وسمي العدو عدواً:
لما يخاف من ضرره. والعاقل إذا رجا نفع العدو أظهر له الصداقة، وإذا خاف ضرّ الصديق
أظهر له العداوة. وربما قطع الصديق عن صديقه بعض ما كان يصله، فلم يخف شرّه: لأن أصل
أمره لم يكن عداوة. فأما من كان أصل أمره عداوة جوهرية، ثم أحدث صداقة لحاجة حملته
على ذلك، فإنه إذا زالت الحاجة التي حملته على ذلك، زالت صداقته، فتحولت عداوة وصار
إلى أصل أمره: كالماء الذي يسخن بالنار، فإذا رفع عنها عاد بارداً. وليس من أعدائي
عدوٌّ أضر لي منك. وقد اضطرني وإياك وإلى ما أحدثنا من المصالحة. وقد ذهب الأمر الذي
احتجت إليّ واحتجت إليك فيه، وأخاف أن يكون مع ذهابه عود العداوة. ولا خير للضعيف في
قرب العدو القوي، ولا للذليل في قرب العدو العزيز. ولا أعلم لك قِبَلِي حاجة، وليس
عندي بك ثقة: فإني قد علمت أن الضعيف المحترس من العدو القوي أقرب إلى السلامة من القوي
إذا اغتر بالضعيف واسترسل إليه. والعاقل يصالح عدوه إذا اضطر إليه، ويصانعه، ويظهر
له ودّه، ويريه من نفسه الاسترسال إليه إذا لم يجد من ذلك بدّا، ثم يعجّل الانصراف
عنه، حين يجد إلى ذلك سبيلا. والعاقل يفي لمن صالحه من أعدائه بما جعل له من نفسه،
ولا يثق به كل الثقة، ولا يأمنه على نفسه مع القرب منه. وينبغي أن يبعد عنه ما استطاع.
وأنا أودك من بعيد، وأحب لك من البقاء والسلامة، ما لم أكن أحبه لك من قبل. ولا عليك
أن تجازيني على صنيعي إلا بمثل ذلك: إذ لا سبيل إلى اجتماعنا والسلام.
نشر في نون بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق