لقد كان عصر صدر الإسلام -ثم عصور نهضته
العلمية فيما بعد- لا يعاني من مشكلة تلوث الهواء التي نبتت ونشأت مع التقدم
العلمي الغربي وانحطاط المسلمين، ولهذا فلا تثريب علي أجدادنا العلماء والفقهاء
إذا لم يكتبوا شيئا في هذا الموضوع، ولا ريب أنه من الكسل والتكلف معا أن نطالب
قوما بحل مشكلاتٍ لم يعرفونها.
ويبقى على جيلنا أن ينظر في النصوص
والأصول العامة، وأن يستنبط من الكليات جزئيات وأحكاما في مسألة تلوث البيئة،
وتلوث الهواء فرع منها.
إلا أن إعادة استقراء النصوص الشرعية،
والتنقيب في كتب الفقه والتاريخ تأبى إلا أن تدهشنا مرة أخرى، إذ نجد منها نصوصا واضحة
ظاهرة في هذه المسألة، وتطبيقها يضع مبادئ وأصول معالجة مشكلة تلوث الهواء، فأما
نصوص الوحي فهي بطبيعتها نصوص معجزة يفهم منها أهل كل زمن ما يناسب أزمانهم وفي
حدود مشكلاتهم، وأما نصوص العلماء التي دارت حول نصوص الوحي بالشرح والفهم فتفتح
مسارب التفكير والتدبر وإن انصبت على مشكلات أزمانهم بطبيعة الحال ولطبيعتهم
البشرية، فهم لا يعلمون الغيب وإن كانوا أفذاذا عباقرة.
***
أولا:
توجيهات الوحي
1. النهي عن إشعال النار في البيوت ليلا:
وهذا مأخوذ من قول النبي r: "لا تتركوا النار في بيوتكم حين
تنامون"[1]. فقد فُهِم منه التحذير للخشية من
اشتعال النار ليلا، أما وقد ثبت علميا من أن الأكسجين الذي يتنفسه الإنسان يُستهلك
في الإشعال، ثم ينبعث من النار غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يخرج في زفير
الإنسان.. نقول أما وقد ثبت هذا فيمكن حمل هذا التوجيه على المعنى الأعم: وهو
النهي عن إفساد الهواء، وذلك أن "الاحتراق الناتج عن المصابيح في عصرهم ليس
إلا صورة لما سيعرفه العالم من صور عمليات الاحتراق"[2].
فذلك التوجيه النبوي بعدم ترك النار مشتعلة، هو –بهذا المعنى-
البذرة والأساس الذي يمكن أن يقاس عليه النهي عن تلويث الهواء بعمليات الإحراق
كأصل يُبنى عليه، خصوصا في فترة الليل وفي الأماكن المغلقة.
2. النهي عن تأخير دفن الميت:
ودفن الميت هو فرض كفاية بالإجماع، وقال العلماء بأن حكمته في
أمرين: توفير الحرمة للميت ومنع تغير الهواء من رائحته[3].
وقد يجوز تأخير الدفن لتحقيق مصلحة مثل تكثير المصلين أو حضور
الولي أو غير ذلك لكن بشرط ألا تتغير رائحته، فإذا تُيُقِّن أنه سيحدث ذلك فقد
اتفقوا على أن يُبادَر إلى التجهيز ولا يؤخر[4].
3. النهي عن دخول أرض الطاعون:
وهو مأخوذ من قول النبي r: "إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا
تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها"[5].
ولما ذهب عمر بن الخطاب إلى الشام –ولم يكن يعلم هو ومن معه
هذا الحديث- وسمع بانتشار الطاعون استشار من معه من الصحابة واستقر رأيهم على
العودة دون الدخول، ولما سأله أبو عبيدة بن الجراح: أتفرّ من قدر الله؟ قال كلمته
الشهيرة: نعم نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله. حتى جاء عبد الرحمن بن عوف وكان قد
سمع هذا الحديث فأخبرهم به، فقضي الأمر.
وكان هذا الحديث أول ما أرشد إلى أسلوب "الحجر
الصحي" كما كان تطبيق عمر بن الخطاب أول تطبيق لهذا الأسلوب فيما نعلم.
ولقد تكلم حجة الإسلام الغزالي في هذا الأمر بعبقرية تثير
الدهشة، إذ تحدث عن فترة حضانة الفيروس الذي يكون منتشرا في الوباء وكيف أنه يحتاج
وقتا حتى يظهر أثر المرض على المصاب، ومن ثَمَّ يكون منع الخروج والدخول هو الأسلم
في حصار الوباء داخل منطقة محدودة، قال: "الهواء لا يضرُّ من حيث ملاقاته
ظاهر البدن، بل من حيث دوام الاستنشاق فيَصِل إلى القلب والرئة، فيؤثِّر في الباطن
ولا يظهر على الظاهر إلا بعد التأثير في الباطن، فالخارج من البلد الذي يقع به لا
يخلص غالبًا مما استحكم به"[6].
4. الحث على التشجير والتخضير:
وهو ما ثبت علميا أنه يؤدي إلى زيادة
نسبة الأكسجين الذي يتنفسه الإنسان، فالزرع الأخضر يقوم بعملية البناء الضوئي التي
يمتص فيها ثاني أكسيد الكربون الذي يخرج في زفير الإنسان.
ولقد جاء هذا الحث على التشجير في عدد
من الأحاديث، منها: قوله r: "سبعة يجري على العبد أجرهن بعد موته في بره.. (منها)
أو غرس نخلا"[7]،
وقوله r: "ما من
مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به
صدقة"[8]، وتكرر هذا
المعنى في أكثر من حديث.
بل لقد أوصى
النبي بالغرس حال قيام الساعة، فقال r: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم
فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل"[9]. ولقد أخذ العلماء من هذا الحديث الدعوة إلى العمل، ولكن ألا يمكن
اعتباره دعوة إلى زيادة المساحة الخضراء التي تمد الكائنات الحية بالأكسجين عنصر
الحياة الأولى؟! أليس هذا هو عينه ما ينادي به اليوم دعاة المحافظة على البيئة؟![10].
إن النباتات الخضراء الراقية التي تتواجد في صورة زراعات
وغابات تمد الحياة في الكرة الأرضية بـ30% من الأكسجين، أما الـ70% الأخرى فتقوم
بها تلك الهائمات النباتية المتواجدة في المساحات المائية التي تمثل 70% من مساحة
الأرض، كما أن هذه الهائمات تقوم بدور مهم جدًّا في تكوين المواد العضوية التي
تُستعمل لتغذية آلاف الأنواع من الكائنات الحية الحيوانية[11].
لقد أوضحت البحوث الحقائق التالية:
§ يجب زراعة 100 شجرة أمام كل سيارة نقل.
§ يجب زراعة 10 شجرات أمام كل سيارة
صغيرة.
§ يجب أن يقوم كل مصنع بزراعة شجرة أمام
كل لتر من الوقود الذي يستخدم في إدارة المعدات.
§ تقوم بعض الأشجار بإنتاج أكسجين فقط،
ولا تنتج إطلاقًا ثاني أكسيد الكربون.
§ تقوم بعض الأشجار بامتصاص بعض المركبات
السامة من الهواء، وتقوم بهدمها.
§ تقوم بعض الأشجار بتصفية الهواء من
الملوثات العالقة بها.
§ تقوم الأشجار بخفض درجة الحرارة، وبخفض
سرعة التيارات الهوائية الصاعدة والهابطة، وتؤدي دورًا مهمًّا في تعديل المناخ[12].
وهكذا تعبر نصوص الوحي زمانها ومكانها ويأخذ كل قوم منها بحسب
ما يفهمون وما يأتيهم به عصرهم من معضلات.
***
ثانيا: أقوال الفقهاء
وبناء على الأصول والكلية والنصوص الفرعية، ناقش العلماء في
كتب الفقه بعضا مما يخص الهواء، فتناولوا أكثر من حالة استندوا فيها على ما يمكن
أن نسميه "الحق في الهواء النقي"، فمن هذه الحالات:
1. إذا زرع جارٌ شجرة في بيته ثم طالت فروعها حتى دخلت في بيت
جاره فمن حق الجار أن يزيلها عنه إن أمكن، فإن لم يمكن كان له أن يقطعها ليحصل على
حقه في الهواء، وهذه بعض أقوال الفقهاء في الموضوع:
§ الأحناف: قال ابن نجيم بأنه إذا "أخذت
أغصان شجرة إنسان هواء دار آخر فقطع رب الدار الأغصان؛ فإن كانت الأغصان بحالة
يمكن لصاحبها أن يشدها بحبل ويفرغ هواء داره ضمن القاطع، وإن لم يكن لا يضمن إذا
قطع من موضع لو رفع إلى الحاكم أمر بالقطع من ذلك الموضع"[13].
§ المالكية: نقل
ابن رشد (الجدّ) قول ابن وهب في الشجرة العالية أنه "إن انتشرت وعظمت حتى
تخرج فروعها من أرض صاحبها وحدوده، وتقع في أرض جاره وحدوده ويضر به، قطع ذلك الذي
أضرَّ به ووقع في حدِّه وأذاه فقط. قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا
اختلاف فيه أن الرجل إذا غرس في داره شجرة فلجاره أن يقطع ما طال من أغصانها،
فأذاه في جداره، ودخل في حصته وهوائه"[14].
§ الشافعية: قال
النووي في المجموع: "إذا كانت له شجرة في ملكه، فانتشرت أغصانها فوق ملك
جاره، فللجار أن يطالب مالك الشجرة بإزالة ما انتشر فوق ملكه؛ لأن الهواء
تابع للقرار، وليس له أن ينتفع بقرار أرض جاره بغير إذنه، فكذلك هواء أرض جاره،
فإن لم يُزِلْ مالك الشجرة ذلك، فللجار أن يزيل ذلك عن هواء أرضه بغير إذن الحاكم، كما لو دخلت بهيمة لغيره إلى أرضه
فله أن يخرجها بنفسه"[15].
§ الحنابلة: قال
ابن قدامة المقدسي: "إذا حصلت أغصان شجرته في هواء ملك غيره، أو هواء جدار له
فيه شركة، أو على نفس الجدار لزم مالك الشجرة إزالة تلك الأغصان؛ إمَّا بِرَدِّها إلى
ناحية أخرى، وإمَّا بالقطع؛ لأن الهواء ملك لصاحب القرار، فوجب إزالة ما يشغله من
ملك غيره... لأنه بمنزلة البهيمة التي تدخل داره له إخراجها"[16].
2. إذا بنى جارٌ في بيته ما يؤذي دخانه مثل الفرن أو الحمام أو
كير حداد أو صائغ أو غيره مما قد يتصاعد دخانه ويغير هواء جاره، فيُلزم بأن يحتال
في إزالة هذا الدخان وإلا مُنِع من إنشاء ذلك في بيته[17]، وبهذا قال الجمهور وخالفهم الشافعية
ورأوا هذا مثل دخان الطبخ اليسير[18]، إلا أن بعض الشافعية نصر قول الجمهور
وخالف المذهب كما في حاشية البجيرمي على الخطيب إذ قال: "ظاهر الحديث[19] تحريم سائر أنواع الضرر ما قلَّ منه
وما كثر إلا لدليل؛ لأن النكرة في سياق النفي فتعم، فيحرم على الشخص فتح كوَّة في
جداره يَطَّلع منها على عورات جاره، أو إحداث فرن أو حمام أو رحى أو معصرة؛ لوجود
الضرر بالدخان وصوت الرحى، وما أشبه ذلك"[20]، بل لقد نقل الغزالي ما يفهم منه أن
الشافعية يقولون بقول الجمهور وأن خلافهم إنما تأسس على اجتهاد صاحب الدار في منع
الدخان، فقال: "ولو اتخذ أحدهما داره مدبغة، أو حمامًا، أو حانوت قصار أو
حداد، قال المراوزة[21]: يمنع نظرًا إلى العادة القديمة. وقال
العراقيون: إذا أحكم الجدران واحتاط على العادة لا يمنع"[22].
3. وقد ظهرت في كتب الحسبة واجبات وضعها الفقهاء لتحقيق هذا
الحق في الهواء النقي، فمن واجبات المحتسب:
§ فيما يخص الأفران والمخابر أن يلزم
أصحابها بأن "تُرْفَعَ سقائف حوانيتهم، وتُفتح أبوابها، ويُجْعَل في
سقوف الأفران منافس[23] واسعة يخرج
منها الدخان؛ لئلاَّ يتضرَّر بذلك الناس، وإذا فرغ الخَبَّاز من إحمائه، مسح داخل
التنُّور بخرقة نظيفة"[24]، "ويأمرهم
بإصلاح المداخن، وتنظيف بلاط الفرن في كل ساعة من اللُّباب[25] المحترق،
والشرر المتطاير، والرماد المتناثر؛ لئلاَّ يلصق في أسفل الخبز منه"[26].
§
فيما يخص الحمامات العامة، فعلى المحتسب أن يراقب تنفيذ أصحابها
لشروط منها أنها "متى
بردت الحمام فينبغي أن يبخرها القَيِّم بالخزامى[27]، فإن دخانها يحمي هواءها، ويطيب
رائحتها. ولا يحبس ماء الغَسَّالات[28] في مسيل الحمام لئلاَّ تفوح رائحتها؛ ولا يدع الأساكفة[29] وغيرهم يصبغون الجلود في الحمام، فإن
الناس يتضررون برائحة الدباغة ولا يجوز أن يدخل المجذوم والأبرص إلى الحمام"[30].
4. وقد تنبه علماء الفلاحة لكون بعض الآبار فاسدة الهواء،
فطالما لم يمكن إصلاحه فينبغي ردم البئر وطمره، جاء في كتاب الفلاحة لابن وحشية –وهو
من علماء القرن الثالث الهجري- قوله: على الذي يهبط إلى البئر التي يتصاعد منها
بخار رديء أن يشعل شمعة قبل أن يهبط ويُدلِّيها في البئر، فإن انطفأت فعليه أن
يعمد إلى سراج فيشعله ويدليه، وليكن بدون زيت بل بشحم، فإن انطفأ فالبئر رديء ويجب
الإقفال والإهمال[31].
***
وبهذا نرى أن في نصوص الوحي، التي استند
إليها العلماء في استنباط الأصول والفروع، ما يحمل على الحفاظ على الهواء، ويجعل
"الحق في الهواء النقي" موضع اتفاق بين العلماء، وينبغي على الاجتهاد المعاصر
أن يبني على هذه الأسس فيما يخص ما هو أكبر من هواء الدخان المنبعث من فرن أو
حمام، فنحن إزاء كميات هائلة من المداخن التي تدفق الأطنان من الملوثات في الهواء،
تلك الملوثات التي ثبت ضررها على الإنسان وعلى الأجيال القادمة كذلك.
وهذا ما يجعلنا نكرر ونؤكد أن مشكلة
البيئة كما نعاني منها حاليا لم تكن لتظهر إذا كان العصر عصور تفوق إسلامي، ذلك
لأن حركة المسلمين في الحياة ستنضبط بهذه النصوص وما ينبني عليها من اجتهادات
معاصرة.
نشر في ساسة بوست
[1]
البخاري (5935)، ومسلم (2015).
[2]
د. عبد الرحمن جبرة: الإسلام والبيئة، ص97.
[7] ابن ماجه (242)، والبزار (7289) واللفظ له، وصححه الألباني في
صحيح الجامع (3602).
[9] أحمد (13004) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط
مسلم. والبخاري في الأدب المفرد (479)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد.
[11]
د. أحمد عبد الوهاب عبد الجواد: المنهج الإسلامي لعلاج تلوث البيئة، ص26.
[12]
د. أحمد عبد الوهاب عبد الجواد: المنهج الإسلامي لعلاج تلوث البيئة، ص173، 174.
[18]
انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية 20/241.
[19]
يقصد حديث: "من ضَارَّ ضَارَّ الله به، ومن شَاقَّ شَاقَّ الله
عَلَيْهِ". الترمذي (1940)، وقال: حسن غريب. وحسنه الألباني.
[23]
منافس: جمع مَنْفَس، أي: فتحات للتهوية.
[25]
اللُّباب: الطحين المرَقَّق. المعجم الوسيط 2/811.
[28]
الغسالات جمع غَسَّالة: وهي ما يخرج من الشيء بالغسل. انظر: المعجم الوسيط 2/652.
[29]
الأساكفة: العُمَّال أو الصُّنَّاع. ابن منظور: لسان العرب 9/156.
[31]
انظر: د. فؤاد سرطاوي: البيئة والبعد الإسلامي، ص106، وهو ينقل عن: علي شلق: العقل
العلمي في الإسلام ص222.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق