تحدثنا في المقال
الماضي عن "أقوال الفقهاء في تلوث الهواء"، وذكرنا أن مشكلة البيئة وإن
كانت ظهرت في الآونة الأخيرة، إلا أن نصوص الوحي جاءت بما يستوعب هذه الأزمة،
وقلنا إن مشكلة البيئة لم تكن لتظهر في زمن علو الحضارة الإسلامية، لأن نصوص الوحي
وما استنبطه منها العلماء من أصول وقواعد تحول دون ظهور هذه المشكلة.
في هذا المقال نواصل
إلقاء الضوء على هذا الجانب، فنتحدث عن حماية الإسلام للماء، فنقول وبالله
التوفيق:
الأصل في الماء أنه
شركة بين المسلمين كما قال النبي r "المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار"[1]، ومن هنا فإن إتلاف أو إفساد أو تلويث أي
من هذه الثلاثة إنما هو ضرر عام للمسلمين، وهو منهي عنه باعتبار الأصل "لا
ضرر ولا ضِرار".
ولهذا فقد نهى الإسلام
عن أي إضرار بالماء، سواءٌ من جهة تلويثه أو من جهة إنقاصه وتغويره، وسواءٌ أكان
هذا الماء عاما وكثيرا وغير مملوك لأحد أو كان خاصًّا وقليلا ومملوك للواحد حتى
الماء الذي في البيوت والأواني.
فنحن هنا -في هذا
المقال- نتناول حماية الإسلام للماء من التلويث ثم نتناول حمايته من الإنقاص أو
التغوير في المقال القادم إن شاء الله.
أولا: حماية الماء من
التلويث
لقد نهى النبي r عما يلوث الماء، ومن ذلك:
1. تصريحه r بأن هذا الضرر من الأفعال التي تجلب اللعن
لصاحبها، فقال r: "اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في
الموارد[2] وقارعة الطريق والظل"[3].
3.
ونهى كذلك عن الاغتسال فيه فقال r: "لا يبولنَّ أحدكم في الماء
الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسلُ فيه"[6]، وقد أفاد رفعُ فعل "يغتسل"
أن المنهي عنه هو البول أو الاغتسال وليس الجمع بينهما، فإن "هذا لم يَقُلْه
أحد، بل البول فيه منهي عنه سواء أراد الاغتسال فيه أو منه أم لا"[7].
وقد
فهم العلماء من هذه النواهي أنها مثال لكل النجاسات والملوثات ولا تقتصر فحسب على
البول، فقال ابن حجر: لا فرق في الماء الذي لا يجري في الحكم المذكور بين بول
الآدمي وغيره[8]، ونقل النووي عن الشافعية وغيرهم من
العلماء قولهم: "والتغوط في الماء كالبول فيه وأقبح،
وكذلك إذا بال في إناء ثم صبه في الماء، وكذا إذا بال بقرب النهر؛ بحيث يجرى إليه
البول، فكلُّه مذموم قبيح منهيٌّ عنه"[9]، وقد ترتب على
هذا أن منع العلماء من كل ما يُفضِي إليه كما نقل النووي قول العلماء: "ويُكره
البول والتَغَوُّط بِقُرْب الماء، وإن لم يصل إليه؛ لعموم نهى النبي r عن البراز في
الموارد، ولما فيه من إيذاء المارِّين بالماء، ولما يُخَافُ من وصوله إلى
الماء"[10].
ثم
جاءنا العصر بما ثبت علميا من انتقال الكثير من الميكروبات والطفيليات عن طريق
مياه الشرب مثل: الكوليرا، والتيفويد، والإنكلستوما، والبلهارسيا، والتهاب الكبد
الوبائي، وشلل الأطفال، وغيرها من الطفيليات والميكروبات[11].
وجاءنا
كذلك بما هو أفدح من الملوِّثات وطرق التلويث، مما جعل العلماء المعاصرون يتخذون
ذات الموقف منه، يقول القرضاوي: والتلويث في عصرنا لم يعد مقصورًا على
البول والبراز، ونحوهما من الحاجات البشرية التي يفعلها الدهماء من الناس، بل غدت
هناك أنواع أشدّ خطرًا، وأبعد أثرًا، وأوسع نطاقًا من هذا كله؛ وهي التلويث
بمخلفات الصناعة والموادّ الكيماوية، ومنها موادّ سامَّة وقاتلة، ومخلَّفات النفط
والبواخر التي تغرق في البحار ويسيل ما فيها؛ فتُلَوِّث المياه، وآثار الحروب وما
تتركه من المواد المشعَّة، التي تكون خطرًا على الأسماك والأحياء المائية،
وبالتالي تُصبح خطرًا على الإنسان نفسه حين يأكلها[12].
ولقد
أمر الإسلام بالحفاظ على الماء وطهارته حتى لو لم يكن موردا عاما شركة بين الناس،
فأوصى أيضا بما يحمي الماء القليل الموجود في البيوت والأواني:
فعن
جابر t قال: سمعت رسول الله r يقول: "غَطُّوا الإناء وأَوْكُوا[13] السِّقاء، فإن في السنة ليلة ينزل فيها
وباءٌ لا يَمُرّ بإناء ليس عليه غطاءٌ أو سقاء ليس عليه وِكَاءٌ إلا نزل فيه من
ذلك الوباء"[14]، وفي رواية "... وأوكوا الأسقية،
وخَمِّروا الطعام والشراب"[15].
وفي هذا الحديث تصريح بأن الحكمة هي منع نزول الأولئة
المنتشرة في الهواء من أن تصيب الآنية، وفيه إشارة إلى الأوبئة الموسمية أيضا،
ولربما هي إشارة إلى جرثومة بعينها ومرض بعينه يأتي في ليلة بعينها سيكشفها العلم
في قابل الأيام. والشاهد هو حماية الإسلام لأقل قدر من الماء وهو ما
يكون في الآنية، من أقل شئ من الموثات وهي الجراثيم.
ونهى
الإسلام عن سلوكيات يُحتمل معها أن يتلوث الماء، فأوصى بأن يتعامل المسلم مع
الطعام والشراب والنظافة باليد اليمنى ويجعل يُسراه لما قد يُسْتَقذَر، وهكذا روت
عنه أمهات المؤمنين، فقالت عائشة: "كانت يد رسول الله اليمنى لطهوره وطعامه،
وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى"[16]، وقالت حفصة: "وكان يجعل يمينه
لأكله وشربه ووضوئه وثيابه وأخذه وعطائه، ويجعل شماله لما سوى ذلك"[17]، وفسر العلماء
كلمة "الأذى" –في حديث عائشة- بأنها كل ما "تستكرهه النفس
الزكية"[18].
وعلى هذا المعنى حمل العلماء قوله r: "إذا بال أحدكم فلا يأخذنَّ
ذَكَره بيمينه، ولا يستنجي بيمينه، ولا يتنفس في الإناء"، فقال ابن حجر: "يلحق
به (أي الذكر) الدبرُ قياسًا، والتنصيصُ على الذكر لا مفهوم له؛ بل فرج المرأة
كذلك، وإنما خصَّ الذَكَر بالذِّكْر لكون الرجال في الغالب هم المخاطبون، والنساء
شقائق الرجال في الأحكام"[19].
وفي
هذا الحديث نجد نهيا عن سلوكٍ آخر فيما يخص الماء، وهو قوله r: "ولا يتنفس في الإناء"، وقد
ورد هذا التوجيه في أكثر من حديث منها قوله r: "إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في
الإناء، فإذا أراد أن يعود فليُنَحِّ الإناء ثم ليعد إن كان يريد"[20]، ومنها ما رواه ابن عباس t قال: نهى رسول الله r أن يُتَنَفَّس في الإناء أو يُنْفَخَ
فيه"[21]، ومنها حديث أبي سعيد الخدري "أن
النبي r نهى عن النفخ في الشُّرْب، فقال رجل:
القذاة[22] أراها في الإناء؟ قال r: أهرقها. قال: فإني لا أروى من نَفَسٍ
واحد. قال r: فَأَبِنْ القَدَح إذن عن فيك"[23].
وهكذا
كان يفعل r ويضرب القدوة والمثل، فقد قال خادمه أنس t: كان رسول الله r يتنفس[24] في الشراب ثلاثا، ويقول: إنه أروى وأبرأ
وأمرأ[25]"، قال أنس: فأنا أتنفَّس في الشَّراب ثلاثًا[26].
فخلاصة
الهدي النبوي في هذه الأحاديث ألا يتنفس المسلم في الإناء وهو يشرب منه على أية
حال، فإن لم يرتو من المرة الواحدة أبعد فمه عن الإناء وهو يتنفس ثم عاد ليشرب،
ويُسَنُّ له أن يشرب على ثلاث مرات كما هو هدي النبي r. كذلك نُهِي المسلم عن النفخ في
الإناء، فإذا وجد فيه ما يكرهه من عود أو نحوه فليسكبه ليتخلص منه ثم يشرب.
وقد
توقف العلماء عند قوله r "أبرأ"، لكونها تحمل معنى
السلامة من المرض والألم، فاجتهد بعضهم وقال: لأن نزول الماء البادر على المعدة
العالية الحرارة فجأة يسبب المرض بينما نزوله على دفعات يُجنبها هذا[27]، ونقل بعضهم
عن أهل الطب في زمنه أن شرب الماء مرة واحدة قد يؤذي الكبد[28].
ومنهم من حمل كلمة "أبرأ" على معناها المعنوي:
كبراءة الذمة، فقالوا بأنها من سلوك وأدب المجالس، إذ أن "المتنفس في الإناء قلَّ ما يخلو أن يكون
مع نَفَسِه ريقٌ ولُعَاب، ومن سوء الأدب أن يشرب ثم يُناول جليسه لعابه، ألا ترى
أنه لو عمد إلى الإناء فشرب منه، ثم تفل فيه، وناوله جليسه، إن ذلك مما تقذره
النفوس وتكرهه، وليس من أفعال ذوي العقول، فكذلك مَنْ تَنَفَّس في الإناء؛ لأنه
ربما كان مع تَنَفُّسه أكثر من التفل من لعابه"[29].
وأكثر
العلماء على جمع المعنييْن: الحسي والمعنوي؛ فالحِسِّي: هو نهي عن تلويث الماء
بسقوط ما يُستَقذَر فيه من الفم أو الأنف أو تغير رائحة الإناء بما يدخل إليه من
رائحة النَّفَس ومبالغة في شأن النظافة، والمعنوي: هو التنزه عن إيذاء الآخرين،
هكذا قال النووي[30] وابن دقيق العيد[31] وابن حجر[32] والسيوطي[33] والمناوي[34].
وقد
تكرر هذا التوقف من العلماء في حديث آخر، إذ قال أبو هريرة t: "نهى النبي أن يُشْرَبَ من فِي السِّقَاءِ"[35].
وقد
لخص ابن الجوزي مجمل ما قاله العلماء في حكمة هذا النهي بقوله: "إنما نهى عن
ذلك لخمسة معانٍ؛ أحدها: أنه ربما كانت في السقاء هَامَة أو قذاة فانتشرت في الحلق.
والثاني: أنه ربما وقع الشرق باندفاق الماء. والثالث: أنه لا يمكن مصُّ الماء (من
في السِّقاء) بل يقع العبُّ[36] الذي يؤذي الكبد. والرابع: أنه يُغَيِّر
ريح السقاء. والخامس: أنه يتخايل الشارب الثاني رجوع شيء من فم الأول
فيستقذره"[37]، وأضاف ابن القيم حكمة أخرى وهي "أنَّ
الشرب كذلك يملأ البطن من الهواء، فيضيقُ عن أخذ حظَّه من الماء، أو يُزاحمه، أو يُؤذيه"[38].
هذه
الاجتهادات من العلماء في تفهم حكمة النهي حملتهم على الاختلاف في كون هذا النهي
يُقصد به التحريم أم الكراهة، فقال بعضهم بالكراهة وقال بعضهم بالتحريم، ونقل ابن
حجر قول ابن أبي جمرة بأن "الذي يقتضيه الفقه أنه لا يبعد أن يكون النهي
لمجموع هذه الأمور، وفيها ما يقتضي الكراهة، وفيها ما يقتضي التحريم، والقاعدة في
مثل ذلك ترجيح القول بالتحريم، وقد جزم ابن حزم بالتحريم لثبوت النهي"[39]، وردَّ ابن حجر دلالة الأحاديث الواردة
في الشرب من القِرب، بأن ذلك إنما كان في حال الضرورة[40].
وهذا
الاجتهاد من علمائنا في مسألة لم يتكشف لهم في أزمانهم أبعاد حكمتها إنما هو أقصى
ما يمكن لهم في ظل معارف ذلك الزمن، وهو يعبر عن بذل الوسع في فهم النهي من خلال
البناء على الأصول الثابتة: النظافة، الأدب، والحفاظ على الماء.
إلا
أن المسألة تغيرت في زماننا هذا:
فقد
صار من المعروف أن قيام مجموعة من الناس بالشرب من وعاء واحد، يُعرضهم جميعًا
لانتقال العدوى بمرض أصاب أحد الذين شربوا من هذا الوعاء[41].
وقد
ثبت علميًّا أن النفخ أو التنفس في الإناء ينقل بعض البكتيريا التي تعيش في الفم
إلى الماء، وهو ما يترتب عليه انتشار المرض من خلال الإناء والماء، كما جاء في كشف
الباحثين الأستراليين روبين وورن وباري مارشال، من أن البكتيريا المسببة لقرحة
المعقدة تنتقل عبر الفم وعبر البراز أيضا –وكان يُعتقد قديما أن المرض وراثي فقط
ينتقل من الأم لولدها- وقد تم التعرف على الإصابة من خلال اختبار هواء الزفير، فقد
وُجِد أنه يحمل الإنزيم الذي تنتجه هذه البكتيريا "Helicobacter pylori"[42].
وهذا
الذي ثبت جديدا إنما يكشف بُعْدًا آخر من أبعاد النص النبوي، ويرحج قول من قالوا
بالحرمة على من قالوا بالكراهة لثبوت الضرر.
لقد
قطع الإسلام طريق تلويث الماء، مهما قلَّ، ومهما كان السلوك المتسبب في هذا، ولا
نجد في هذا أبلغ من وصية النبي r إذ يقول: "إذا استيقظ أحدكم من
نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده"[43].
فاجتمع
في هذا الحديث الحفاظ على أقل الماء، والمنع من سلوك يُحتمل معه مجرد احتمال أن
يلوثه، واختيار النبي لحال النوم إنما هي أبعد في الاحتياط حيث يجهل المرء ماذا
كان فيه، وهو أقوى في حق من تشكك أو غلب عليه الظن بعدم نظافة يده حتى "ولو
كان مستيقظا"[44]، وذلك أن "الشرع إذا ذكر حكمًا وعَقَّبه
بعلَّة دلَّ على أن ثبوت الحكم لأجلها"[45].
في
المقال القادم إن شاء الله تعالى نرى كيف حمى الإسلام الماء من الإنقاص والتغوير.
نشر في ساسة بوست
[1] أحمد (23132) وأبو داود (3477) وابن ماجه
(2472) وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط.
[12] د. يوسف
القرضاوي: رعاية البيئة في شريعة الإسلام، ص102.
[13] الوِكاء هو الخيط الذي تُشَدُّ به الصرة أو
الكيس أو ما شابه.
[21] أبو داود
(3728) وابن ماجه (3429) وصححه الألباني.
[22] القذاة: هي
العود، وهي -في هذا الحديث- تشمل أي شيء يقع في القدح أو في عين الماء ويتأذى به
الشارب.
انظر: شرح
الموطأ للزرقاني 4/371، والعظيم آبادي: العظيم آبادي: عون المعبود 2/91.
[24] يتنفس في الشراب:
أي يشرب على ثلاث مرات ويكون التنفس خارج الإناء.
[25] أروى: أكثر رِيًّا بمعنى تحقيق الارتواء،
وأبرأ: أسلم من المرض أو الأذى، وأمرأ: أجمل في اللذة والشعور. انظر: النووي: شرح
صحيح مسلم 13/199.
[26] مسلم (2028).
[36] العبّ: هو
الشرب بكثرة.
[38] ابن القيم:
الطب النبوي، ص187، 188.
[42] انظر:
تقرير منظمة
الصحة العالمية عن هذا النوع من البكتيريا عبر الأطعمة "Transmission of Helicobacter pylori: a role for food" على هذا الرابط:
محاضرة
البروفيسور باري مارشال عقب فوزه بجائزة نوبل، والمنشورة على موقع الجائزة:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق