الأحد، مايو 29، 2011

تلك النخبة العلمانية الحقيرة

آمنت بالله.. آمنت بالله.. آمنت بالله..

قبل الثورة لطالما حيرني الخطاب القرآني أحيانا، إنه خطاب يتعامل مع المؤمنين ككيان واحد، ويتعامل مع غير المؤمنين ككيان آخر.. وهذا النسق مضطرد في القرآن اضطرادا يعرفه ويشعر به كل من له ورد من القرآن يقرؤه يوميا..

قد حيرني هذا النسق، كنت أرى كثيرا من الإسلاميين منهزمين وساكتين، وكنت أرى كثيرا من العلمانيين ثائرين على الفساد والاستبداد.. إلا أنني بعد الثورة آمنت بأن أي التقاء بين الإسلاميين وغيرهم إنما هو التقاء عابر في لحظة عابرة.. وأن أي افتراق بين الإسلاميين وبعضهم إنما هو افتراق الألوان في الشعاع الواحد.

ما حدث بعد الثورة لا يكاد يصدق.. لقد رأيت من حقارات العلمانيين وسفالتهم وسوء أخلاقهم ووحشيتهم ما يدهشني في كل يوم، ومهما تخيلت أني رأيت المستحيل فاجأوني بأن لديهم كنزا من القذارة يسيل في كل يوم بكل جديد.

أنا أتكلم عاقلا وأعني ما أقوله من ألفاظ ومصطلحات قد ينزعج لها المغفلون الساذجون، أو غير المتابعين، أو ذوي الذوق الرفيع جدا.. بل الحقيقة أني لا أجد ألفاظا تصف هذا التوحش العلماني القبيح.

الحمد لله أني لم أرتكب يوما جريمة التنديد بجماعات التكفير والهجرة أو جماعات العنف المسلح، الحمد لله أني لم أرتكب هذه الجريمة.. ولكنني الآن أشعر أني مدين بالاعتذار إليهم، ذلك أن نفسي من داخل نفسي كانت تنتقد ما فعلوه، والحق أنهم لم يكونوا إلا الضحية التي سلخت حية ثم هوجمت لأنها شعرت بالألم.. في تلك الأيام كانوا يرون ما أراه الآن من الطباع المفترسة للعلمانيين ولم يكن لهم وسيلة واحدة للرد.. فإذا كنت أشعر بهذا القدر الهائل من الغضب في الوقت الذي أستطيع فيه تنفيس هذا على الانترنت، فكيف كانوا يشعرون وهم يسمعون النجاسة التي تسيل من فرج فودة ونصر أبو زيد وحسين أحمد أمين ومحمد نور فرحات وسعيد العشماوي؟؟؟

ولمرة أخرى أنا أعني ما أقول، ومن لم يكن قرأ لهذه الأسماء فلا ينبغي أن ينتقد ألفاظي قبل أن يعلم.. هذا المقال ليس لأصحاب الذوق الرفيع أساسا.. لو كنت منهم فارحم نفسك منذ الآن واذهب إلى عمل آخر.

إن الإسلاميين يتعرضون لحرب حقيقية واقعة.. الصحف والقنوات تنهش فيهم بكل ما تستطيع، وتستخدم أسلحة أقلها الكذب والافتراء والاختراع.. منذ قليل تركت صحيفة المصري اليوم (عدد 29/5/2011) التي كانت أشبه بمنشور حرب خلاصته لا للإسلاميين..

حتى مجدي الجلاد الذي كان يحب جمال مبارك ويحترمه لبث ثوب الثورية، ومعه وحيد حامد عميل النظام الفاسد البائد ويده التي كان يضرب بها كتب مقالا ملأه بالكذب على الواقع قبل أن يمارس الكذب في التاريخ..

يكاد لا يوجد واحد من "رفاق النضال" السابقين إلا وسقط سقوطا مدويا، فمن لم يطلب صراحة إلغاء نتيجة الاستفتاء طلب التحايل عليه والالتفاف حوله، ومن لم يطلب هذا طلب وضع مواد فوق دستورية (غصب عن الشعب)، ومن لم يطلب هذا طالب بأن يكون الجيش هو الوصي على البلاد.. هذا الكلام خرج ممن كان ينادي بالديمقراطية وكنا نظنهم صادقين..

حسبنا بهذا عقوبة أننا لم نفهم كلام ربنا، العليم الخبير، ولهذا يوصي العلماء والفاهمون أن يكون لك ورد يومي من القرآن.. إنك تكتشف القرآن في كل يوم بما يفسره لك من أحداث مستجدة، كما تكتشف طبيعة الأحداث اليومية المستجدة في القرآن الكريم.

لقد كنت فيما مضى أهاجم السلفيين وأهاجم الإخوان وأتمنى لهم ثورية كتلك التي أراها في بعض العلمانيين.. الآن أعرفهم أن ثوريتهم لم تكن لأجل حقوق الناس، بل كانت لأن النظام لم يسمح لهم هو بالتواجد (والدليل: أن العلمانيين الذين استوعبهم النظام ظلوا في أحضانه)، وأنهم حين وردت احتمالات تفيد بأن ثمة حرية حقيقة ستعبر عن رأي الشعب وقد لا يكونون في صدارتها تراجعت مواقفهم إلى النقيض وتحولت "ثوريتهم" إلى الإسلاميين الذين بدت منهم لهم كراهية عميقة (وما تخفي صدورهم أكبر)!

الآن أعلم أن الإسلاميين كانوا أشرف منهم حين احتسبوا الظلم ولم يثوروا لتقديرهم بأن مصلحة البلاد في التحمل مع الصبر والاحتساب، وأنهم كانوا أشرف منهم حين ثاروا إذ هم من أنقذوا الثورة في لحظات مفصلية ورغم هذا لم يدعوها لأنفسهم ولا تفاخروا بأن الثورة من غيرهم كانت ستفشل ولا طلبوا احتكار سلطة.. بل تنازلوا في سبيل المصلحة العامة عن حقوق أصيلة كالترشح للرئاسة والمنافسة عن كل مقاعد البرلمان..

إن هذا لن يرضي العلمانيين والنصارى وغيرهم.. وقد قال لنا الله من قبل (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)..

هل انتقلتُ أنا من الاعتدال إلى التطرف.. أو حتى من التطرف إلى التعصب؟؟

في الحقيقة لا يهمني الأسماء ولا تصنيفاتهم.. يهمني أني في كل يوم أعرف الحقيقة أكثر.. ولئن سميت هذه الحقيقة تعصبا أو تطرفا.. فمرحبا وأهلا وسهلا.. واسأل الله أن يميتني وأنا أول المتطرفين!

السبت، مايو 28، 2011

تزوير تاريخ الثورة يضيعها

ربما كان يوم 25 يناير هو البداية للثورة، إلا أن يوم 28 يناير كان هو يوم الثورة الحقيقية، وقد سار هذا اليوم على طريقة لم يتوقعها أحد أبدا، لا من جانب الثوار ولا من جانب النظام البائد، ولا فضل فيها إلا لله رب العالمين.

وحتى لا يتم تزوير تاريخ الثورة، ويحتكر بعض أصحاب الصوت العالي الحديث باسمها، فلا بد أن نتذكر حقيقة رئيسية، وهي: أن الأمور على الأرض تحسمها القوة الفعلية لا مجرد نبل الموقف.. فصاحب الحق لو لم يمتلك قوة كافية فلن يغني عنه حقه شيئا.

لقد كان هذا هو موقف النشطاء والمعارضين طوال الفترة الماضية، كما كان هذا وضعهم أيضا يوم 25، 26، 27 يناير.. إلا أن يوم 28 شهد وضعا جديدا، إذ خرج الشعب بأعداد كبيرة غير متوقعة، أعداد لم يُخْرِجها إلا الله وحده ولا يستطيع مخلوق أن يدعيها لنفسه، هذه الأعداد منها من لا يعرف الانترنت ولا الفيس بوك ولا يقرأ الصحف ولا يتابع الجزيرة، بل أزعم أن هذه كتلتها الرئيسة، لكن الأهم من هذا أنها كتلة "غير سلمية".. وعدم سلميتها هذا كان هو الفضل الأكبر على الثورة إذ تم الهجوم على مقرات الشرطة وإحراقها في كل أنحاء القاهرة في وقت واحد عجزت معه القيادة المركزية على التصرف تماما ولم يكن أمامها إلا الانسحاب.

بهذا الانسحاب تم كسر ذراع النظام الباطش وعدو الشعب الأول والأقسى.. الشرطة!

زاد في هذا قرار اتخذه النظام بسحب قوات الشرطة من القاهرة، وهم ما كشفت عنه أكثر من وثيقة ومن اعتراف، ثم إطلاق "البلطجية" والمساجين للتخريب.. وبالتوازي معه إطلاق حملة تفزيع وترهيب عبر القنوات باقتحام البيوت واغتصاب النساء وقتل الأطفال، وبدلا من أن تحقق الخطة هدفها في سحب المتظاهرين من الشوارع شاء الله أن يحدث العكس وأن ينزل من كانوا في البيوت لتنظيم أنفسهم في لجان لحماية شوارعهم ومنشآتهم.. فزاد عدد الناس في الشوارع واطمأن المتظاهرون على أهلهم فظلوا في أماكنهم بل ازدادوا، ثم زاد كل هذا في انكسار الشرطة التي كان يتعرض أفرادها أنفسهم للتفتيش أو القبض عليهم في لجان الحماية الشعبية.

ومع انكسار الشرطة أمر مبارك بنزول الجيش لإنهاء الاحتجاجات.. ونزل الجيش فعلا ولكنه لم يتعرض لأحد بسوء.. فازداد وضع النظام تأزما وازداد وضع الثائرين قوة.

بدون هذا الترتيب الذي لم يدبره إلا الله.. ما كان للثورة أن تنجح، الثورة التي كانت في هذا اليوم "غير سلمية" على الإطلاق، بل إن خُلُوَّها هذا من "السلمية" هو الذي وضع أساس نجاحها.

دخلت الثورة في مرحلة ركود، لا يدري من في التحرير ماذا يفعلون أكثر من الهتاف "السلمي" كما فشل النظام في تفريقهم "سلميا" مع إصرار الطرف القوي الوحيد (الجيش) على عدم التدخل لصالح أحد من الطرفين.

ثم كانت معركة البغال والخيول والجمال (2/2/2011) ثم هجوم البلطجية والقناصة، وهي المعركة "غير السلمية" التي تم التصدي لها بطبيعة الحال بمقاومة "غير سلمية".

ثم دخلت الثورة في مرحلة ركود أخرى، فلا الهتاف "السلمي" قادر على إسقاط النظام، ولا المحاولات "السلمية" التي تولاها عمر سليمان قادرة على إنهاء الثورة، لم يحسم هذا الركود إلا الطرف صاحب القوة، وهو الجيش، وانتهى الأمر بتنحية مبارك.

لم يكن أحد بحاجة لترديد هذه الحقائق التي لم يمض عليها وقت يُنسيها إلا لأن البعض اعتقد أن وجوده على الفيس بوك، أو امتلاكه لعمود في صحيفة، أو لبرنامج في قناة، قد أشعل الثورة وأبقاها وأنجحها وأجبر مبارك على التنحي!!!

ثم استمر في ترديد هذا الهراء حتى صدَّق نفسه ودعا الناس لتصديقه وتصرف مع الثورة وكأن هذا حقيقة بل وصل الحال إلى التهديد بتفجير ثورة ثانية.. لم تنفجر، ولن تنفجر.

من المهم لكل الأطراف أن تسعى للتوافق الشعبي لتحقيق "قوة" شعبية إن كانوا مخلصين لصالح هذا البلد، وهو يساوي أهمية أن يتوافق الجميع على بقاء الجيش "صاحب القوة" في موضع المدير للفترة الانتقالية القصيرة قبل أن تترسخ سلطته في الحكم ويستطيع استعمال "القوة" في ترسيخ وجوده.. وهي قوة لا ينفع معها الفيس بوك ولا أعمدة الصحف ولا برامج الفضائيات.

الحقيقة الواقعية التي لا ينبغي أن نغفلها هي أن الأمور متوقفة على الجيش، لأنه لا طرف يملك المواجهة الحقيقية، وسياسة الجيش حتى الآن تسير سيرا حسنا، لا هو بالكمال الذي نريد ولا هو بالسوء الذي يؤثر على التحول الديمقراطي المنشود.. ولذا فلابد من وجود التوافق الشعبي ليتحقق أقصى المتاح من القوة الشعبية لضمان التحول الديمقراطي.

ويحسن بمن يخشى على وضعه من سرعة التحول الديمقراطي باعتباره ليس مستعدا، أن يضحي بمصلحته الخاصة (وجوده في الخريطة القادمة) لصالح مصلحة الوطن (التأسيس للديمقراطية)، لا سيما وأن لديهم ميزة هائلة: ألا وهي خوف الإسلاميين وترقبهم واختيارهم عدم المخاطرة بالترشح للرئاسة أو بالترشح للأغلبية البرلمانية، واستعدادهم الدائم للتنسيق مع مختلف التيارات السياسية.

وصدق نصر بن سيار لما قال:

فإن يَقِظوا فذاك بقاء قومٍ ... وإن رقدوا فإني لا أُلام

نشر في "شبكة رصد الإخبارية"

الجمعة، مايو 27، 2011

فقه اختيار الرجال للأعمال (4)

في الحديث عن "فقه اختيار الرجال للأعمال" قمنا باستقراء المنهج الإسلامي عبر سيرة النبي، وسيرة خلفائه الراشدين، ومنهج العلماء –لا سيما أهل الحديث- في نقل الدين، وطالعنا كيف توصلت علوم الإدارة الحديثة إلى نفس الخطوات التي استقرأناها من المنهج الإسلامي في ترتيب المراحل والاختبارات التي نختار بها الرجال للأعمال.

وكانت النتيجة النهائية التي توصلنا إليها أن نختار من بين الأكفاء أوثقهم، لا أن نختار من بين الموثوقين أكفأهم.

وهنا نبت لنا سؤال الولاء: فإذا كنا سنختار الأكفأ الأقل في الولاء، فكيف لنا أن نضمن ولاءه للعمل والمؤسسة؟[1]

لدينا هنا ثلاثة أمور مُسْتَمَدةٌ أيضا من علمائنا ومن التجارب الإدارية الناجحة في العصر الحديث:

1) ربط المصلحة الشخصية للموظف بالمصلحة العامة للمنظومة، بحيث يخدمها إذ يخدم نفسه في ذات الوقت.

2) المنظومة الناجحة لا تعتمد على موظف واحد أو مجموعة من الموظفين بشكل كامل بحيث تنهار المنظومة إذا تركوها.

3) السعي لتطوير ذوي الثقة والولاء ليكونوا أهل ثقة وكفاءة معا.

فأما الأمر الأول، وهو ربط المصلحة العامة بالمصلحة الخاصة، فإنه أيسر وأسهل في حالة الأعمال الدعوية والجمعيات الخيرية والجماعات الإسلامية، فكل عضو يدرك تماما أنه يخدم نفسه وهو يحقق الهدف العام من المنظومة. إن هذا يعود عليه براحة الضمير في الدنيا، ثم بالأجر والثواب في الآخرة.

غير أن هذا الربط يحتاج تدعيمه وبقوة بالجانب المادي المحسوس والملموس، ولا يُغني فيه الاقتصار على التذكير بالأجر والثواب في الآخرة فحسب، فالتجارب قد أثبتت أن تحقيق الإنجازات الدنيوية والنجاحات القريبة، كذلك زيادة الدخل المادي أو العائد المباشر فَعَّالٌ في شحذ الهمم والطاقات والدفع بالعاملين إلى تحقيق المزيد.

ومن المؤسف أن هذه النقطة تحديدًا لا يعيها كثير من أصحاب المؤسسات بالنسبة للعاملين لديهم. فتراهم يحاولون دائما تخفيض المصروفات وتكثير العوائد على اعتبار أن الربح هو الفارق بين المصروفات والعوائد.

هذا صحيح نظريا، ولكن – عمليا – وبالدروس المستفادة للتجارب الناجحة، فإن صاحب المؤسسة الناجحة يركز على العوائد لا على المصروفات، فإذا صرف همه لتكثير العوائد كان هذا أنجح، أما إذا انصرف همه لتخفيض المصروفات فهذا بداية فشل[2].

إن هذا هو ما فعله النبي –صلى الله عليه وسلم- في غزوة حنين، إذ أنفق غنائم الغزوة كلها على من أسلموا حديثا من أهل مكة، حتى كان يعطي الرجل الواحد الغنم التي تملأ الوادي بين الجبلين، لقد كان ينظر إلى العائد (إسلام المترددين حديثوا العهد)، في حين كانت كل هذه الغنائم "لعاعة من الدنيا". فلا تَنْسَ: ركز على العوائد لا على المصروفات، وإن اضطررت إلى تخفيض المصروفات فلا تمس حقوق الموظفين، فأنت بهذا تهدم لديهم الولاء للمؤسسة.

وأما الأمر الثاني: فإن المنظومة الناجحة لا تعتمد على شخص واحد أو مجموعة واحدة. وهو –كما يقال- لا تضع كل البيض في سلة واحدة.

قد لا يخطر ببال القارئ المتعجل للسيرة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قد نفذ هذه القاعدة؛ فلقد أبقى عددًا احتياطيًّا من المسلمين دائما خارج المعركة تماما، بل كان يُكثر من هذه المجموعات. فالمجموعة التي هاجرت إلى الحبشة لم تعد للمدينة إلا بعد الاستقرار النهائي وتَمَكُّن الدولة الإسلامية في العام السابع للهجرة بعد الحديبية وفتح خيبر.

وقد أتى عدد من الناس إلى النبي في مكة وأسلموا، فما كان منه إلا أن طالبهم بالبقاء في أقوامهم دون أن ينضموا إليه في مكة، على أن ينحازوا إليه إذا سمعوا بظهور أمر الدين وانتشاره، فكان هؤلاء مراكز لنشر الإسلام في قبائلهم ورصيدا احتياطيا للدعوة خارج مكة، بعيدين عما يتعرض له المسلمون من أخطار داخلها، ومن هؤلاء: الطفيل بن عمرو الدوسي الذي أسلمت على يديه قبيلة دوس، وضماد الأزدي، وأبو ذر الغفاري الذي أسلم على يديه نصف قبيلته غفار قبل الهجرة ثم أسلم نصفها الآخر بعد الهجرة، وعمرو بن عبسة السلمي. وقد كان كلامه –صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن عبسة في غاية الوضوح: "إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني".

وهكذا اعتمدت دعوة الإسلام على أكثر من نقطة ارتكاز أهمها مكة، وما كان انهيار الدعوة في أي منطقة من المناطق، ولو كانت مكة نفسها، بالذي يتسبب في انهيار الدعوة كلها.. فهكذا ينبغي على بناة المؤسسات والأعمال والجمعيات أن يفعلوا، لا سيما الأعمال الدعوية والخيرية التي قد تتعرض لمضايقات السلطات وما إلى ذلك من عوائق.

وأما الأمر الثالث فهو تطوير أهل الثقة ليكونوا أكفاء، وتلك ننقلها عن شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يقول: "ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"[3].

وتأمل أنه يقيس هذا على الوفاء بالدين – وهو الذي يتطلب الإسراع فيه – والاستعداد للجهاد. أي أنه أمر محمول على التعجيل والاستيفاء.

وإليك هذه المنظومة المقدمة من منظمة غالوب (Gallup Organization) لمساعدة أصحاب العمل في الاحتفاظ بالموظفين الأكفاء:

"يفوق الهدر في الموارد الذي يتسبب به خسران الموظف التكاليف التي تنفق في استئجاره بعدة أضعاف، ويعتبر جذب الموظفين الجيدين والاحتفاظ بهم هاجس مستمر بالنسبة لأرباب العمل في أيامنا هذه، فإذا كانت تكاليف الاستثمار في الوقت والمال والطاقة من أجل استئجار موظف جيد تعتبر عالية، فإن تكاليف الوقت الضائع، والمال المهدور والهبوط النفسي الذي تشهده الشركة من جراء خسران موظف جيد تفوق تكاليف الاستثمار بأشواط. تصور أن معدل التكاليف المالية لوحدها (عام 1999) التي يتسبب بها طرد موظف بعد تسعين يوم تجربة بلغت 2.250 دولاراً (عن كل موظف). من المهم أن تعرف ما الذي يجتذب الموظفين إلى شركتك وما الذي يجعلهم يمكثون بها...

يقول ماركوس باكينغهام Marcus Buckingham ، المستشار الأعلى في مدرسة غالوب للإدارة أنه في استفتاء للرأي أجرته الشركة حددت 12 سؤالاً لقياس المقومات الجوهرية الضرورية لجذب أفضل الموظفين ولاء وإنتاجية وموهبة والاحتفاظ بهم. جمعت غالوب هذه الأسئلة بعد غربلة كمّ هائل من الأسئلة طرحتها على ما يزيد عن مليون موظف خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية. وباستخدام تحليل العوامل، ودراسات الاستمرارية، ومجموعات التركيز، ومتابعة المقابلات.

قام موظفوا الإحصاء في غالوب بعزل الأسئلة التي يفترض أنها تقيس بدقة إمكانية جذب مكان العمل أفضل الأفراد والاحتفاظ بهم. التقيد بكلمات السؤال أمر هام:

1) هل أعرف ما هو مطلوب مني في العمل؟

2) هل أمتلك المعدات والمواد اللازمة لأداء عملي على أفضل وجه؟

3) هل لدي فرصة في العمل لكي أؤدي أفضل ما أؤديه يومياً؟

4) هل تلقيت مكافأة أو تقديراً في الأيام السبعة الماضية على عمل جيد قمت به؟

5) هل يهتم بي المشرف على عملي أو أحد من أفراد العمل كفرد؟

6) هل يوجد أحد في العمل يشجع تطوري؟

7) هل يبدو أن آرائي تشكل شيئاً بالنسبة للعمل؟

8) هل تجعلني رسالة الشركة التي أعمل بها أشعر أنني أؤدي عملاً هاماً؟

9) هل يلتزم زملائي في العمل بأداء عمل متميز نوعياً؟

10) هل لدي صديق جيد في العمل؟

11) هل تكلمت في الأشهر الست الماضية مع أحد عن تقدمي في العمل؟

12) هل لدي فرص في العمل للتقدم والتطور؟

ليس فقط من يجيب على هذه الأسئلة بنعم هم أولئك الذين يرجح أنهم سيبقون في الشركة، بل إن جمال هذه الأسئلة الاثني عشر، كما تقول غالوب، يكمن في أنها تخاطب العوامل التي يعتبرها أكثر الأفراد إنتاجاً وموهبة على جانب من الأهمية.

الأسئلة الأكثر قوة في هذه المجموعة هي تلك التي ترتبط بقوة بمعطيات العمل وهي الستة الأولى.

كقائد، إذا أردت أن تعرف ما الذي ينبغي عليك فعله لكي تحتفظ بأقوى مجموعة لديك، فإن توجيه هذه الأسئلة سيؤدي لك خدمة ممتازة"[4].

***

بهذه المقالات الأربع نحسب أننا قدمنا معالم الطريق لمن أراد أن يستلهم منهج النبي –صلى الله عليه وسلم- في البناء والتكوين وصناعة النهضة، لا سيما ونحن أمة قد عانت الكثير وتخلفت عقودا وقرونا من جراء تولية أهل الثقة وتنحية أهل الخبرة، حتى ساد النفاق والتملق في مؤسساتنا، فانهارت، وانهار من ورائها صرح البلاد وأخطر منه انهيار صروح الأمل، وصار أهل الكفاءة لا يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا إلا في بلاد أعدائنا التي استفادت من كفائتهم وعقولهم، بل واستعملتهم في حربنا وتعميق الفجوة بيننا وبينهم، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل ما تشهده بلادنا من تغييرات بداية للتصحيح، وما أحوج الذين قاموا بهدم الباطل أن يتعلموا "فقه البناء والتكوين".



[1] راجع المقالات الثلاثة الماضية: فقه اختيار الرجال للأعمال (1)، (2)، (3).

[2] د. صلاح الراشد: كيف تخطط لحياتك، مركز الراشد، ص72.

[3] ابن تيمية: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص29.

الأربعاء، مايو 25، 2011

الفشل الحقيقي للثورة

لو أننا نكتب لوجه أحد، لكتبنا لوجه الجيش والحكومة إن كنا نريد الدنيا، أو لكتبنا لوجه الثوار إن كنا نريد الذكر عند الناس، حسبنا أننا نكتب لوجه الله ولو أخطأنا، ونسأله تعالى الصواب والإخلاص.

ما هو الخطر الذي يتهدد الوطن الآن؟ وما هو الفشل الحقيقي للثورة؟

هل هو التباطؤ في محاكمة حسني مبارك وبقايا النظام البائد؟ هل هو التباطؤ في استرداد الأموال المنهوبة؟ هل هو أسلوب إدارة المجلس العسكري للمرحلة الانتقالية؟

أم أن الخطر الحقيقي والفشل الأكبر هو في ضياع التحول الديمقراطي ودخول البلاد في حالة من الفوضى أو الاضطراب أو اشتعال المعركة بين الشعب والجيش (هذا بافتراض أن الشعب فعلا يريد الاشتباك مع الجيش).. من المؤهل في هذه اللحظة لإدارة البلاد من النخبة الموجودة الآن؟

يمكننا أن نقضي ما نشاء من الوقت في تعداد أخطاء المجلس العسكري وحكومة تسيير الأعمال، لكن السؤال الأهم: ماذا نملك من البدائل العملية (أكرر: العملية) لإدارة الفترة الانتقالية؟

والأهم من كل هذا هو عمق الأزمة: هل نريد البقاء في حكم الشعب المقهور الذي "يطالب" أم ينبغي الإسراع بأقصى ما يمكن في أن نتحول إلى الشعب الذي "يحكم"؟

لو أن تلك النخبة التي تريد إطالة الفترة الانتقالية وتفصيل دستور على هواها تملك إخلاصا للمصلحة الوطنية يفوق إخلاصها لأفكارها لكان همهم الأكبر هو التحول الديمقراطي الذي يجعل تنافس الأفكار قائما في أرضية تتحمل استيعابه، فإن أسفر التنافس الديمقراطي عن انتصار أفكارهم فبها ونعمت، وإن لم يكن فقد ساهموا في تحول هذه البلاد من الاستبداد إلى الحرية وكفى به عملا عظيما يشكرهم عليه الناس ويذكرهم به التاريخ.

إلا أن انتهاز فرصة الفوضى والاضطراب والدفع بالصراع مع المؤسسة الأخيرة المتماسكة في الوطن، أو لنقل بأدق من هذا: المؤسسة الوحيدة المتماسكة التي لا مصلحة لها في عداوة الشعب، والضغط بكل الوسائل غير المشروعة لإنهاء التحول الديمقراطي لصالح الأفكار الخاصة، وشيطنة من لا يتوافق مع هذه الأفكار والعمل على تشويههم.. كل هذا يفضي في النهاية إلى استمرار واقع الاضطراب وبالتالي استمرار واقع الشعب الذي "يطالب" على حساب الشعب الذي "يحكم".

مدهش أن من يريد الصراع مع المجلس العسكري في أغلبهم يريدون تمديد الفترة الانتقالية!! مدهش كذلك أن من يريد استقرارا يستعد فيه لتنظيم نفسه حزبيا للمنافسة في الانتخابات القادمة هم في أغلبهم من يدفعون للاضطراب!!

إن مبارك نفسه لا يعنيني، وكذا باقي رجاله الذين أحسب أن ظهرهم قد قُصِم وأن أيامهم قد ذهبت، ولو تُركت وما أتمنى لكان حبسهم كافيا حتى تتم محاكمتهم في ظل السلطة الشرعية المنتخبة.. لا يعنيني غير إتمام التحول الديمقراطي في أسرع وقت.

إن طول الوقت يصب في مصلحة كل الأطراف إلا مصلحة الوطن..

طول الوقت يُغري بالبقاء في السلطة فالعسكريون بشر لا تؤمن عليهم الفتنة، وفتنة المنصب أي فتنة.. كما يوفر وقتا أطول لمن انهزموا وانحلوا وتشتتوا وانشغلوا بالتخلص من أدلة إدانتهم ودفع التهم عن أنفسهم أن يعيدوا تنظيم أنفسهم.. كما يوفر وقتا للخارج أن يرتب أوضاعه كما يحلم فهو يتعامل مع سلطة يعرف أنها غير مستقرة ولا تحظى بالشرعية وهو ما لا يمكنه أن يفعله مع سلطة شرعية منتخبة تحظى باستقرار الأغلبية..

ولو أن طول الوقت يكسب منه الإسلاميون، فنحن نتمنى على معاشر الوطنيين من الاتجاهات العلمانية أن يقبلوا التضحية بانزواء أفكارهم إلى حين لحساب خروج الوطن من الاستبداد إلى الديمقراطية.. وهي تضحية يشكرها لهم الناس ويذكرهم بها التاريخ.

من سينزل إلى التحرير يوم 27 مايو للمطالبة بالإسراع في المحاكمات واعتراضا على سياسات المجلس العسكري فإني أتفهم مطالبه، لكنني أختلف معه في الأولويات.. أما من سينزل إلى ليطالب بالمجلس الرئاسي والدستور قبل الانتخابات فلا يستحق خطابا أصلا.

نشر في المصريون