يمكن اختزال مشكلة المسلمين، ومشكلة
البشرية كلها، في أنهم لا يتخذون محمدا ﷺ إمامًا!
ترى لماذا لا
يفعلون ذلك؟
(1)
دون ذلك عوائق
متينة؛ أولها الجهل بالنبي ورسالته، فمع كثرة المسلمين إلا أن أقلهم أولئك الذين
يستطيعون البيان والشرح لفكرة أن النبي ﷺ هو منقذ الإنسانية، وأن رسالته احتوت على
أسباب السعادة ونشر العدالة. ولقد يكون الإنسان تائها والخريطة في يده لكنه لا
يحسن قراءتها ولا يعرف فائدتها، وقد ضرب شاعرنا القديم مثلا على ذلك فقال:
ومن العجائب،
والعجائب جمة .. قربُ الدليل، وما إليه وصول
كالعيس في
البيداء يقتلها الظما .. والماء فوق ظهورها محمول
أي: كالإبل في
الصحراء يكاد العطش يقتلها، ولا تعرف أنها تحمل الماء فوق ظهرها.
وأشدُّ من ذلك
ما ضربه الله من المثل في قوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ
ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]،
فالحمار مهما حمل من الكتب لا ينتفع بذلك، بل لو أنزلت الكتب من فوق ظهره ونُشرت
أمام عينه لما انتفع بذلك، إذ هو يجهل قراتها وفهم معانيها!
وثانيها: ما
تنطوي عليه النفوس من الشهوة والأثرة، فكم في الناس من يعرف الحق ثم تغلبه شهوته
وأثرته، فينصرف عن الحق إلى الباطل، وعن العدل إلى الظلم، وعن الخير إلى الشر.
فإذا هو واصل السير في هذا الطريق فإنه يصير من أئمة الباطل، فيكون بذلك عدوا للحق
وحامليه، وعدوا للمصلحين ودعوتهم، بل عدوا للأنبياء والرسل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112].. ويبلغ أولئك الحدَّ
الذي قال الله فيه {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ
فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70].
وثالثها: ما
بلغته الأمة في زماننا هذا من حال ضعف مزرية، جعلها مقهورة تحت عدوها الذي يغمرها
بأفكاره ويُلزمها بنظامه ويشكك أبنائها في دينهم، فلستَ ترى منفذا من منافذ
التعليم والإعلام والثقافة إلا وهو يُفسد في المسلمين أكثر مما يصلح، ويبعدهم عن
دينهم ونبيهم أكثر مما يقربهم إليه، فصارت العقول والقلوب منغمسة في بحر من
الشهوات والشبهات، حتى صار من الغريب المستغرب أن يقنع المسلم بأن نبيه ﷺ هو منقذ
الإنسانية، وأن ما جاء به هو الدواء الشافي والجواب الكافي!
تأمل في هذه الآية: {وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ
إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ
لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ
لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 64،
65].
وفي حالة نبينا محمد ﷺ تبدو
المسألة أوضح وأعظم، إن رجلا ظهر في التاريخ فجأة فنقل أمة العرب من التمزق
والفرقة والحروب، في سنوات معدودة إلى الوحدة والسيادة لهو رجلٌ جديرٌ بالوقوف
طويلا أمام قصته وسيرته، وجديرٌ بأن يتعلم منه كل من تفكر في سبيل النهضة!
هكذا ينبغي أن
يفكر في الأمر العلماني المادي الملحد الذي لا يبتغي من الحياة إلا النهضة المادية
وحدها لنفسه ولقومه، فإن تاريخ محمد ﷺ هو أنجح تجربة على الإطلاق لانبعاث أمة وانبثاق
حضارة، يشهد بذلك مؤرخون غير مسلمين قبل أن يشهد له المسلمون.
فكيف، ومحمد ﷺ
فوق ذلك وقبله وبعده نبيٌّ يجب على من آمن به أن يتبعه وأن يطيعه؟! وأن ينصت لقوله
ويقتدي بفعله ويستسلم لحكمه؟! فإن هذا الذي آمن بالنبي لا يقتصر همُّه على الدنيا
وتحقيق النهضة فيها، بل يمتد همُّه إلى مصيره الكبير في الآخرة: الجنة أو النار!
كيف نستطيع أن
نرفع حواجز الجهل التي تحول بين المسلمين وبين أن يؤمنوا عن قناعة راسخة وفهم
مطمئن أن اتباع النبي هو السبيل الوحيد لإنقاذ البشرية؛ إنقاذها في الدنيا ثم في
الآخرة أيضا؟!.. ذلك والله هو التحدي!!
إنه ما من
عاقل يستهين أو يستسخف قولَ العالِم المتخصص في علمه، فإذا فاجأك الخبير برأي
مُستغرب فإن ما عنده من العلم والخبرة يحملك على التوقف والتفكر في كلامه وتأمله!
فكيف إن كان الذي نتحدث عن طاعته والتسليم له نبي رسول، موصول بالسماء، جاء بالعلم
الذي ينطق به وحيا صافيا نازلا من عند الله؟!
{يَاأَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا
لَكُمْ} [النساء: 170]
يبدو الأمر
سهلا ومنطقيا وواضحا، ولكن بيننا وبين فهمه وتطبيقه تلك الحواجز العتيدة!
كان أبسط ما
واجهناه في هذا العالم الأول من "مجلة أنصار النبي" هو سياسات مواقع
التواصل الاجتماعي، لا سيما الفيسبوك، إنه مصمم لنشر التفاهة والانحلال، فهو يزيد
من الوصول إليها ومن التفاعل عليها، وأما المحتوى الجاد النافع فإنه مُصَمَّمٌ
لدفنه وإخماده. وما هذا بالمستغرب! فإنه ابن الحضارة الغربية المادية المنحلة
أخلاقيا التي تسعى سعيا محموما وراء الشهوة واللذة!
ومع ذلك، فيجب القول أيضا بأن هذه
المواقع لا تزال مفتوحة، ويمكن النشر عليها، فإن تلك الحضارة المادية الغربية
ذاتها قد سيطرت على العالم المادي سيطرةً لا يمكن معها نشر هذه المجلة في عالم
الواقع ولا تيسير وصولها إلى الجمهور، فمواقع التواصل –إذن- على كل ما فيها، هي
المتنفس الصغير الباقي، في عالم يزداد حصارا وإحكاما على من يقولون: اتبعوا محمدا ﷺ!
ترى هل هو
نجاحٌ أم إخفاقٌ أن نقول، بعد مرور عام من صدور هذه المجلة، أننا استطعنا الوصول
إلى ثلاثة عشر مليون شخص على الأقل؟!
من نظر من باب
الحصار المحكم والإمكانيات المحدودة وسيادة التفاهة رآه نجاحا وعدَّه في سجل
المناقب. ولكن من نظر من باب حجم المشكلة التي يحياها العالم والمسلمون رآه
إخفاقا! فماذا يفعل مجرد الوصول إلى هذا العدد في مقاومة هذه العوائق الثلاث
المتينة؟!
(2)
وماذا على
أتباع الأنبياء أن يفعلوا إلا ما فعله الأنبياء؟!
لا أتذكر متى انتبهتُ أول مرة إلى هذا
المعنى: لقد نزل قول الله تعالى لعباده المؤمنين {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] في أخطر لحظة مرَّت على الدولة
الإسلامية، في غزوة الأحزاب، حين كانت عاصمة الإسلام مهددة بالاجتياح، وكانت
المعركة معركة وجود! كانت لحظة مهولة مرعبة، وصفها الله تعالى بقوله: {جَاءُوكُمْ
مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ
ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11].
في هذا الهول الهائل والرعب الرعيب نزل
قول الله تعالى "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة"!
وبعدها مباشرة جاءت الآية التالية
تقول: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا
إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]، فكأن هذا الذي تعلق برسول الله ﷺ واتخذه أسوة حسنة، يتنزل عليه الأمن
والسكينة والاطمئنان، حتى إنه ليصل إلى أن يرى العدو، فلا يشعر بالفزع والخطر بل
يشعر بصدق الوعد وبرد اليقين وزيادة الإيمان والتسليم!!
وفي هذا يقول القاسمي في تفسيره:
"إذ لا يصح الجبن لمن صح اقتداؤه برسول الله ﷺ لغاية قبحه"! ويقول الشهيد سيد
قطب: "كان رسول الله ﷺ على الرغم من الهول المرعب والضيق المجهد،
مثابة الأمان للمسلمين، ومصدر الثقة والرجاء والاطمئنان. وإن دراسة موقفه ﷺ في هذا الحادث الضخم لمما يرسم لقادة
الجماعات والحركات طريقهم؛ وفيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر".
هكذا إذن..
خير ما تحصل فيه الأسوة الحسنة بالنبي ﷺ هو وقت المحنة والشدة، وقت الخوف
والكريهة، وقت الزلزلة الكبيرة!
إن تعلقنا
بالنبي ﷺ هو فوق تعلق الضال التائه بمن يهديه في الطريق المخوفة! وهو فوق تعلق
الضعيف الخائف بالقوي الذي يحميه ويسعفه! وهو فوق تعلق الابن العاجز بأبيه وأمه
اللذان يرحمانه ويرعيانه ويخلصان له النصيحة! وهو فوق تعلق التلميذ الجاهل بالمعلم
الخبير الذي يعلمه ويفهمه! وهو فوق تعلق الحائر المضطرب بالمربي الشفوق الذي يهذبه
ويؤدبه! وهو فوق تعلق الكسول الخجول برائده الذي يأخذ بيده ويرفع همته! وهو فوق
تعلق الجندي المحدود الرؤية والمهمة بقائده الذي يستشرف ساحة الحرب ويأخذ القرار..
هو فوق كل ذلك، لأنه كل ذلك معًا!
{رَسُولًا
مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151]
{رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]
{يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
[الأعراف: 157]
{اسْتَجِيبُوا
لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]
{وَإِنْ
تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]
{النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]
(3)
بقي في هذا
المقام أن أتقدم بالشكر الوافر للسادة الأفاضل الأماثل أصحاب السماحة والفضيلة من
علماء الهيئة العالمية لنصرة النبي ﷺ، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ المؤسس الدكتور محمد
الصغير، وهو –بعد الله جل وعلا- صاحب الفضل الأول على المجلة بما أولاها من رعايته
وعنايته واهتمامه، ثم أعضاء الأمانة العامة للهيئة، وأعضاء مجلس أمناء الهيئة،
والسادة العلماء والأساتذة والباحثون الذين أثروا صفحات هذه المجلة بمقالاتهم الزاهرة
الناضرة فاستحالت بهم صفحات المجلة حديقة غناء ذات ثمر شهي يشبع الآكلين ويروي
الظامئين!
وأخص بالذكر
منهم علماءنا الأسرى الذين نسأل الله تعالى لهم الفرج القريب العاجل، وأن نتشرف
بمقالاتهم التي يكتبونها أحرارا، من بعد ما تشرفنا بنشر نتاجهم قبل أَسْرِهم.
ثم الشكر
للعلماء الأكارم الذين كتبوا لنا في مناسبة إتمام العام هذه العبارات الغالية
الرائقة التي تجدونها مبثوثة في هذا العدد، وعلى رأسهم فضيلة العلامة الكبير الشيخ
محمد الحسن ولد الددو، وفضيلة الشيخ الحبيب القريب السهل اللين البشوش الدكتور عبد
الحي يوسف رئيس أكاديمية أنصار النبي ﷺ، وغيرهم من مشايخنا المكرمين.
ثم الشكر لفريق عمل المجلة في الإعداد والتحرير
والتصميم الفني، فبمجهودهم خرجت المجلة حديقة ذات بهجة تسر الناظرين والقارئين.
ثم الشكر
لإخواني من السادة العلماء ومن غيرهم من الإعلاميين والفنيين الذين تعاهدونا
بالملاحظات ومقترحات التطوير والتحسين، ثم لسائر القراء الأفاضل الذين تفضلوا
علينا بالقراءة والمتابعة، وخصوصا لمن تفضل منهم بالنشر والترويج وساعدنا في
الوصول إلى غيرهم من القراء، وبعضهم ساعدنا في ترجمة بعض المواد المنشورة في
المجلة إلى اللغات الأجنبية.. وكنا في كل حين نكتشف أن المجلة وصلت إلى حيث لا
نعرف، وبعض من لا نعرف قد نشرها أو ترجم منها إلى لغات، ومنها لغات إفريقية محلية
في بلاد نائية!
والمجلة تفتح
أبوابها للتعاون مع سائر المحبين والمخلصين من أنصار النبي ﷺ، فمن أراد الكتابة
تشرفنا بالنشر له، ومن أراد أن يختار لنا من تراث أئمتنا الراحلين أو علمائنا
الأسرى نشرنا ما يقترح مع الإشارة إليه، ومن أراد أن يساعدنا في النشر والترجمة
كنا له من الشاكرين، ومن استطاع أن يأخذ بأيدينا إلى وسائل الإعلام أو يأخذ
بأيديها إلينا كان له أجر الدلالة على الخير إن شاء الله، وكل امرئ أدرى بما
يستطيع أن يفعل من وجوه الخير والدعم، وفي كلٍّ خير.
أسأل الله
جميعا أن يكتب لكل أولئك الأجر الجزيل والثواب الوافر. وأن يجمعنا دائما على طاعته
وفي نصرة نبيه، وأن يتوفانا على ذلك حتى يجمعنا مرة أخرى في ظل عرشه وعند حوض نبيه
ﷺ، فنُسقى من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق