بسم الله
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..
كتبت قبل يومين أدعو إلى أن يصدر العلماء ومجالسهم العلمية والفقهية بيانا في شأن الانتخابات التركية لدعم السيد الرئيس رجب طيب أردوغان، وأن هذا هو من قضايا الأمة العامة التي لا يليق بهم أن يتخلفوا عنها..
وخلال هذين اليومين جرت نقاشات بيني وبين بعض السادة العلماء والفضلاء، وبعضهم أرسل لي يستدرك أو يعترض أو يبدي تحفظا، وقد قدّرتُ أن بعض الكلام الذي أجبت بعضهم به قد يكون من النفع نشره.. فها هو بَسْطٌ لما كنتُ أجملته في المنشور السابق.
نقول، وبالله التوفيق..
نحن الآن في معركة، ومعركة شرسة وفاصلة ومؤثرة، ومن الطبيعي في المعارك أن تستخدم كافة ما بيدك من الأدوات، وأن تقدم جانب الجسارة على جانب التحفظ والحذر.
وهذا نراه من أعدائنا أيضا مع أنهم غير متضررين من أردوغان كتضررنا نحن لو فازت المعارضة.. وما تزال وسائل الإعلام والمجلات الغربية تكتب بصراحة في التنفير من أردوغان والهجوم عليه.. ومع أن مؤيدي أردوغان يستثمرون هذا ويقولون: انظروا إلى التدخل الخارجي، انظروا إلى الهجوم الغربي، انظروا إلى عمالة المعارضة.. مع هذا فإن الصحف والمجلات الغربية ووسائل إعلامهم مستمرة ولا يعرقل الوسيلة منها ما أثارته من غضب ولا من إحراج للمعارضة.. ومن جانب المعارضة فهي تسكت إزاء هذا العمل الذي يحرجها، إن لم تكن ترحب به، ويقول قائلهم: انظروا ماذا فعل أردوغان وكيف خسَّرنا العالم وكيف تتناوله وسائل الإعلام.
القصد أنه لا أحد يتحفظ في البذل عند المعارك، حتى لو كان هذا البذل مسببا بعض إحراج لحلفائه لأنه يرجو بهذا البذل أن يأتيهم بالمكسب الذي هو أفضل من الإحراج.. فإذا فازت المعارضة فلن يضرها الإحراج، وإذا خسرت لن يكون هذا الإحراج إلا سببا واحدا ضمن جملة أسباب أكبر..
وكذلك نحن، إذا فاز أردوغان فلن يضره الإحراج وأن يقال دعمه العلماء المسلمون، لكن إذا خسر فسندفع جميعا ما هو أعظم بكثير جدا جدا من الإحراج.. وساعتها سيتمنى كل من تحفظ وتحسس أن لو بذل ما استطاع وليكن ما يكون، وساعتئذ، سيعرف أن الإحراج ما هو إلا تخوف ضئيل ما كان ينبغي له أن يقدره.
والرأي -كما أراه- أن على العلماء أن يكتبوا البيانات الجماعية والفردية والفتاوى الجماعية والفردية وأن ينزلوا بثقلهم في هذا المضمار.. وساعتها سيخرج فعلا من يدين ويستنكر ويعتبر أن هذا تدخلا خارجيا وأن هذا خيانة للعلمانية.. ولكن ساعتها أيضا سيخرج مؤيدو أردوغان وحلفاؤه ليقولوا: انظروا إلى زعيمنا صار زعيما للأمة كلها.. كيف تتركون رجلا يؤيده العلماء والصالحون وتنتخبون هذا الكافر الذي يطأ بحذائه سجادة الصلاة؟.. انظروا إلى العلماء الذين يعرفون الله والدين كيف أنهم جميعا يختارون أردوغان .... وهكذا.
السؤال الأهم: هل هذه البيانات ستكون فعلا في مصلحة أردوغان؟ أليس من الممكن أن تأتي بنتيجة عسكية وأن تثير حساسية الأتراك القومية ويعتبرونها تدخلا في شؤونهم، فتؤدي للانفضاض عنه؟
الجواب عن هذا أنه ما من أحد حتى هذه اللحظة يستطيع أن يقول بشكل حاسم بل ولا بالظن الراجح والغالب أن صدور بيان عن علماء مسلمين في تأييد أردوغان قد يؤدي إلى هذه النتيجة.. هذا أمر انطباعي بحت، ولذلك تجد في القادة الأتراك أنفسهم من يؤيد بقوة ومن يعارض بقوة ومن يتشكك ومن يحاول أن يتوسط.. فأرجو أن نزيل هذا الانطباع من أذهاننا.. وعلى حد علمي فإن علم الاجتماع لم يصل بعد إلى الجزم بأن تصرفا واحدا بعينه يؤثر على نتيجة انتخابات في بلد ما.. سائر ما يقال في هذا توقعات وتحليلات صحافية وإعلامية، وأكثرها منطلق من الهوى ومغرض وليس مبنيا على تحليل إحصائي أو تجارب ميدانية.
نتيجة الانتخابات تتأثر بجملة من العوامل النفسية والشخصية والاقتصادية والاجتماعية الضيقة والاجتماعية الواسعة والمصالح الذاتية، والشعوب شرائح متعددة ومتداخلة ومتراكبة بشكل معقد.. وبيان العلماء المسلمين في دعم أردوغان ستتلقاه شرائح بالحفاوة وشرائح أخرى بالعداوة وشرائح أخرى باللامبالاة وشرائح أخرى لن يصل إليها البيان أصلا.. وحتى الشرائح التي ستتلقاه سيختلف موقفها منه، وستدور حوارات بينهم رفضا وقبولا، على الواقع وفي مواقع التواصل وفي وسائل الإعلام، وسينتقل بعضهم من الرفض إلى القبول ومن القبول إلى الرفض... إلخ!.. ولا يمكن بأي طريقة علمية حساب مآلات البيان ولا الجزم بأنها سلبية.
ولهذا فإن التخوف من إصدار البيان أراه مبنيا على انطباعات أكثر منها حقائق، ولا أحسبه يرقى حتى إلى درجة الظن الراجح.
وها هنا أمر مهم آخر.. إن في صدور البيان مصالح أخرى مهمة..
1. مصلحة للإسلام بإثبات أنه ليس دينا علمانيا معتزلا لشأن السياسة ومعاركها، حتى لو أن هذا الشأن وهذه المعارك تؤثر مباشرة على المسلمين.. فكل الناس تعرف أن الإسلام يتأثر بهذه النتجة سلبا وإيجابا.. والمسلمون يتأثرون.. فلو أن العلماء أحجموا عن بيان حكم الإسلام في المعركة الحالية المباشرة المؤثرة عليهم، فهذا منهم اعتزال في غير محله، وإحجام في موضع إقدام، وفيه انتصار عملي للعلمانية إذ صار المشايخ يتحسسون من الخوض في معركة سياسية حتى وهي تؤثر عليهم وعلى الدين وعلى المسلمين.
بمعنى: لو كانت المصحلة أن نعزز ونرسخ ونثبت أن الإسلام دين واقعي له في الواقع حكم، وكانت المفسدة أن هذا قد يحرج بعض أصحابنا وحلفائنا، وقد يثير بعض أعدائنا ومبغضينا.. فتقدير هذه المصلحة أعظم وأكبر من تلك المفسدة، فكيف ونحن لا نستطيع الجزم بأنها مفسدة؟
2. لو صدر البيان وفاز أردوغان فأقل الأحوال أن مصلحة فوزه تحققت، وقد يتذكر هو هذه الوقفة وهذا الجميل فيكون منه في حق العلماء ما هو أكبر وأكثر.. ولو لم يصدر البيان وفاز كمال كليتشدار أوغلو فلن يكون إحجام العلماء عن إصداره مخففا لغلوائه في اجتثاثهم، ولن يتذكر لهم أنهم أحجموا! ولن يتورع عن إغلاق ما نوى من المؤسسات والجمعيات وطرد ما ثوى من العلماء والصالحين والمهاجرين.. هو لا يخفي أنه سيغير بعض القوانين بل وبعض مواد الدستور التي ستوفر له الغطاء لهذا كله.
فمصلحة العلماء أنفسهم، ومصلحة مؤسساتهم العلمية، ومصلحة مشاريعهم التربوية تقف أمام تهديد مباشر، تحملهم وتلزمهم بخوضه بكل القوة.
3. المصلحة المهمة الأخرى التي أحسب أنها منسية، هي تثبيت وتعزيز وتأكيد أن العلماء مستقلون في النظر والموقف، وأنهم لا يخضعون لأحد رغبا ولا رهبا، وأنهم يقولون ما اعتقدوا واجب بيانه إذا دعت الحاجة ويقدمون على ذلك، وأن مجالسهم ومجامعهم الفقهية والعلمية ليست محصورة في سقف دولة أو قُطر أو نظام.. بل هم علماء المسلمين، وهم يفتون للمسلمين، ويفكرون للمسلمين، لا يحجبهم عن ذلك تقسيمات وطنية حددها الأجانب ورسخها وكلاء الأجانب من بعدهم.. بل هذه المجالس العلمية والمجامع الفقهية الأصل فيها أنها متجاوزة لهذه التقسيمات وأنها من وسائل مقاومتها.
فلا ينبغي، والحال هكذا، أن يحجم علماء العالم الإسلامي عن البيان والفتوى في أمر يخص المسلمين في بلد بعينه.. حتى وإن كان هذا يغضب بعض أولئك الموجودين في هذا البلد..
(ولو افترضنا أن هؤلاء الغاضبين كثير، وأنه لا يحركهم نحو رفض أردوغان إلا بيانات العلماء، فإن أمام هؤلاء الغاضبين تدخل خارجي آخر لدعم المعارضة.. فلو كانوا بالفعل مخلصين لشعاراتهم الوطنية الضيقة، فقد استوى الجانبان أمامهم في أن الخارج يدعمهما.. فلن نخسر أولئك الغاضبين لهذا السبب.. وإن لم يكونوا مخلصين لشعاراتهم الوطنية -وهذا أرجح وأغلب- وتحسسوا من دعم العلماء والمسلمين لأردوغان وحده، فأولئك ما عليهم من سبيل، ولا لنا من سبيل إلى مودتهم).
ولهذا أجدني غير مقتنع ولا منجذب للاقتراح القائل، فليصدر العلماء المجنسون فقط بيانا، لا.. إننا بهذا نثبت أن العلماء لم يكن لهم حق الكلام في شأن المسلمين إلا لما أعطتهم الدولة الوطنية الحديثة هذا الحق.. وليس هذا بحق، بل هم مكلفون بهذا الأمر من قبل الله، وهم ورثة الأنبياء، وهم القائلون بما يرونه الحق سواء أكانوا أتراكا أم غير أتراك.
4. مصلحة العلماء الشخصية المباشرة.. وهذه لن أطيل فيها، لأني أعرف أن أكثر العلماء متجردون من مصلحتهم الشخصية.. ولكن هذه المصلحة لن يشعر بها حق الشعور إلا من كانت تركيا مأواه وملجأه الوحيد.. فأما من يتمتعون بإقامة آمنة في مكان آخر فسيخفت عندهم هذا الشعور (وهذا أمر طبيعي، لست هنا أدينه، وإنما أشير إليه).. على أن الزلزلة التي ستحدث بخسارة أردوغان ستنعكس على كل المسلمين حتى في مناطق أمنهم! فإن أردوغان يحفظ الأمن على كثير من المسلمين وعلماءهم حتى خارج تركيا، ومواقفه من سوريا وقطر وليبيا معروفة.
وأرجو ألا ينسى أحد كيف تأثر المسلمون جميعا بالانقلاب على مرسي في مصر.. فلم يكن مجرد معركة وطنية داخلية!
وأكاد أجزم أن لو استقبل العلماء ما استدبروا، وعلموا هذا المصير من قبل أن يروه، لكانوا قد أمطرونا بالفتاوى الفردية والجماعية التي تحرم الانقلاب العسكري وتجرمه وتنهى عنه، والتي تجيز مقاومته ومكافحته بكل وسيلة.. فها هي مصر من بعد ما كانت فتحا على المنطقة كلها صارت نكبة.. ولولا انقلاب مصر لم يحصل ما حصل في السودان ولا غزة ولا ليبيا ولا تونس ولا قطر.. ولو أن أحدهم قال: ما كان ليبقى بشار فإنه لم يبعد، وها هو بشار الآن يعود إلى جامعة الدول العربية منتصرا..
يكفي أن نتخيل بقاء مرسي الآن وتكوين محور قوي مع تركيا ومع قطر والسودان وليبيا وتونس، (وهذا أقل الأحوال) لنرى كيف كانت ستنقلب خريطة القوة في المنطقة، وكيف كان سيكون الأمر بالنسبة لغزة، بل بالنسبة للعلماء أنفسهم.. حتى العلماء الأسرى الآن في بلاد الحرمين وفي غيرها، ما كان لأحد أن يفجر ويفعل بهم ما فُعِل لو كانت خريطة السياسة والقوة في المنطقة يمسك بزمامها مرسي في مصر وأردوغان في تركيا.
والكلام في هذا الشأن كثير.. أحسب أن هذا فيه الكفاية.
والله المستعان، وصلى اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق