يذكرنا شهر ربيع الأول بمولد النبي
الأعظم صلوات الله عليه، وفيه تستدعي الذاكرة ما قيل فيه ﷺ من القصائد والمدائح.
وفي #أسبوع_نصرة_النبي ﷺ طافت ببالي
أبيات من قصيدة شوقي الأشهر: وُلِد الهدى، فالكائنات ضياء..
أغلب الناس لا يعرفون من هذه القصيدة
سوى هذا البيت الأول أو إن زادوا ضمُّوا إليه الثاني، بينما القصيدة كلها من عيون
قصائد شوقي، بل من عيون الشعر العربي كله.
وقد قرأت -لا أتذكر الآن أين- أن بعض
الناس رأى شوقي في منامه بعد أن توفي، فسأله: ماذا صنع الله به؟ فقال: غفر لي
بمدحي لنبيه ﷺ.
وهذا أمر لا يُستبعد على رحمة الله،
كما لا يُستبعد في نفسه لأن قصائد شوقي مما يحيي معاني الإيمان والحب للنبي ﷺ حقا،
وهي تعبر عن قلب نابض بحب النبي ﷺ حقا، فوق ما فيها من صنعة الشعر وجودته، نحسبه
هكذا، والله حسيبه!
المهم الآن، أنه طافت ببالي هذه
الأبيات التي تتحدث عن فضل النبي ﷺ على الفقراء، ومعالجته لأمرهم:
جاءت فوحدت الزكاة سبيله .. حتى التقى
الكرماء والبخلاء
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى .. فالكل
في حق الحياة سواء
لو أن إنسانا تخيَّر ملة .. ما أختار
إلا دينك الفقراء
الاشتراكيون أنت إمامهم .. لولا دعاوى
القوم والغلواء
داويتَ متئدا وداووا فجأة .. وأخف من
بعض الدواء الداء
الحرب في حق لديك شريعة .. ومن السموم
النافعات دواء
المعنى المبسط لهذه الأبيات، أن النبي ﷺ
جاء بالزكاة، فالتقى في دفعها الكرماء والبخلاء، وبذلك انتصف الفقراء من الأغنياء،
وصارت الحياة الكريمة حقا لهم جميعا، فلو أن الأديان عُرِضت على الناس عرضا صحيحا
لكان الفقراء هم أسرع الناس دخولا في الإسلام، لما فيه من إنصاف الإسلام لهم.
وبهذا كان النبي ﷺ -كما يقول شوقي-
إمام الاشتراكيين، لولا أنه كان خبيرا بطبائع النفوس وسياسة المجتمعات، فعرف كيف
يداوي المفاسد بالصبر والروية والحكمة، حتى صارت الزكاة فريضة يأخذها الفقراء من
الأغنياء، دون أن يلجأ للمذابح والوحشية التي لجأ إليها الاشتراكيون، فكانت
محاولتهم الإصلاح وإغناء الفقراء أشد سوءا مما لو لم يحاولوا، كما يكون بقاء الداء
أحيانا خيرا من جرعة الدواء القاتلة!
أتذكر أن الإمام العلامة المجدد محمد
رشيد رضا كتب يوما في رسالته لشكيب أرسلان "لو أن الناس يعرفون من الإسلام ما
أعرف لهرعوا إليه وما استبدلوا به شيئا غيره، ولوجدوا فيه حلولا لسائر مشكلاتهم"،
أو نحو هذا المعنى..
وأقسم أن هذا المعنى يتردد في صدر
المصلحين، ولكن كثيرا منهم لم يجد الفرصة، أو لم يوهب البلاغة الكافية ليعبر بها
للناس عن هذا المعنى المحبوس في صدره.
نحن الآن في زمن الرأسمالية الليبرالية
والتفوق الغربي الكبير، ولهذا يوضع الإسلام في قفص المحاكمة ويُسأل:
ما موقفك من الحرية؟ ما موقفك من
المرأة؟ ما موقفك من الفن؟ ما موقفك من الديمقراطية؟ ما موقفك من الأقليات؟...
إلخ!
وهذه الأسئلة حين يتفوه به الغالب
الليبرالي الرأسمالي، فإنه يعني بالأساس حرية التجارة التي تُمَكِّنه من الهيمنة
المالية والتحكم في مجال المال والأعمال.
ويعني أيضا حرية الانحلال -بما فيها من
الخمر والتعري والزنا والعلاقات الشاذة- التي تُمَكِّنه من السيطرة على النفوس
والأجساد التي تأسرها الشهوات.
إنه يسأل في الحقيقة عن الأدوات التي
تتيح له التحكم في هذا المجتمع، تحت شعار الحرية والحقوق!
قبل نحو سبعين أو تسعين سنة، كان ثمة
تفوق آخر يمثله الشيوعيون في الاتحاد السوفيتي وشرق أوروبا، وهؤلاء كانت محاكمتهم
مختلفة، ففي ذلك الوقت كانت الأسئلة التي تتوجه للإسلام الواقف في قفص الاتهام:
ما موقفك من الفقر والفقراء؟ ما موقفك
من الطبقية؟ ما موقفك من الطبقات الكادحة؟ ما موقفك من العدالة الاجتماعية وتوزيع
الثروة؟
وفي ذلك الزمن، دافع المسلمون عن
أنفسهم، واستخرجوا من الإسلام طريقته المثلى في حل مشكلات الفقر، ومحاربة تكدس
الثروة، ورعاية الفقراء وإنصافهم، وكانت فريضة الزكاة إجابة سحرية لصدّ هذا
الاتهام، فالمجتمع الإسلامي هو المجتمع الوحيد الذي تحركت فيه الجيوش لمعاقبة الممتنعين
عن الزكاة، إذ هي حق الله في المال، وهي كالصلاة تماما.
هذا فوق ما في الإسلام من حث على
الصدقة والإنفاق وعلى إعتاق العبيد وتحريرهم وعلى وقف الأوقاف لرعاية الضعفاء وذوي
الحاجة!
هذه الإجابات -يا عزيزي القارئ- تختفي
في زماننا هذا اختفاء تاما، لأن الغالب الآن لا يهتم بالفقر ولا يأبه للفقراء..
الغالب الآن يهتم بالحرية العلمانية.
ولذلك، فبينما كانت فريضة الزكاة إجابة
ساحرة باهرة لقوم يهتمون بالفقراء، فإن إقامة حرب ضد مانعي الزكاة هي الآن وحشية
وظلم وانتهاك لحقوق الإنسان، وظلم لأصحاب الأموال واعتداء على أموالهم، بل اعتداء
على حريتهم الدينية.. فالدين ليس بالإكراه ولا بالإجبار، ومن شاء فليؤمن وليؤدِ
الزكاة ومن شاء فليكفر!
أليس هذا لسان الدولة العلمانية
والحرية وحقوق الإنسان الرأسمالي؟!
هذا مع أن نفس نفس هذه الدولة تأخذ
الضرائب الجائرة من الناس، وهي التي تفوق الزكاة أضعافا مضاعفة، وتقرر عليهم مزيدا
من الضرائب كلما شاءت، وتعتبر التهرب من الضرائب جريمة كبرى تعاقب عليها!
ألم تعلم -عزيزي القارئ- أن الضرائب في
الإسلام حرام، وأنه لا يجوز فرضها إلا لضرورة قاهرة ولفترة استثنائية، وذلك حين
يخلو بيت المال ويحتاج المسلمون إلى دفع أمر عظيم كعدو محتل أو كارثة طبيعية،
وأنها -إذا فرضت- تؤخذ من الأغنياء لا من الجميع؟!
هذا حديث آخر.. تكلمنا فيه سابقا..
(بعض ذلك هنا: https://t.me/melhamy/1665 - https://youtu.be/AvJPtppr_gQ - https://www.youtube.com/watch?v=x7HfN0xnL2k - https://youtu.be/AvJPtppr_gQ - https://t.me/melhamy/1614)
ولكن المقصود الآن، أن المنقبة
والمفخرة أمام غالب متفوق يزعم أنه مهتم بالفقراء، هي ذاتها تصير المنقصة والمثلبة
والمعرة التي نبحث لها عن تأويل أمام غالبٍ متفوقٍ يزعم أنه مهتم بالحريات!!
وهذا يفسر لك كيف كثرت في ذلك الزمن
المؤلفات التي عنيت بالدفاع عن الإسلام أمام هذه الفتن، مثل: "اشتراكية
الإسلام" أو "العدالة الاجتماعية في الإسلام" أو "كيف عالج
الإسلام مشكلة الفقر" ونحو ذلك.. وينبغي هنا ألا نسارع إلى اتهام من ألَّف
"اشتراكية الإسلام" بأنه منهزم، بل هو إنما استجاب لواقع وقته ومحنة
عصره.. إلا أن يكون زاد في الإسلام أو نقص لمغازلة الغالب المتفوق.. مثلما لا تجد
أحدا في عصرنا هذا يكتب كتابا بعنوان "الحرية في الإسلام" أو "حقوق
الإنسان في الإسلام"، فليس هذا انهزاما وافتتانًا إلا أن يكون في محتواه قد
زاد في الإسلام أو نقص منه.
ها أنت ترى شوقي يمدح نبينا بأنه إمام
الاشتراكيين، لا يقصد بهذا طبعا أن يجعل نبينا تابعا لهم أو حتى متصفا بصفاتهم،
إنما قصد هذا المعنى من العدالة الاجتماعية ورعاية الفقراء.
الذي أريد قوله، والذي أقصده، بعد هذا
الكلام الطويل أن أكثر ما نحتاجه في واقعنا الآن هو ما نعجز عنه..
نحن نعجز عن إظهار صورة نبينا ﷺ
باعتباره منقذا للبشرية، وباعتباره دينه هو الحل لمشكلاتنا المعاصرة.
بعض هذا العجز يرجع إلى الجهل.. فإن
كثرة الكلام عن جمال نبينا وأنه وُلِد يتيما وأنه تعرض للاضطهاد وأنه كان رحيما..
كثرة الكلام عن هذه الجوانب تُغَطِّي على الجوانب الأخرى الأهم التي نحتاجها في
واقعنا المعاصر، وإذا عرفها الناس علموا أن نجاتهم في اتباعه.
وبعض هذا العجز يرجع إلى سطوة الثقافة
الغالبة، فيظن الداعية أو المتكلم أن هذه أمور لا توافق المزاج العام، وتفتح عليه
سيلا من الاتهامات والمشكلات، هذا إن كان الداعية نفسه مستوعبا لهذه السطوة.. ولكن
كم يكون الداعية نفسه مأسورا لهذه الثقافة، ويحيك في صدره بعض ما يصح عن النبي ﷺ
فيكتمه ويلتمس له التأويل!
وبعض هذا العجز يرجع إلى الخوف
والمحاصرة والتعتيم الإعلامي، فإن الكلام عن هذه الجوانب التي لا تعجب الغالب
المتفوق الذي يملك مفاتيح الإعلام والأموال، فوق ما يملكه من القبضة الأمنية
القاهرة والأذى الرهيب، يجعل الذين يعرفون يتجنبون الحديث في المخاطر.. ولهذا يختفي
الحديث عن نبينا الثائر المقاتل، وعن نبينا القائد السياسي الحكيم، وعن نبينا الذي
لا يتهاون مع الباطل ولا يتوافق معه ولا يخضع له، وعن نبينا الذي لا يلدغ من جحر
مرتين، وعن نبينا الذي يطبق الحدود ويُنصر بالرعب ويحرض المؤمنين على الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
إننا نحتاج إلى قوة نفسية أولا، ثم إلى
قوة فكرية وعلمية ثانيا، ثم إلى بلاغة وفصاحة وبساطة في الخطاب ثالثا، كي نستطيع
في النهاية أن نتكلم عن نبينا فيشعر السامع، مسلما كان أو غير مسلم، أن هذا النبي
هو الرجل المنقذ الذي لا بد من اتباعه.. هو الرجل الذي قدَّم قديما من الوصايا
والتعاليم والهدايات ما يزال حتى الآن ناجعا شافيا!
هذا هو واجب المعاصرين حين يحتفلون
بالنبي الكريم، فلو أن حفلات المولد الشريف كانت حديثا في فضل النبي على العالمين،
وفي حل النبي لمشكلات البشر أجمعين، لكانت موسما دعويا عظيما يتدفق فيه الناس على
الإسلام!
وهذا على كل حال خير لأهل الإسلام
ولبني الإنسان من حفلات الطرب والسماع وتوزيع الحلوى وإقامة الولائم.