أعسر الكلام
كلامٌ يضطر المرء معه لبيان موقفه بعد أن أسيئ فهمُه!.. فهذه السطور من هذا النوع،
فالله المستعان!
اللهم اجعل كلامى وكتابتى خالصة لوجهك الكريم، اللهم لا تجعل لأحد سواك فيها نصيبا، اللهم طهرها من الرياء والعجب، والغرور والكبر، والعناد والانتصار للنفس، وحب الشهرة وحب المدح.. اللهم إن كان فيها الخير فيسرنى لها ويسر نشرها وقراءتها، وإن كان فيها الشر فأبعدنى عنها وعسرها لى واكتب لها الموت والفناء.. إنك نعم المولى ونعم النصير.
أعسر الكلام
كلامٌ يضطر المرء معه لبيان موقفه بعد أن أسيئ فهمُه!.. فهذه السطور من هذا النوع،
فالله المستعان!
قال الفرزدق يوما: "إنّا لنعرف
سجدة الشعر كما تعرفون السجدة من القرآن"، يريد بذلك أن يقول إن الشعر يبلغ
أحيانا في قوة المعنى وجودة التعبير ما يخضع له الشعراء لسطوته وإطرابه، وأكاد
أقول: لكل قومٍ في فنِّهم شيءٌ مثل هذا، العبارة يطلقها الخبير في بابه فتسري مسرى
النار في الهشيم والنور في الليل البهيم! فتشهد لصاحبها بالقوة والعبقرية، وتنحل
بها إشكالات وتنفتح بها آفاق وتأملات!
شعرتُ بقول الفرزدق هذا حين قرأت كلمة
الإمام القرافي التي يقول فيها: "لو لم يكن لرسول الله ﷺ معجزة إلا أصحابه
لكفوه في إثبات نبوته"[1].
فتلك كلمةٌ تشهد لصاحبها بالقوة والعمق
في قراءة التاريخ وفهمه، وفي معرفة أحوال الرجال وتقدير أثرهم، فإن أحوال الصحابة
هي من معجزات النبي ﷺ، فما من شخص عظيم من صاحب دعوة أو مؤسس حضارة قد خلَّف بعده
من أصحابه مثلما كان صحابة محمد ﷺ.
فإنه لم يقم أحد ببلاغ دين الأنبياء
مثلما قام أصحاب النبي ﷺ بإبلاغ دينه لمن بعدهم، فقد حفظوا صفته وكلامه وإشاراته
وسيرته، وكانوا يعلمونها أبناءهم كما يعلمونهم السورة من القرآن الكريم، ولم ير
النبي منهم ما رآه موسى من أصحابه، ومات بينهم عزيزًا مُمَكَّنًا لا كما وُصِل إلى
عيسى وأريد صلبُه من بين حوارييه! فهم خير أصحاب لنبي في الدين وفي الدنيا!
كذلك لم يقم أحدٌ بالحفاظ على إرث زعيم
وقائد كما قام بذلك أصحاب محمد مع إرثه، فما من مؤسس مملكة وحضارة ودولة كان له من
طول الأثر وخلود الذكر وقوة المملكة واتساعها وطول بقائها بعد موته كما كان للنبي
محمد ﷺ، فقد رحل النبي ﷺ وقد خضعت له الجزيرة، وبعد مائة عام من رحيله كانت دولة
الإسلام قد بلغت من الصين إلى فرنسا! بينما ما مرَّ القرنُ على رحيل جنكيز خان إلا
وكانت مملكته قد انقسمت إلى أربعة! وما إن مات الإسكندر الأكبر حتى انقسمت مملكته
من بعده.
إن صحابة النبي ﷺ ينافسون عظماء الدنيا
في كل باب، بل المنافسة محسومة لهم في كل باب، فما في الدنيا خلفاء سادوا الناس
وساسوهم بالعدل والرحمة والفضل كما فعل خلفاء النبي ﷺ، وليس في الدنيا زعيم
سياسيٌّ كأبي بكر استلم الحكم والعاصمة مهددة بالاجتياح ثم مات عنها وهي قوة عظمى
تقاتل القوتيْن العظميين في وقت واحد، وذلك كله في عامين. وليس في الدنيا حاكم مثل
عمر تضاعفت مساحة البلاد في عهده أربع مرات ودخلت في ظله خمسة أعراق على الأقل دون
أن تشهد توسعاته مذابح ومظالم بل كان عهده مثالا للعدل.
والعسكريون في كل زمن وأرض يعرفون
ويخضعون لخالد بن الوليد، بطل الفتوح في فارس والروم، وصاحب أسرع الفتوحات ضد أقوى
الإمبراطوريات في زمنه، ومثله نجوم الفتح معه كالمثنى بن حارثة الشيباني، وسعد بن
أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجراح.. ثم يزيدُ هؤلاء الصحابة عن سائر العسكريين أنهم
لم يدرسوا الحرب في كليات ولا أكاديميات ولا خاضوا مناورات تدريبية! ومع ذلك فههم
أصحاب "أعظم الأعمال إثارة للدهشة في التاريخ الحربي كله"[2].
ثم يزيدون على سائر العسكريين كذلك بما كان فيهم من الزهد والورع، والنزول السهل
السلس عن الإمارة والمنصب[3]!
بل حتى العِلْمُ والذكاء والعبقرية،
فإن قومًا ربما ظنُّوا أن هؤلاء الصحابة كانوا من بساطة الحياة في حال من السذاجة
والبداوة والجهالة، وأحتاج أن أتوقف هنا لحظة لأحكي حكاية مهمة: هذا القرافي،
الفقيه الأصولي المحقق المدقق، صاحب الدرة البديعة في علم الأصول، أي: كتابه
"الفروق، لا يعرف كثير من الناس أنه كان مهندسا مخترعا، وأنه قبل أكثر من
ثمانية قرون اخترع ما نسميه الآن إنسانا آليا يقوم بخدمة صاحبه، يقول في وصفه:
"بلغني أن الملك الكامل (الأيوبي) وُضِعَ له شمعدان، كلما مضى من الليل ساعة
انفتح بابٌ منه، وخرج منه شخص يقف في خدمة السلطان، فإذا انقضت عشر ساعات طلع شخص
على أعلى الشمعدان وقال: صبَّح الله السلطان بالسعادة، فيعلم أن الفجر قد
طلع". ثم يضيف القرافي بأنه لما سمع بنبأ هذا الاختراع صنع مثله، يقول:
"وعَملتُ أنا هذا الشمعدان
وزِدْتُ فيه أن الشمعة يتغير لونها في كل ساعة، وفيه أسد تتغير عيناه من السواد
الشديد إلى البياض الشديد، ثم إلى الحُمرة الشديدة في كل ساعة لهما لون، فيعرف
التنبيه في كل ساعة، وتسقط حصاتان من طائرين، ويدخل شخص، ويخرج شخص غيره، ويغلق
باب ويفتح باب، وإذا طلع الفجر طلع شخص على أعلى الشمعدان وإصبعه في أذنه يشير إلى
الأذان، غير أني عجزت عن صنعة الكلام، وصنعت أيضا صورة حيوان يمشي ويلتفت يمينا
وشمالا ويصفر ولا يتكلم"[4].
أحكي هذه القصة لأنبه إلى أن هذا الرجل
البارع في علوم الدين والدنيا، هو الذي يقول: "أصحاب رسول الله ﷺ كانوا بحارًا
في العلوم على اختلاف أنواعها من الشرعيات والعقليات والحسابيات والسياسات والعلوم
الباطنة والظاهرة"[5].
وهذا ابن تيمية، شيخ الإسلام الذي لا
يختلف أحد على قوة عقله وعبقريته، يذكر أن أذكياء الأمة كلها عبر التاريخ كانوا
يتوقفون عند قول الصحابي، فيستدل على ذكاء الصحابة بذكاء أتباعهم، يقول: " كل
أحد يعلم أن عقول الصحابة والتابعين وتابعيهم أكمل عقول الناس. واعتَبْر ذلك
بأتباعهم، فإن كنت تشك في ذكاء مثلِ مالكٍ والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة
وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزُفَر بن الهذيل والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن
إبراهيم وأبي عبيد وإبراهيم الحربي وعبد الملك بن حبيب الأندلسي والبخاري ومسلم
وأبي داود وعثمان بن سعد الدارمي، بل ومثل أبي العباس بن سريج وأبي جعفر الطحاوي
وأبي القاسم الخرقي وإسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرهم من أمثالهم، فإن شككت في ذلك
فأنت مُفْرِطٌ في الجهل أو مكابر، فانظر خضوع هؤلاء للصحابة وتعظيمهم لعقلهم
وعملهم، حتى انه لا يجترئ الواحد منهم أن يخالف لواحد من الصحابة إلا أن يكون قد
خالفه صاحب آخر. وقد قال الشافعي رحمة الله عليه في الرسالة: أنهم فوقنا في كل عقل
وعلم، وفضل وسبب يُنال به علم، أو يُدرك به صواب، ورأيهم لنا خيرٌ من رأينا
لأنفسنا"[6].
فهذا شأنهم في العلم والذكاء، وقوة
العقل والفهم والعبقرية..
وأي شيء أدلُّ على قوة الشخصية وشدة
العزم وصلابة النفس من قومٍ انخلعوا من أفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم وولائهم
لأقوامهم، ليتبعوا رجلا مضطهدا جاء بدعوة جديدة متعرضين بهذا للعذاب والنبذ في
بيئة لا انتماء فيها ولا رابطة أقوى من رابطة الدم؟! بل إن بعضهم -كمصعب بن عمير-
انخلع مما هو فيه من طيب العيش ورغد الحياة ليعيش حياته بعدها فقيرا معدما حتى
يموت. وبعضهم ينزل عن زعامة الناس ليُسَلِّمها طائعا مختارا لرجل غريب طارئ في
بيئة أشدُّ ما عليها أن يحكمها من ليس منها كما فعل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة
وزعماء الأنصار؟! هذا فضلا عن الذين خرجوا من أموالهم كلها أو شطرها أو قسمٍ عظيم
منها لينفقوها في سبيل الله، حتى كان بعضهم يتصدق بالقبضة من التمر لا يجد غيرها!!
وبعضهم كانت عينه تفيض من الدمع لأنه لم يجد سبيلا ليجاهد بنفسه في سبيل الله!!
إن الذي تميَّز به الصحابة عن سائر
الناس هو ما انطوت عليه نفوسهم من الدين والإيمان والتقوى، والزهد في الدنيا وطلب
الآخرة، وبهذا كان عمل الواحد منهم لا يُلحق، كما وصف ذلك النبي ﷺ بقوله: "لو
أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا، ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه"[7]،
وكما فسره ابن مسعود رضي الله عنه حين قال للتابعين: "أنتم أكثر صلاة وأكثر
صياما وأكثر جهادا من أصحاب محمد ﷺ، وهم كانوا خيرا منكم. قالوا: وبم ذاك؟ قال:
كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب منكم في الآخرة".
إن فضل الصحابة ومكانتهم يجتمع عليه
العقل والنقل، فلو كان الإنسان كافرا لا يؤمن بالله ولا بالرسول لرأى في تاريخ
هؤلاء من وجوه العظمة ما يخضع له، سواءٌ في ذلك تغيرهم هم في أنفسهم وانتقالهم
الكبير بل انسلاخهم التام من الجاهلية إلى الإسلام، أو تغييرهم للعالم من حولهم،
إذ العالم بعدهم غير ما كان قبلهم تماما، فكأنهم قلبوا الدنيا وأعادوا نظامها من
جديد!
فأما المسلم، فيكفيه ما جاء في فضل
هؤلاء في كتاب الله وسنة رسوله، بل يكفيه نصٌّ واحدٌ فحسب من ذلك كله، فكيف
بالمسلم يمرُّ على قول الله تعالى {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} ولا تأخذه
رعدة؟! إن الله تعالى ذكَّر نبيَّه بأن هؤلاء الصحابة هم من نِعَم الله عليه، وهم
من تأييد الله له، وأن الله تعالى غرس في قلوبهم الحب والألفة التي لا يُستطاع
بلوغها {وألَّف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم، ولكن
ألّف بينهم}.
وما من مسلم يُعَظِّم رسول الله، ثم
يرى منه هذا الحب لصحابته، إلا وهو مدفوعٌ لمحبتهم، محبة تغلب عليه وتأخذ منه
بأقطار نفسه! إذ كيف يجتمع في قلبٍ واحدٍ حب النبي وبغض أصحابه! وذلك كان جواب ابن
عمر لرجل من الخوارج جاء يسأله عن عثمان، فمدحه ابن عمر، ثم رأى الكراهة في وجه
الخارجي فقال له: لعل هذا يسوؤك؟ قال الخارجي: نعم. قال ابن عمر: فأرغم الله
بأنفك! ثم سأله الرجل عن عليّ، فمدحه ابن عمر وأشار إلى بيت علي يقول: هو ذاك
بيتُه أوسط بيوت النبي ﷺ، ثم رأى الكراهة أيضا، فقال له: لعل هذا يسوؤك؟ قال
الخارجي: نعم. قال ابن عمر: فأرغم الله بأنفك!
وهذه الإشارة الذكية من ابن عمر من أن
عليًّا كان بيته أوسط بيوت النبي، أي ذلك دليل محبة النبي له، هي مدخلٌ يختبر
المرء به إيمانه، فإن النبي ﷺ صاهر أبا بكر وعمر، وزوّج ابنتيه من عثمان وزوّج أحب
بناته إليه من علي! ولا يكاد يُرى سائرا إلا وفي رفقته أبو بكر وعمر، وشهد لعثمان
بالجنة والشهادة، وشهد لعلي بأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.
ومن هنا فإن الذي يبغض الصحابة، لا
سيما أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، إنما يشير إلى نفسه بفراغه من الإيمان والدين، فإن
كان صاحب الرسالة يحبهم، وإن كان هؤلاء هم أنصار الدين منذ بزغ وإلى أن صار قوة
عظمى عالمية، فمن الذين تُصرف لهم المحبة في الدين إن لم يكن هؤلاء؟!
وأشدُّ من ذلك أن طعنه في هؤلاء لا بد
سيصل إلى الطعن في النبي ﷺ نفسه صاحب الرسالة، فإن كان هذا النبي قد صرف محبته
لغير مستحق، فأي رجل هو؟ هل خان الرسالة -حاشاه-؟ أم هو غير بصير بالرجال –حاشاه-؟!
وإذا كان ألصق الناس بالنبي ﷺ قد خانوا
وبدّلوا كما يزعم أولئك الذين يبغضونهم، فمن هم أهل الصلاح إذن؟ فإن كان صاحب
الرسالة قد أخفق في تربية أقرب أصحابه وتعليمهم وتزكية نفوسهم، فكيف يمكن أن يكون
هذا الرجل عظيما ومعلما ومربيا؟!
هذه البدهيات العقلية هي التي جعلت
علماءنا حساسين للغاية لمن يبغضون الصحابة أو يسبونهم، وجعلت كثيرين منهم ينظرون
إلى هذه الظاهرة بأنها كفرٌ مستتر، فهذا المبغض عجز عن أن يطعن في صاحب الرسالة
نفسه فالتمس صحابته ليتوصل من خلالهم إلى الطعن فيه، كما قال الإمام مالك رحمه
الله. ومثله مقالة الشعبي: ائتني برافضي صغير أُخرج لك منه زنديقا كبيرا.. فإن
الطعن في الصحابة لا يلبث بالمجهود القليل أن يتحول إلى الطعن في النبي ﷺ نفسه.
وللشيخ العلامة الهندي أبي الحسن
الندوي كتاب عنوانه "صورتان متضادتان"، يُركّز فيه على هذا المعنى،
فصورة الصحابة عند أهل السنة تشير إلى نبي عظيم ومصلح كبير ومربٍّ قدير، بينما
صورتهم عند الشيعة تشير إلى نبي لا يستحق وصف العظمة بحال لأن أصحابه قد ارتدوا من
بعده وخانوا رسالته!!
إن موقف المرء من الصحابة هو من علامات
دينه ومن علامات عقله كذلك! فالذي يقع في الصحابة يشهد على نفسه بخلّوه من الدين
ومن العقل معا!
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن قال
فيهم {والذين جاءوا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا
بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم}
نشر في مجلة "أنصار النبي"، ديسمبر 2022م
[1] القرافي،
الفروق: أنوار البروق في أنواء الفروق، (بيروت: عالم الكتب، د. ت)، 4/170. ونسبها
لبعض الأصوليين.
[2] ول ديورانت، قصة الحضارة،
ترجمة مجموعة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م). 13/ 73.
[3] أحسن ما اطلعت عليه في
التأريخ الحربي للفتوحات الإسلامية كتب الأستاذ أحمد عادل كمال، وهي سلسلة
"استراتيجية الفتوح الإسلامية".
[4] القرافي، نفائس الأصول شرح
المحصول، (القاهرة: مكتبة نزار مصطفى الباز، 1995م)، 1/441، 442.
[5] القرافي، الفروق، 4/170.
[6] ابن تيمية، درء التعارض بين
العقل والنقل، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، ط2 (الرياض: جامعة الإمام، 1991م)، 5/71،
72.
[7] البخاري (3470).
بعد تسع سنوات
من الحكم الشمولي الرهيب، وقف عبد الفتاح السيسي في كلمته نهاية المؤتمر الاقتصادي
بتاريخ 25 أكتوبر 2022م، يشكو من أن الأزهر لا يطاوعه فيما يريد، وضرب مثلا على
ذلك بموضوع الطلاق الشفوي، فالسيسي يريد من الأزهر أن يفتي بأن الطلاق الشفوي لا
يقع، ولا يقع الطلاق بين الرجل وامرأته إلا بتوثيقه في المحكمة.
هذا مع أن
السيسي –كما اعترف وزير العدل في المؤتمر نفسه- ماضٍ في إعداد قانون للأسرة، ومع
أن شيخ الأزهر الحالي من رجال الدولة المهادنين، ومع أن الأزهر في أضعف حالاته عبر
التاريخ تجاه السلطة!
وإذن، فالصورة على هذا النحو: لم يستطع
طاغية في عنفوان قوته أن يستخرج من مؤسسة دينية إسلامية في أقصى حالات ضعفها، وتحت
رئاسة رجل مهادن تابع للدولة، لم يستطع أن يستخرج منها تغييرا في حكم فقهي!
يقف الإسلام هذا الموقف في ذات الوقت
الذي هُزِمت فيه المسيحية أمام العلمانية وخضعت تماما لسلطة الدولة، وأجازت بل
رحبت بما كان محرما تحريما قطعيا كزواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، وكالتحول
الجنسي للذكر والأنثى، وغيرها. وكذلك هُزِمت اليهودية أمام تيار الحداثة، فحتى
دولتها الصغيرة يحكمها النظام العلماني، وطبيعة الحياة فيها هي أقرب للحياة
الغربية العلمانية، وليست لشريعتها اليهودية.
إن الحضارة الغربية أنتجت نظاما تهيمن
فيه الدولة على الدين، ويكفي أن يُقِرَّ برلمانها قانونا لتخضع له الأديان،
فالديمقراطية فوق الدين وهي المهيمنة عليه والمتحكمة فيه.
وهذا المشهد ينبغي أن يوقفنا أمام هذا
السرِّ العظيم في الإسلام، السر الذي يجعل الدين متساميا على السلطة، فهو فوق
الدولة، بل الدولة ذاتها بنت الدين، إذ نشأت الدولة في الإسلام من رحم الدين،
ونشأت لتقيمه وتقوم بشأنه، والدين هو المرجعية العليا، وهو الذي تستمدُّ الدولةُ
شرعيتها منه، والمسلمون يطيعون هذه السطلة ما
كانت ملتزمة بهذه المرجعية، وهم ينصحونها ويقومونها وفقا لهذه المرجعية، أو هم
يثورون عليها ويخلعونها ويرون ألا طاعة لها عليهم إذا نبذت هذه المرجعية وانخلعت
عنها.
وقد زعم
السيسي أن جهازا أمنيا عرض مسألة الطلاق الشفوي على مجلس من العلماء، فأقروه، فلما
طالبهم أن يُعلنوا هذا رفضوا قائلين: لو أننا أعلنَّا إقرارنا له، فسيظهر أننا
نؤيد السلطة ونوظِّف الدين لها.
فلو أنه صدق
في هذا، ولست أصدقه، فهذا الكلام نفسه دليلٌ على ما أنشأه الإسلام في علمائه وفي
المجتمع من حساسية بين العلماء والسلطة، وأن العالِم يجتهد في أحرج أوقات ضعفه
لئلا يكون محسوبا ضمن علماء السلطة. بينما ليس يجد الحبر والكاهن بأسا في أن يتبع
الملك أو الإمبراطور صاحب السلطة الزمنية، فإن القسّ يعتنق أن "ما لقيصر
لقيصر" وأن مملكته في السماء، وليس يجد القانوني والدستوري بأسا في الخضوع للرئيس
والأمير في الدولة العلمانية، فإن تكوينه الفكري والثقافي والاجتماعي يجعله موظفا
ضمن نظام الدولة، وقد أشربته السلطة من مناهجها وأنشأته في أروقة نظامها، فهو
دولتي بطبعه!
إن هذا هو
المدخل الذي ندلف منه للإشارة إلى هذا البناء العظيم الشامخ الذي أقامه المحدثون،
أولئك الرجال الذين جمعوا سنة النبي ﷺ فحفظوها ورووها ودونوها، وفهرسوا
رواتها وفحصوهم فغربلوهم وتتبعوهم حتى منحوا أمتنا فخرا خطيرا ليس لأمة في التاريخ
الإنساني مثله.
لقد حاول بعض الناس الطعن في المحدثين
من جهة السياسة، فزعموا أن تدوين الحديث وتصحيحه وتضعيفه تأثر بالسياسة والسلطان،
ثم لم يستطع واحدٌ منهم أن يقدِّم دليلا واحدًا على حديث واحدٍ صححه المحدثون،
كُتِب أو دُوِّن برغبة السلطة! بل إن المنهج النقدي الصارم الذي أسسه المحدثون لو
طُبِّق على التاريخ فلن يبقى لدينا تاريخ، لأنه ما من خبر من أخبار التاريخ يُروى
بالسند المتصل من العدل الضابط عن مثله من مبتدئه إلى منتهاه، ولا تكتنفه شذوذ أو
علة!
بل إن أرقى ما وصلت إليه مناهج البحث
المعاصرة من التوثيق العلمي والصرامة المنهجية هي أقل من شروط الحديث الصحيح لدى
المحدثين، ففي أرقى جامعة علمية في هذا العصر، يكفي الباحثَ أن يوثق معلومة أخذها
إذا ذكر اسم الكتاب ومؤلفه والطبعة ورقم الصفحة. هذا نفسه لم يكن مقبولا لدى
المحدثين، بل كانوا ينظرون في صاحب الكتاب ويختبرون هل كان يكتبه بنفسه أم يمليه؟
وهل كان ثمة أحد من ولده أو تلاميذه يمكن أن يُدخل في الكتاب ما ليس منه؟ وهل صاحب
الكتاب يتذكر ما في كتابه جيدا أم يمكن إذا غولط في بعض معلوماته أن يغلط أو ينسى؟
ولهم في هذا مواقف عجيبة وطرائف غريبة من اختبار التلاميذ لشيوخهم ليحققوا ضبط
النقل. هذه الشروط لا يمكن للباحث المعاصر في أرقى جامعة علمية معاصرة أن يحققها،
إذ لا يمكن لأحدٍ يمسك بالكتاب أن يضمن تماما كون كل كلمة فيه قد خطَّها المؤلف،
وأن الكتاب سالمٌ من تدخل باحث مساعد أو مراجع لغوي أو محرر أو دار النشر، ثم كم
في الباحثين المعاصرين من يستطيع الوصول إلى مؤلف كل كتاب، فيختبره في كتابه،
فينظر إن كان قد نسي شيئا منه أو لم يضبطه!!
لذلك كله، استحال على الطاعنين أن
يقدموا دليلا واحدا على أن تدوين الحديث قد خضع لرغبة السلطة! وسائر ما كتبوه في
هذا مجرد ثرثرة ولغو فارغ!
لقد ظن المستشرقون وتلاميذهم من
العلمانيين أن المحدثين كانوا من علماء السلاطين، ذلك أنهم يتصورون العلاقة بين
العلماء والسلطة كما كانت العلاقة بين الكنيسة والقصر في العصور الأوروبية الوسطى،
أو بين مؤسسات الثقافة والسلطة في عصر الدولة الحديثة. لقد فات كثيرا منهم أن
الإسلام لم تكن فيه هذه السلطة المتغولة، وأن نظامه جعل السلطة محدودة الصلاحيات،
وأن طريقة التلقي العلمي للقرآن والسنة -من النبي إلى الصحابة إلى التابعين إلى
تابعيهم وحتى مصنفي كتب الحديث- لم تكن تمرُّ عبر السلطة، ولم تكن تتأثر بها.
بل إن الأمة الوحيدة التي هزمت
المعرفةُ فيها السلطة هي أمتنا الإسلامية، فبينما كان الحكم للأمويين والعباسيين،
وبينما كان العلويون هم المعارضة المضطهدة سياسيا، كانت البيئة العلمية تزخر
بالأحاديث الكثيرة المنتشرة في فضل علي رضي الله عنه، بينما تقل الأحاديث جدا في
فضل معاوية والعباس –رضي الله عنهما- وهما أساس الدولتين الكبيرتين: الأموية
والعباسية.
ما من أمة استطاع أهل العلم فيها أن
يغلبوا سطوة السلطة وترويج ما يزعجها ويربكها سوى أمتنا الإسلامية، حتى إن
الاحتكاك الوحيد المعروف بين العلماء والخليفة في عصر تدوين السنة كان هو قضية خلق
القرآن، وهُزِمت فيها السلطة أيضا. وسوى ذلك لا نعرف أن السلطة حاولت إجبار
المحدثين على اختراع أحاديث لنصرتها. ولو حصل هذا لكانت فضيحة أشهر وأكبر وأعظم من
فضيحة محنة خلق القرآن!
وبهذه المناسبة فيجب أن أشير هنا إلى
ثلاثة كتب متميزة في هذا الموضوع، موضوع براءة المحدثين من الخضوع للسلطة، وبراءة
السلطة الإسلامية من إجبار المحدثين على اختراع حديث منسوب للنبي ﷺ لتأييدها:
1. الأول هو كتاب "المحدثون
والسياسة"، وهو رسالة دكتوراة للشيخ الدكتور إبراهيم العجلان، وهو سِفْرٌ
جليل في تسعمائة صفحة، صدر قبل خمس سنوات (2017م) عن مركز البيان للبحوث، وفيه
تتبع الرجل مطاعن القائلين بتأثير السياسة في رواية الحديث، ثم عاد عليها بالنقد
والنقض، وإثبات ما فيها من المبالغة والمجازفة حتى كأنه لم يترك بعده قولا لقائل.
وكنتُ قد كتبت مقالا عن هذا الكتاب فليُرجع إليه.
2. والثاني هو كتاب "أسباب إيراد
الحديث" للأستاذ الدكتور بكر قوزدوشلي، وهو كتاب لطيف وفكرته مبتكرة، إذ تتبع
المؤلف فيه الأسباب التي دفعت الصحابة والتابعين لرواية الحديث، من خلال ما تكشفه
الروايات نفسها، ليجمع بذلك صورة تاريخية لحركة رواية الحديث في القرن الأول
الهجري، فينكشف في سياق هذه الرحلة اللذيذة حقا كيف أن دوافع رواية الحديث كانت
علمية ودعوية خالصة، وأنها استحثتها الحوادث والحاجة بأكثر مما سيَّرتها إرادة
سلطوية، بل إن الإرادة السلطوية تغيب تماما عن هذا المجال، ولئن حضرت السياسة
فإنما يُروى الحديث عادة لتقويمها وإدانتها وتصحيح اعوجاجها!
3. والثالث هو كتاب "السلطة
السياسية وحركة رواية الحديث ونقده" للدكتور أحمد صنوبر، الأستاذ المساعد في
قسم الحديث بجامعة 19 مايو في اسطنبول، وهذا الكتاب هو وقفة مع أحاديث الفضائل
المتعلقة بعلي ومعاوية والعباس –رضي الله عنهم جميعا- وفيه يرصد انتشار الأحاديث
المتعلقة بكل منهم في عصري الدولتين الأموية والعباسية، ليختبر حقيقة الشبهة التي
تقول بتأثير السلطة في تدوين الحديث. ثم يختبر فرضية أن تكون الأسانيد مزوّرة قد
اتفقت جماعة المحدثين على تزويرها، فيرصد عوائق التزوير الداخلية (المتعلقة
بالسند) والخارجية (المتعلقة بالظروف والأوضاع العامة) وما أسماه "الانسجام"
بين المعلومات الواردة عن الرواة في كتب الحديث والرجال والتاريخ المشرقي
والمغربي، بما يستحيل معه اختراع راوٍ تدور عليه الرواية! وفي الكتاب –الذي سيصدر
قريبا إن شاء الله- أمورٌ أخرى لا أريد أن أكشفها كلها. وقد سعدنا في هذا العدد من
مجلة "أنصار النبي ﷺ" بانضمام د. أحمد صنوبر إلى كُتّابنا، معرفًا
بكتابه الصادر حديثا "من النبي ﷺ إلى البخاري"، والذي هو تبسيط لتاريخ
رواية الحديث منذ تفوه به النبي حتى وُضِع في كتب السنة الصحيحة، وكيف انتقل
الحديث من النبي إلى الصحابي، ثم منه إلى التابعي، ثم من التابعين إلى تابعيهم، ثم
من هؤلاء إلى جامعي الحديث ومدونيه ومصنفيه، وكيف صحب هذا الانتقال منهج نقدي علمي
حال دون أن يتأثر الحديث بأي رغبة سياسية!
والواقع أني أراني محتاجا لأن أتقدم
على هؤلاء الأساتذة الأفاضل خطوة، فلئن كانوا قد دافعوا عن المحدثين فبرؤوهم حتى
ما تركوا مقالا لقائل، فأجدني مضطرا للدفاع عن السلطة الإسلامية التي لم تجد من
يدافع عنها؛ ذلك أن صورة السلطة في أذهاننا نحن المعاصرين هي سلبية غالبا أو حتى
دائما، فكأن السلطة والشرّ قرينان، ولست ألوم المعاصرين على هذا التصور، كذلك فإن
أسلافنا المتقدمين قد أفاضوا في نقد السلطة الإسلامية وإدانتها والنكير عليها حتى
يتصور قارئ كلامهم أنها كانت سلطة على غرار الطغيان والاستبداد الذي نحياه في
أيامنا هذا!
ومعاذ الله! إنك لا تجد في تاريخنا
الإسلامي خليفة صالحا أو ظالما فكَّر في اقتراف الكذب على رسول الله، أو حمل
المحدثين على ذلك بالرغبة أو بالرهبة، وحتى المأمون صاحب فتنة خلق القرآن، الذي
يضرب به المثل، لم يكن مريدًا للشر ولا ساعيا في هذه المحنة بغرض تثبيت سلطته
وتأييد سياسته، أبدًا، إنما اعتنق الرجل رأيًا باطلا، ظن أنه من الحق وأنه من
تنزيه الله وتوحيده ووصفه بالكمال، فاستعمل سلطة الدولة في نشر هذا الرأي وتأييده!
أي أنه كان ساعيا في نصرة ما يرى أنه الحق الواجب في ذات الله، ولم يكن ساعيا في
استخلاص شرعية لنفسه أو تأييدا لسلطته!
لم تخل أيام تاريخنا من المظالم
والأزمات، فإنما نحن بشر، ولكن لم يقف خليفة أو سلطان يوما ليقول: أرى أنه يجب أن
يكون كذا وكذا، ويجب على هؤلاء العلماء أن يخرجوا لي الفتوى بما أريد مهما كانت
تخالف ما يرونه، وإلا فإنهم غير خاضعين للدولة، وسأصنع بنفسي قانونا أضع فيه ما أريد
رغم أنوفهم بل بعيدا عنهم.
إن السلطة في تاريخنا الإسلامي، وفي
سياقنا الحضاري، لم تفعل هذا.. فإن قلنا: لم تفعله دينا فقد مدحناها بما كان فيها
من الدين والخضوع له والوقوف عند حدوده، وإن قلنا: لم تفعله عجزا فقد مدحنا نظام
الإسلام الذي لم يجعل للسلطة هيمنة على الدين والعلم، ولا سبيل إلى احتمال ثالث!
ولقد مرَّت على السلطة الإسلامية
أوقاتٌ لو شاءت فيها أو استطاعت أن تحذف حديثا أو تروي حديثا لفعلت، لشدة الحاجة
إليه، وأقربها إلينا زمانا تلك المحنة التي تعرض لها السلطان عبد الحميد الثاني،
فقد سعى الإنجليز في توظيف حديث "الأئمة من قريش" ليطعنوا به في شرعية
خلافة العثمانيين، واستثارة الشريف حسين ومن معه للانقلاب على العثمانيين،
وإغرائهم بخلافة عربية قرشية هاشمية، فلو كان عبد الحميد قادرا أو راغبا لسعى في
حذف هذا الحديث، ولكنه لم يرغب، ولو رغب لما قدر، بل طُبعت النسخة السلطانية
الحميدية من صحيح البخاري، وغيرها من كتب السنة في زمن عبد الحميد وبرعايته، وبقي
فيها هذا الحديث[1].
من الأولى بمن يثيرون المطاعن في
المحدثين أن ينظروا في أنفسهم، فإنهم لو أخلصوا للعلم وتجردوا له، لازدادوا إيمانا
بأن هذا الدين دين الله المحفوظ، ولازدادوا فخرا وتيها بتراث علمائنا الأولين
الذين بلغوا قبل ما يزيد عن ألف سنة ما لا تبلغه المناهج العلمية الآن[2].
نشر في مجلة أنصار النبي ﷺ، نوفمبر 2022م
[1] لمزيد من
التفصيل ينظر بحث: حديث الأئمة من قريش في العصر العثماني: https://bit.ly/3eccXSv
[2] للمزيد في
موضوع المقال،
ينظر بحث: فحص دعوى
تأثير السياسة في تدوين الموطأ: https://bit.ly/2JQ0KFr
وبحث: أخطاء فهم
الحديث في ضوء الثقافة المعاصرة: أحاديث طاعة الأمراء في البخاري نموذجا: https://bit.ly/2tZPNNd
يذكرنا شهر ربيع الأول بمولد النبي
الأعظم صلوات الله عليه، وفيه تستدعي الذاكرة ما قيل فيه ﷺ من القصائد والمدائح.
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى .. فالكل
في حق الحياة سواء
لو أن إنسانا تخيَّر ملة .. ما أختار
إلا دينك الفقراء
الاشتراكيون أنت إمامهم .. لولا دعاوى
القوم والغلواء
داويتَ متئدا وداووا فجأة .. وأخف من
بعض الدواء الداء
الحرب في حق لديك شريعة .. ومن السموم
النافعات دواء