اختصار مخل جدا في مسألة الفائدة، بمناسبة انهيار
الليرة التركية، وتصريحات أردوغان التي يُصِرّ فيها على خفض الفائدة البنكية.
وهذا الاختصار كلام بدائي جدا في باب الاقتصاد، ولكن المشكلة أن الألفاظ الفخمة الضخمة والمصطلحات الاقتصادية بعيدة عن الفهم لدى أغلب الناس، فكثيرا ما أكتشف أن الأمر يحتاج للكلام فيه.
بداية وقبل كل شيء، فإن فوائد البنوك هي الربا المحرم، وهذا الأمر بمثابة الإجماع العلمي، ولا يُعرف عالِمٌ معتبر أجاز فوائد البنوك دون شبهة اضطرار أو إكراه.. فالمسلم يلتزم بهذا الأمر الإلهي وإن لم يعرف حكمته وأبعاده الاقتصادية، وإنما هو يعرف بمقتضى إيمانه أن الربا خطير ومضر ومستجلب لغضب الله.
وبالمناسبة، فهذا الأمر، أي التزام المسلم بدينه دون معرفة الحكمة من الحكم الشرعي، هو من أقوى وأرسخ عوامل نجاح الإسلام وقوة الأمة الإسلامية.. إذ يكفي في معركة التحرر أن يُقال للناس: فوائد البنوك حرام، وهي الربا الذي يستجلب غضب الله ويأذن بحربه، فيمتنع كل متدين عن اقتراف هذه الجريمة.. ولولا هذا الدين لاحتجنا في إقناع الناس إلى كلام كثير كثير وتفصيل طويل طويل، وأغلب الناس لن يفهمه.
إذا تلقى المرء معرفة اقتصادية بدائية سيعرف أن الربا من أشد وسائل استعباد الناس واستنزافهم لحساب القلة الغنية المترفة، وهو مفسد للغني والفقير، فأما ضرره على الفقير فمعروف، وأما ضرره على الغني فإنه يزيده جشعا وطمعا وكسلا وتآمرا على الفقير، إن الربا يدمر أخلاق الإنسان ويجعله آلة مادية نهمة وشرسة!
وأما ربا البنوك فهو أشد بكثير من ربا المعاملات الفردية، فالبنوك الآن هي شرايين النظام العالمي المالي، وهي مؤسساته التي لا تقل خطرا عن القواعد العسكرية، وهي محمية ومسلحة بالقوانين وبالجيوش، ومهمتها ليس استعباد الأفراد وحدهم، بل استعباد الشعوب كاملة.. فالبنوك في كل بلد من البلاد الضعيفة هي الوسيلة التي تمنعها من النمو والنهوض، وتحافظ على عملية امتصاص أموالها!
البنوك -بتبسيط شديد- هي أداة شفط الأموال من عموم الناس، لوضعها في يد القلة الغنية المترفة، فإذا بددها الأغنياء دفع الفقراء الثمن!
يتم هذا عبر منظومة معقدة، ومتخفية تحت ألفاظ رنانة براقة ومصطلحات لا يفهمها عموم الناس.. كيف ذلك؟
حين تكون الفائدة البنكية مرتفعة، فإن هذا يدفع كل من لديه بعض الأموال أن يضعها في البنك، لأن الفائدة المرتفعة ستأتي له بربح عال بلا أدنى مخاطرة.. فإذا كان لديك مبلغ من المال وتحتار هل تستثمره في مشروع يتوقع أن يأتي بربح 10% عند نهاية العام، أو أن تضعه في بنك لتحصل على نفس الفائدة عند نهاية العام.. فالاختيار الطبيعي أن تضعه في البنك لتوفر على نفسك مشقة إنشاء المشروع وتأسيسه وإدارته وتحمل مخاطره.
وكلما ارتفعت الفائدة كلما ذهب الناس لوضع أموالهم في البنوك بدلا من استثمارها في مشروعات زراعية أو صناعية أو تجارية.
من المستفيد من هذه العملية؟
المستفيد هم حيتان الأموال، كبار رجال الأعمال، أولئك الذين يستطيعون أن يقترضوا من البنوك بضمان ما لديهم من الأملاك والأموال، ويستثمرون هذه الأموال الضخمة في مشروعات ضخمة تدر عليهم أرباحا ضخمة.. فيتضاعف ثراؤهم!
فإن خسر المشروع أو أفلس رجل الأعمال فإنه يستطيع من خلال علاقاته ونفوذه أو حتى من خلال القوانين أن يؤجل دفع الديون التي عليه للبنك، أو يخفضها، (يسمونها اسما مهذبا لطيفا = "إعادة جدولة الدين") أو حتى يستطيع أن يهرب إلى خارج البلد! فإن كان ذا علاقات أقوى ونفوذ أكبر تصالح رجل الأعمال مع البنك، وظل يكرر المحاولة: الاقتراض بعد الاقتراض، والفشل بعد الفشل.. وطالما لديك من العلاقات ما يعصمك من السجن والعقوبة، فلماذا لا تتمتع بأموال الناس كيفما أحببت؟!
مجتمع رجال الأعمال يستطيع أن يساهم في تغيير القوانين أيضا، فأولئك بما لديهم من قدرة على تمويل الحملات الانتخابية وعلى تمويل الصحف والقنوات الفضائية يستطيعون صناعة القوانين على هواهم ولمصلحتهم.. وهم يستطيعون أيضا الاستفادة من علاقتهم بالحكام السياسيين.
وهكذا -عزيزي القارئ- فإن الفائدة كلما ارتفعت، كلما تعطلت الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة، وازدهرت استثمارات رجال الأعمال الضخمة.
وفي ظل عالم رأسمالي، تزداد خطورة رجال الأعمال، لأنهم فئة متميزة وتزداد تلاقيا وتشاركا وتحالفا، وتكون هي بنفسها من وسائل الهيمنة العالمية على الدول والأوطان.. ومن هنا فإن هؤلاء يعملون معا بدافع المصلحة الذاتية أو حتى بتوجيه دولي نحو التأثير السلبي في اقتصاد الدول التي تحاول التحرر من الهيمنة المالية العالمية.
وأخطر ما يتضرر به هؤلاء أن تقل الفائدة البنكية.. لأن الفائدة إذا كانت 1% أو 2% أو حتى 0% فإن هذا سيحفز من لديه المال أن يستثمره في مشروع لا أن يضعه في البنك.. وساعتها ستقل العباءة المالية للبنك، وتزداد المشروعات الصغرى والمتوسطة، فلا يجد حيتان المال أموالا يقترضونها لمشاريعهم الهائلة!
ولأن رجال الأعمال في مجملهم من أحباب الكسب السريع المضمون فإن استثماراتهم تكون في القطاعات قصيرة الأجل مضمونة الربح، كالعقارات والترفيه والسياحة ونحوها.. والنادر منهم من يخوض المغامرة في استثمارات طويلة الأجل كالصناعة والزراعة والتقنية.
ومن هنا فإن رفع الفائدة البنكية يجعل هذه القطاعات الترفيهية السياحية تزدهر، ويجعل لرجال الأعمال حصة عظيمة من السوق، وهي حصة تحت التهديد دائما إذا قرروا سحب استثماراتهم.. ولهذا يسمونها "الأموال الساخنة" تأتي سريعا وتذهب سريعا!
بينما خفض الفائدة البنكية يجعل قطاعات الصناعة الزراعة تزدهر، ويحافظ على بقاء الأموال داخل الأوطان، وتكون حصة الأموال من السوق موزعة بين عدد كبير من الشعب، وليست محصورة في عدد قليل من رجال الأعمال الوطنيين أو حتى الأجانب.
للبنوك قوانين أخرى جهنمية، فمن صلاحيات البنوك "خلق الأموال"، فالبنك هو الجهة الوحيدة التي تقرض الناس أموالا لا وجود لها، كل هذا وفقا للقوانين التي وضعها شياطين الاقتصاد لاستنزاف الشعوب.. المشكلة تظهر دائما عند الأزمة الاقتصادية.. فالأموال التي "خلقها" البنك يدفعها عموم الناس عند الأزمة، فيخسرون مدخراتهم وبيوتهم وأعمالهم، بينما رجال الأعمال الكبار مستفيدون دائما أو على الأقل محصنون من الخسارة، بل على العكس، تضطر الدولة -وفقا لقوانينها ونظامها الرأسمالي- أن تدعمهم من أموال الفقراء ليواصلوا مسيرتهم الاقتصادية كي لا تتسبب الأزمة في اختناق اقتصادي عام!
وهكذا -عزيزي القارئ- لن تجد أسعد حظا من رجل أعمال في نظام رأسمالي.. يتمتع بأموال الناس كما يحلو له، فإذا أخفق، دفع له الناس تكاليف الخسارة.
حين تحاول دولةٌ ما الخروج من نظام الهيمنة هذا، يكون أول ما تضطر إليه خفض الفائدة، لإنعاش القطاعات الصناعية والزراعية والتقنية -التي هي الاقتصاد الحقيقي- فيكون هذا ضربة قوية لمنظومة المال ورجال الأعمال الغربية التي تبدأ حربها على عملة هذا البلد!
في الإسلام المال هو مجرد صورة وانعكاس للموارد.. لا يمكن للمال أن ينمو من تلقاء نفسه.. في الرأسمالية العكس تماما.. المال يمكن أن يلد مالا، والمال يمكن أن يخلق مالا.. هذه العملية تتم في البنوك وفي البورصة!
كيف تتم هذه العملية؟
باختصار شديد ومخل: طالما أنت سياسي لطيف تمشي على خط النظام العالمي، تعمل المنظومة بشكل طبيعي في تبادل العملة الوطنية، لأن الفائدة في النهاية تنعكس على هذا النظام العالمي نفسه لمزيد من الهيمنة.
إذا حاولت التحرر، تحركت المنظومة لتحارب العملة الوطنية، مما يتسبب بأضرار اقتصادية مباشرة في القطاعات التي يتحكم بها رجال الأعمال! وهي عادة قطاعات الكسب السريع كالعقارات والسياحة والترفيه، أو القطاعات التي تعتمد على الاستيراد.
هذا ما يحدث في تركيا ببساطة شديدة.. ويحدث وسيحدث عند كل عملية تحرر من منظومة الاقتصاد العالمية الشيطانية!
وبعد هذا الكلام الكثير.. لا أدري هل نجحت في تبسيط الأمر أم لا.. قناعتي أنا، أني نجحت بنسبة 50%.. ونسأل الله التبليغ عمن ضعفت أداته ووسيلته.
للمزيد، اقرأ:
https://melhamy.blogspot.com/2018/08/blog-post.html
بارك الله فيكم، لربما وضحت الصورة الآن (لغير الاقتصادي ين) واعوام.. حتى على الأقل يكون لديهم الرد فعل المناسب المرجو منهم بعد عملية الوعي
ردحذفوالعوام*
ردحذفجزاك الله كل خير
ردحذفجزاك الله خيرا
ردحذف